كيف يمارس الفلاسفة الجنس ؟
راشيل عيد
ثمة سؤال نقله الكاتب عبدالله كرمون عن مجلة “لير” الفرنسية هو: “كيف يمارس الفلاسفة الجنس”؟ سؤال يستدعي التأمل وخصوصا ان الفلاسفة اكثر من نظر في الجنس، ولكن كثيرا ما ابتعدوا عن الزواج. فمن أين نبدأ في هذا المجال، من الفلسفة ام من الواقع، من الجنس ام من علاقة الفيلسوف بالمرأة، ام من علاقة المرأة بمنظر الفلسفة؟ قال فرويد يوما إنه على الرغم من سنواته الطوال في دراسة “الروح الأنثوية” فإنه لا يزال عاجزا عن معرفة ماذا تريد النساء بالضبط! ويعتبر أيضا ان الحياة الجنسية ليست نهرا جامدا وإنما هي بالعكس من ذلك عروة كل صراعات الحياة النفسية! ما قاله فرويد ندركه جميعا، ونعيشه، ونفهمه من خلال علاقة نيتشه بالنساء، او علاقة الروسية لو اندرياس سالومي بالشاعر ريلكه والفيلسوف نيتشه، او علاقة غالا بالرسام سلفادور دالي والشاعر بول ايلوار. امر غريب ان يفهم المرء “الروح الانثوية” سواء أكانت المرأة متحررة ام مقيدة بالنقاب والتشادور ونحوهما.
قال ميشال فوكو: “تشكل اللذة غاية بذاتها، فهي لا تخضع لا للمتعة ولا للأخلاق ولا لأي حقيقة علمية”. قد يصطدم بعضهم بأن فوكو كان مثليا. هذه هي حال فيلسوفنا، فقد كان الجنس بالنسبة اليه متطابقا مع الشعارات الثورية التي رفعت في أيار 1968، وفي هذه الأجواء تعالت الصيحات الأنثوية أيضا مشكِّكةً بالمعايير الخلقية وداعيةً الى حق المرأة في تملك جسدها، وحق المرأة في رفض الإنجاب، وحق المرأة في رفض الرضاع والأمومة، وحق المرأة في عدم تربية أولادها، وحق المرأة في إطلاق رغباتها الجنسية، بل وحق المرأة في الشذوذ والزواج المثلي. وحدث ما سمّي بـ”الثورة الجنسية”، حيث أصبح الابن يسوق عشيقته إلى بيت أبيه، والبنت تصحب حبيبها إلى غرفة نومها أمام والديها. ومن قبل، دعا افلاطون في جمهوريته إلى: “أن نساء محاربينا يجب أن يكنّ مشاعاً للجميع، فليس لواحدة منهن أن تقيم تحت سقف واحد مع رجل في عينه منهم، وليكن الأطفال أيضاً مشاعاً بحيث لا يعرف الأب ابنه، ولا الابن أباه”. يقول بعض الباحثين إن أفلاطون كان مشجعا للشذوذ الجنسي أو الزواج المثلي الذي كان شائعا في المجتمع اليوناني. وجاءت الشيوعية لكي تنادي بالمشاعية والإباحية ولكي تعتبر العمل الجنسي في مذهبها لا يعدو أن يكون “كشربة ماء”، لكنها تعتبرها مسألة شخصية جداً، على قول المفكر الألماني أوغست بيبل الذي يرى أن “إشباع الغريزة الجنسية مسألة شخصية تماماً شأنها شأن إشباع أي غريزة أخرى، فلا أحد يحاسب عليها أمام الآخرين”.
لكن كيف مارس الفلاسفة الجنس؟ كيف تتحمل الفتاة “ثقل” الفلاسفة، وخصوصا ان ثمة عبارة ثاقبة هي مثار جدال بالطبع، تقول “المرأة التي تفكر، كالشاب الذي يضع احمر شفاه”. لنقل ان معظم الفلاسفة بقوا عازبين. الجميع في القرن السابع عشر بلا استثناء: ديكارت، سبينوزا، باسكال، لايبنيتز، مالبرانش، غاسندي، وهوبس. البعض فقط حاول المغامرة الزوجية في القرن الثامن عشر، ديدرو مثلا، لكن ليس هيوم او فولتير او كانط. وفي القرن التاسع عشر تزوج كل من هيغل وفيشتيه وشيلينغ وكومت وماركس، لكن ليس شوبنهاور او نيتشه ولا كيركيغارد. من يقرأ سيرة نيتشه سيجد فيها كثيراً من التناقضات المثيرة للدهشة، من مثل ما كتبه عن الحب والزواج من جانب، واندفاعه إلى الحب بسرعة شديدة من جانب آخر. فمن آرائه في المرأة يقول: “إن المساواة بين النساء والرجال مستحيلة، لأن الحرب بينهما أبدية، ولن يتحقق السلام بينهما إلا بانتصار أحدهما”. ويضيف: “من تكون المرأة بالنسبة إلى الرجل؟ إنها لعبة خطيرة ويجب الاعتراف في النهاية بالضرورة التي لا مهرب منها: وهي أن يكون الرجال للحرب، وتكون النساء للترفيه عن المحاربين وكل ما عدا ذلك سخافة”. لكن هذا الفيلسوف وقع في الحب عندما ظهرت في حياته شابة جميلة مثقفة (نقصد سالومي) فاندفع الفيلسوف في حبها، وطلب منها الزواج. لكن سالومي رفضته على رغم شهرته وعبّرت عن ذلك الرفض برسالة قالت فيها: أتعلم لماذا رفضت الزواج منك؟ لأن عقيدة القوة التي تدعو إليها تقتلني وتخيفني، ولقد كنت أعتقد أنك إذا كنت تمثل القوة فأنا أمثل الحب. وأن في وسعي أن أكمل النقص الملحوظ في قوتك، بحيث نحقق معاً الوحدة المثالية بين القوة والحب. أما المرأة في نظر الفيلسوف شوبنهاور فهي “قد تملك أحيانا مقدرة فائقة، ولكنها لن تستطيع أن تكون عبقرية، لأنها لا تقدر على الخروج من ذاتها، فهي ميالة إلى النظر إلى الأمور من خلال عواطفها ورغباتها الشخصية”. وثمة من يقول إن الفلاسفة أمثال شوبنهاور وديكارت وكونفوشيوس وغيرهم معادون للزواج والحب، ومن عدائهم هذا نشأت فلسفتهم. إنهم منهمكون في خلق العالم المثالي وذلك لحاجتهم إلى التعويض عن الفشل والخيبة في واقعهم. هذا كله له جذوره في الحرمان من الزواج. والحال أن الكثير من الفاشلين في الزواج يبررون فشلهم بأسباب يردّونها إلى الجنس الآخر.
على الرغم مما نعرفه عن كتابات ديدرو التي تنزع إلى نوع من الفجورية، فإن حياة الرجل تختلف تماما عما تنطوي عليه كتاباته من هذه الناحية، سواء وخصوصا عدم اهتمامه بزوجته نانيت، نظرا الى تخلفه عن البيت العائلي بشكل متكرر. كان لكانط تجربته الخاصة في علاقته بالجنس والمرأة، يقول: “سنثبت بصعوبة ان الشخصيات التي عمّرت كانت في اكثر الاوقات متزوّجة”. ينبغي الاختيار اذاً، إما العيش طويلا وإما الزواج الذي هو انتحار بطيء. لم يحب كانط يوما، وقد بقي طول حياته عازبا. بالنسبة اليه فإن العيش بلا امرأة هو زهد، والعيش معها زهد ايضاً. وفي ما يