صفحات ثقافية

هل بقي للمثقفين مكان التقاء؟ هل فرّقتهم السياسة؟

null
زينب مرعي
الـpub بــدلاً من المقهــى.. والمقاهــي لــم تعــد للمثقفيــن
ثلاثة، هي إجمالاً، أماكن تلاقي المثقّفين: مباني الصحف، الأمسيات الثقافيّة، والمقاهي خصوصاً. فلطالما كانت هذه الأخيرة، المكان الأعرق والأنسب لهذه اللقاءات. إذ لا يعتبر سوق عكاظ إلاّ صيغة قديمة جداً من صيغ »المقهى الثقافي«، حيث كان كبار الشعراء والمبتدئون منهم ينشدون الشعر أمام بعضهم بعضاً، ويناقشونه فيما بعد.
تطوّر السوق مع تطوّر الزمن وأصبح شكله معلّباً أكثر، وحوصرت النقــاشات المتــطايرة في الهــواء داخل جدران أربعة، تحلّقت حول طاولة واقــترنت بفنــجان قهوة. وقد شهد العالم العربي، عبر التاريخ، نشــوء الكثير من النصوص الشهيرة في المقهى، ما جــعل هذا الأخير يصطبغ بلون الثقــافة، ويصــبح مكــاناً مهماً يحــجّ إليه المثقّفون.
اليوم يدخل المقهى، بشكل عام ومعه »المقهى الثقافي«، الشرنقة من جديد، من أجل عمليّة تطوّر جديدة. فالكثير من المقاهي اندمجت مع ما يسمّى بالـPub، ولم تعد قائمتها تشتمل على القهوة وحدها، بل أضيفت إليها المشروبات الروحيّة و»المازات« التي تتــماشى مع المشروب، بالإضافة إلى أصناف خفيفة من الطــعام. تطــوّر المكان، ورافقه تطوّر في المصطلح، فاسم »المقهى الأدبي« يمكــن إطلاقه اليوم أيضاً، على النقاشات الأدبيّة التي تـدور على الإنترنت.
عاصر جيل من المثقّفين اللبنانيين عمليّة الانتقال هذه، من »الصيغة القديمة« إلى »الصيغة الحديثة«. فشهدوا إقفال مقاهي »الطراز القديم« كـ»مودكا« و»ويمبي« و»هورس شو«، وغيرها من المقاهي في منطقة الحمرا تحديداً، كما شهدوا غزوة المقاهي الجديدة.
زوال معالم معيّنة ونشوء أخرى لا بد وأن يرافقه تحوّل في مزاج الزائر.. ومزاج »صاحب البيت« أيضاً. فهل ما زال في عالم التجارة والأعمال مكان للزائر »المثقّف«؟ هل يعتبره صاحب المقهى »الحديث« ضمن لائحة أهدافه؟ وكيف يتأقلم »المثقّف«، من ناحية أخرى، مع هذا التغيير؟ وما هي المواضيع التي تطرح على الطاولات »الجديدة«؟
تجارة أم ثقافة؟
الهدف المنطقي من وراء إنشاء أي مقهى تجاري. لذلك، من الطبيعي أن يجيب ميشال رزّوق، المالك الجديد لمقهى »غرافيتي«، في منطقة الحمرا، ومن دون تردّد، إنّ الهدف من وراء شرائه هذا المقهى هو »أكيد تجاري«. والهدف التجاري يحتّم عليه أن يفهم »مزاج« المنطقة، ويعرف من هم روّادها. وعندما قرر أن يكون مقهاه في »الحمرا« رأى أن يكون لمقهاه طابع »ثقافي«، فاتّخذ له شعار »Home of talents« أو »بيت المواهب«، بينما يملك رزّوق مقاهي في مناطق أخرى، لا يدخل فيها »المثقّف« ضمن لائحة »المستهدفين«. ديكور »غرافيتي« يحاكي موضوع المواهب. ويقول رزّوق إنّه سيقوم بتعديلات جديدة على الديكور أيضاً، تجعل المقهى يشبه اسمه أكثر. ويعتبر أنّ محاولة جذب الضيف »المثقّف«، تفترض ترتيبات صغيرة معيّنة، كالموسيقى الهادئة، مثلاً، لتؤمن جواً دافئاً للقراءة أو الكتابة، كذلك مكتبة الصحف والكتب ضروريّة. ويضيف رزّوق إنّهم يعيرون الكتب لزوّار المقهى الدائمين فقط، وطبعاً، كما كلّ المقاهي »الحديثة«، يقدّم المقهى خدمة الإنترنت مجاناً للزوّار. وليكون لشعار المقهى معنى، يقيم »غرافيتي« كلّ سبت »ليلة المواهب«، يمكن أن يشارك فيها كل من لديه موهبة ما، يحبّ أن يعرضها أمام روّاد هذا المقهى. كما يقيم المقهى كل ثلاثاء، ليلة عزف على البيانو. ويبدو أنّ العنوان الثقافي جلب لرزّوق زوّاراً من كلّ الفئات والأعمار. فبالنسبة إليه، يبقى العنوان الثقافي أفضل من ذلك السياسي أو الديني، لذلك لا يدخّل مقهاه بأي من هذه الدوّامات اللبنانيّة، لا من قريب ولا من بعيد.
في المقابل يشكّل مقهى »تاء مربوطة« (ة) ظاهرة غريبة بعض الشيء، لكونه مقهىً ذا هدف ثقافي بحت. ففكرة بلال الأمين وعبد الرحمن زعزع، كانت في البداية، إنشاء مكان لهما يجتمعان فيه مع أصدقائهما الناشطين في المنظمات غير الحكوميّة، ضدّ حرب العراق والعولمة ولمناصرة القضيّة الفلسطينية. وكانت الفكرة أن يكون في مكان التجمّع مكتبة أوّلاً، ثم مقهى بسيط لتلبية حاجات المجتمعين ليس أكثر، كما يقول بلال الأمين. وهكذا تمّ افتتاح »ة«، مباشرةً، بعد حرب تموز ،٢٠٠٦ لتكون مركزاً للإغاثة ومكاناً يتجمّع فيه الشباب المتطوّعون للمساعدة. فيشرح الأمين أنّ المشروع كان في البداية بسيطاً جداً، بثلاثة أو أربعة موظّفين، والديكور ليس متكلّفاً أيضاً، يجمع بين القديم »القش« والحديث »البار«. لكن المفاجأة، بحسب الأمين، كانت في حجم الإقبال على الجزء المخصّص بالمقهى في المكان، ما استدعى منهما ضرورة الاهتمام به أكثر فأكثر، حتى اتنقلا بسرعة من أربعة موظفين إلى ١٤ موظفاً، مع ما يترتّب على الأمر من مسؤوليّة تجاريّة لم تكن في الحسبان. فيبدو الفرق جليّاً بين خبرة ميشال رزّوق التجارية وتخبّط الأمين في هذا العالم الغريب عنه.
في المقهيين لائحة تتضمّن القهوة والشاي والمشروبات الروحيّة والطعام. فرزّوق يقدّم كل ما يحتاج إليه الزبون »العصري« في المقهى، والأمين يعرف عادة ما يطلبه أصدقاؤه في المقاهي الأخرى، فيحاول تلبية طلباتهم في لائحته. واللافت أنّه في منطقة غير الحمرا، كانت لتكون »النرجيلة« من أهمّ متطلّبات الزائر »العصري«، إلاّ أنّ سمة المنطقة لا تسمح بهذه الإضافة في المقاهي. فجوّ اللامبالاة الذي تشيعه النرجيلة لا يتناسب مع طبيعة زوّارها. كذلك يقدّم المالكان مقهييهما للعروض الفنّية، كما تفعل مقاه أخرى أيضاً، فأي فنان جديد يمكن أن يعرض لوحاته، مثلاً، من دون مقابل، في أي من المقهيين. لكن الأمر يختلف في »غرافيتي«، عندما يبيع الفنان أي لوحة مثلاً، فيترتب عليه دفع نسبة من المبلغ، تحدّد مع المالك مسبقاً. ولكلٍّ طريقته وحقّه في ضمان الاستمراريّة لمقهاه.
قديم وجديد
يعبّر المثقّفون ومن الأجيال كافة تقريباً عن اشتياقهم للمقهى القديم، الذي كان يناسبهم أكثر، بحسب قولهم. فكانوا عندما يتلاقون فيه مع »الشلّة«، يشعرون بأنّهم يمتلكون المكان، أمّا في المقاهي الجديدة، المزروعة على كل ناصية طريق، يشعرون بأنهم ضيوف كغيرهم من روّاد هذه المقاهي. فيقول الشاعر طارق ناصر الدين، الذي يجتمع مع أصدقائه في آخر »قلعتين« معمّرتين من الزمن السابق، »الكافيه دو باري« والـ»سيتي كافيه«، إنّهم كانوا يلتقون في السابق في مقهى »لا روندا« في وسط البلد، لكن سرعان ما منعتهم الحرب الأهلية من ارتياد ذاك المقهى. ثم تعرّفوا على »مودكا« و»ويمبي«، ومع إقفالهما يقول ناصر الدين: »بدأنا نشعر بأنّهم يريدون حرماننا من الحمرا أيضاً، وكأن المقصود تدمير إحدى مميّزات لبنان، بكونه ملتقى ثقافياً لأحرار العرب. إلاّ أنّ رائحة الحمرا دخلت في مساماتنا ومن الصعب جداً أن نستبدلها. فهي منطقة تمثّل التنوّع الطائفي اللبناني«. ولا يرى ناصر الدين أنّ المقاهي الحديثة تضاهي تلك القديمة، التي كانت »ملحقة ببيوتهم«، بل هي، بحسب رأيه، مصمّمة خصيصاً كي يبتعد عنها المثقّفون، فلا أمكنتها فسيحة ولا مقاعدها مريحة ولا أصحابها ممّن يعيرون الثقافة أيّ اهتمام. ويضيف أنّ طاولاتها معدّة لاستقبال ثلاثة أو أربعة أشخاص على الأكثر، فكيف يمكنها استيعاب جمع من عشرين شخصاً، هي »الشلّة« التي ينتمي إليها ناصر الدين؟
الشاعرة لوركا سبيتي، تقول إنّها لا ترتاد، اليوم، المقاهي كثيراً. فهي في بعض الليالي تزور حانة »جدل بيزنطي«، لكنّها كانت من روّاد »مودكا« و»ويمبي«. وتضيف أنّ تلك الأماكن كانت تشبهها أكثر من هذه الموجودة اليوم. فالمقاهي القديمة كانت أكثر كلاسيكيّة، برأيها، و»كانت مخلصة لزائرها، كما كان هو مخلصاً لها، ففي الأمر مبادئ«. أمّا المقاهي الحديثة، فتجدها غريبة عنها بعض الشيء، وبعيدة عن الإنسان الشرقي. كما تجد فكرة الأكل فيها مبالغ بها بعض الشيء، لأنّ لا أحد يقصد المقهى ليأكل. وتضيف سبيتي أنّ القهوة التي تقدّمها المقاهي الحديثة، لها كلّها الطعم ذاته، ولو اختلفت أســماؤها. لكنها مع ذلك ترى فيها بعض النقاط الجيدة، كأنّــها مــثلاً تقدّم لائحة متنوّعة من المشـروبات التي لا تجـعلك تنتــقل من مقهى إلى آخر لتغيير طلبك.
الباحث غسان مراد يرتاد المقاهي التي اعتاد لقاء أصدقائه فيها. ففي الصباح يرتاد »كافيه دو باري«، الذي يشارف اليوم على الإقفال، وفي المساء يتنقّل بين »كوستا«، »بارومتر« و»ريغوستو«. ومع أنّه يتنقّل بين مقاهي الحمرا إلاّ أنّه يجد أنّ »كافيه دو باري« وحده ما زال يحمل فعلياً لواء المثقّفين.
لا يحيد رأي الصحافي والكاتب ابراهيم سلامة قيد أنملة عن آراء أصدقائه، فهو اختار، اليوم، »كوستا« مقهى له، لأنّه تعوّد أن يجلس سابقاً في هذا المكان بالذات، ولكنه كان يعرف وقتها باسم »هــورس شو«. ويقول سلامة إنّ الفرق بين »هورس شــو« و»كوسـتا« هو الفــرق بــين البناء القديم وأبنية ما بعد الحرب، ويضيف »أنا شخصياً أفضّل البناء القديم. فمن قبل كان البلد أفضل وروّاد المقاهي أفضل«.
أمّا الكاتــب والفنان غازي قــهوجي فاتّخذ، منذ زمن طويل، من »سيتي كافيــه« معقلاً له، في الصباح والمساء. فهو، بحسب قوله، لا ينســجم مع صيغة المقــاهي الحديثة، ولا يحبّ ارتياد الـ»Pub«. وهو يخــتار مقــاهيه متطلعاً إلى طبيعة المكان والأشخاص الذيــن يلتــقي بهم هناك، »فأنا وأصدقــائي نرتــاد هذا المقهى، حتى أنّني ألتقي تلامذتي فيه، فنكمل الصفّ أحـياناً في »سيتي كافيه«.
من على طاولة أخرى، تراقب الناقدة العراقية فاطمة المحسن المقاهي اللبنانيّة وروّادها. فبالرغم من أنّها تعيش في لبنان منذ فترة، إلاّ أنّها لا تشعر بعد، بأنّه مرحّب بها على كلّ الطاولات. وتقول »ربما لأنني لست لبنانية، لا أشعر بأنّه يمكنني أن أتقرّب منهم بسرعة«. لكنها تضيف أنّ بيروت تعجّ بالأماكن الثقافيّة، وأجمل ما فيها هو أنّك تلتقي الأصدقاء دائماً بالصدفة، فكلّهم يتجمّعون في الحمرا، وإذا ما افتقدت أحدهم ستجده حتماً »صدفة« هناك. وترى أنّ الشباب المثقّف يلتقي في معظم الأحيان في »ستارباكس« أو »كوستا« وجيل الستينيات والسبعينيات يلتقون في »كافيه دو باري«. أمّا عنها شخصياً، فتقول إنّها تزور جميع مقاهي الحمرا تقريباً، لكنها تعتبر أنّ »ة«، مثلاً، مكان جميل للّقاءات، على عكس »جدل بيزنطي« الذي أحبّته بدايةً ثمّ انزعجت من ضيق مساحته. وتضيف المحسن أنّ صيغة الـPub هي من بين الأشياء الأخرى الجميلة في لبنان، والتي تسمح لك بأن تسهر سهرة ذات طابع أوروبي.
النقاشات
تقودنا الحشريّة إلى التساؤل عن المواضيع التي يتداولها مثقّفونا، إذا ما اجتمعوا على طاولة واحدة. فهل تكون هذه فرصة لتصادر النميمة أحاديثهم؟ أم هل اجتاحت »سَكرة« السياسة عقولهم وأطاحت بالثقافة من على طاولاتهم، وفرّقتها كما يشاع؟ أم أنّه ما زال بإمكانهم إعطاء صورة أكثر إشراقاً عن أنفسهم؟
يقول غسان مراد، إنّه في جلساته مع الشعراء والنقّاد، يتكلّمون في المواضيع التي تهمّ مجال عمله ألا وهو علوم اللغة، ويتطرّقون إلى موضوع الشعر أيضاً. ومن الممكن ان يتحدّثوا بالأمور العامة واليوميّة، ويتمّ التطرّق، طبعاً، بعدها إلى الوضع السياسي. إلاّ أنّ مراد يقول إنّ السياسة لا تفرّقهم، إنّما على العكس، برأيه هي تجمعهم، فيقول: »لو ما كانوا مختلفين ما كانوا تجمــّعوا«، ويضيف أنّهم لم يتشاجروا يوماً بسبب السياسة بل غالباً ما يحوّلونها إلى موضوع سخرية مسلٍّ، ففي النهاية »لا أحد منّا له صلة مباشرة بالعالم السياسي«. ابراهــيم سلامة يرى أيضاً أنّ الموضوع السياسي ليس بالمشــكلة على الطاولة التي يجتمع عليها مع أصــدقائه. بل هم حتى لا يتكلّمون إلاّ بنسبة ٥ بالمئة، بحســب قوله، في الموضوع، »فالبلد ليس فيه سياسة. لمَ إيلاؤها الكثير من الاهتمام إذاً؟«. ويضيف سلامة أنّهم أحياناً يتــناولون أخبار العالم كلّه على طاولتهم أو يتكلّمون عن كتاب جديد أو لوحة فنّية أو مقالة، وأحياناً أخرى يسود الصمت. ويضيف أنّ تغيّر ظروف البلد ومعها منطقة الحمرا أثّرت في »قاموسنا«. فبالنسبة إليه »من قبل لم يكن أحد يتطرّق إلى موضوع الطوائف، أمّا اليوم فأصبحنا نتكلّم في الموضوع من دون أي شعور بالخجل. حتى أنّ تقدّمنا بالعمر يغيّر في مواضيع أحاديثنا. فاليوم لم نعد نتناول موضوع »الستّات«، مثلاً، كما كنّا نفعل من قبل«.
أمّا غازي قهوجي فيرى أنّه غالباً ما ينفرد أصحاب الاختصاص الواحد على طاولة واحدة، وقد ينشأ حوار جماعي، يجمع الطاولات، إذا ما تناولوا موضوعاً فنّياً. لكنه يقرّ بأنّ الحديث السياسي أصبح يسيطر على جلسات المثقّفين، هذه الأيام، مع خروقات بسيطة لبعض المواضيع الثقافيّة. لكنّه في الوقت ذاته لا يرى أنّهم دخلوا »البازار« السياسي بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهم لا يسمحون للسياسة بتفريقهم، وإلاّ فالأجدى بهم أن ينفضوا عن أنفسهم صفة »المثقّف«. ويضيف »نحن نمرّ بعصر من الانحطاط وكلّ يعرض الصورة الأفضل للبلد بحسب رؤيته للأمور. ومظاهر الانحطاط تعدّت السياسة إلى الفنّ«. فنحن، بحسب قهوجي نمرّ بفترة من الركاكة والضحالة في الموسيقى والكلام المغنّى والأداء التافه. ويجب العودة والتأسيس للفنون من الصفر، برأي قهوجي. ويضيف: »لا تستطيع أيّة مسرحية أو أيّة قصيدة، اليوم، إحداث انقلاب في المجتمع، ولا يستطيع أيّ فيلم سينمائي أن يغيّر نهجاً. وبالتالي إنّ الرهان على إمكانية الثقافة في تغيير الواقع، هو رهان طوباوي«.
بالنسبة للشاعر ناصر الدين ففي المقهى الذي يرتاده، هناك دوماً ركن خاص بالمثقّفين، وهو بمثابة ندوة يوميّة تتخلّلها جميع المواضيع تقريباً، من الأمور اليوميّة، الشخصيّة، البسيطة وأجواء المرح، إلى مناقشة أكثر القضايا الثقافية معاصرة والأمور السياسية. »فلا يمكن أن يلتئم جمع في لبنان، من دون أن تدخل فيه السياسة«، بحسب قول ناصر الدين. ويضيف أنّ لكلّ مثقّف آراءه وانتماءاته، وهي عديدة ومتناقضة، وغالباً ما تشبه الصورة العامة للبلاد، لكن الفارق بين تناقضات المثقّفين وتناقضات السياسيين، بحسب ناصر الدين، هي الفرق بين الكلمة والرصاصة. ويضيف: »قد يبلغ أحياناً الخلاف أقصى درجات الحدّة، وتتخلّله مشادات أشبه بالشتائم، لكن ذلك لا يتعدّى أبداً الكلام ونعود في اليوم الثاني وقد نسينا هذه المشادات، لأنّ الطابع الغالب على هؤلاء المثقّفين هو الطابع الاستقلالي عن الحركات السياسية والطائفيّة. وبريي أأيي إنّ أيّ إنسان من أجل أن يستحقّ لقب »مثقّف« عليه أن يخرج من طائفيّته ومذهبيّته، حتى ولو كانت هذه الطائفة على حق، وهي غالباً ما لا تكون كذلك«.
أمّا لوركا سبيتي فلا ترى الأمر على القدر نفسه من الإيجابيّة. بل تقول إنّها شاعرة بالانقسام الحاصل بين المثقّفين، على الخلفيّة السياسية. فهناك، برأيها، تحدّيات تنشأ بينهم وأصوات تعلو، وكلّ واحد منهم يحمل لواء الجريدة التي يعمل فيها، مثلاً. إلاّ أنّها تقول إنّها شخصياً تفضّل عدم التدخّل في الحديث السياسي، لأنّ أكثر زملائها الشعراء لا يشاطرونها الرأي السياسي، وهي ترى أنّه من المحتمل جداً أن يفرّق الموضوع بينهم. رغم ذلك ترى أنّ الجميع ينسى، ليلاً، السياسة ويلجؤون إلى »الشعر الغزلي« بينهم. وسبيتي مثل ابراهيم سلامة، ترى أنّ تغيّر معالم المنطقة يؤثّر في نوعيّة أحاديثهم. فعندما ترى الـ»فيرو مودا«، مثلاً، مكان »مودكا« تنخرط لا شعورياً بحديث عن الموضة والأزياء، »فالعولمة تحوّلنا إلى أشخاص سطحيين«، كما تقول.
فاطمة المحسن ترى أنّ أحاديث المثقّفين، حالياً، سياسية بمعظمها. فالكلّ يتحدّث، مثلاً، عن حرب لبنان المقبلة، ونادراً ما يتحوّلون إلى المواضيع الفنّية والأدبيّة. وترى المحسن أنّ كلّ مثقّف ينتمي إلى فريق صغير، إلى دائرة ضيّقة لديها الكود السرّي خاصّتها. فتعتبر أنّ كلّ فريق يتّفق على وقت معيّن يحضر فيه إلى المقهى، ليعاود النقاش، الذي كان قد بدأه البارحة. وتقول المحسن: »رغم أنّ لبنان بلد منفتح وهو أقرب إلى الغرب منه إلى الشرق، إلاّ أنّ اللبنانيين ميّالون إلى الأفكار الراديكاليّة، بل هم ليسوا ببعيدين أبداً عن راديكاليّة السوريين، مثلاً. وعلى كلّ حال المثقّفون هنا يشكّلون كتلة، ككلّ مثقّفي العالم، منقسمة على الصعيد الاجتماعي والسياسي، وتحب النميمة والحسد«.
دور المقهى
هل ما زال المقهى اليوم، ينتظر من أحد الكتّاب الذين يرتادونه نصاً يدخله التاريخ؟ أم أنّ المقهى، مع كلّ هذه الضوضاء التي اقتحمته، لم يعد أصلاً مكاناً محبّذاً للكتابة، بل أصبح مكاناً للتسامر فقط؟
يؤكّد غسان مراد المقولة الأخيرة، فالمقهى اليوم، بالنسبة إليه، مكان للقاء الأصدقاء وللنقاش، فهو كان يكتب ويقرأ فيه، من قبل، أمّا اليوم فأصبح يفضّل أن يكتب في بيته. كذلك بالنسبة إلى ابراهيم سلامة، فإنّ المقهى، بحسب رأيه، وجد لنشرب فيه القهوة ونتسلّى فيه بالأحاديث والناس المارّين أمامنا، و»نغيّر جوّ«، ويضيف أن ليس لديه همّ الكتابة في المقهى.
تعتبر لوركا سبيتي أنّ الرجال يرتادون المقهى أكثر من النساء، لأنّ الأخيرات، برأيها، يبحثن دوماً عن شيء يشغلهنّ، أمّا الرجال فبإمكانهم الاسترسال لهذه المتعة. لكنّها تحبّ فكرة الانتقال من البيت إلى المقهى للتسليّة وكذلك للكتابة والقراءة، فالضجّة فيه لا تزعجها البتّة. أمّا بالنسبة لطارق ناصر الدين، فيجب أن يكون للكاتب مقهيان: الأول يلتقي به الأصدقاء، والثاني يقصده للكتابة ويبقي اسمه سرّاً يكتمه عن »الشلّة«. كما يضيف أنّ هذه التجمّعات أعادت إحياء نوع من الشعر الذي كان قد مات منذ ألف سنة، وهو »الإخوانيات«، حيث يتبادل مع أصدقائه قصائد يمدحون أو يهجون فيها بعضهم بعضاً، على سبيل التسليّة. أمّا بالنسبة إلى غازي قهوجي، فيبقى المقهى مكاناً مهماً للكتابة والقراءة والعمل، رغم الضجة فيه أحياناً. لكنه في الوقت ذاته يشكّل له الجلوس فيه »متعة شخصيّة، إضافة إلى أنّ حركة الناس فيه، تضفي على شخصيتي عمقاً أكبر«.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى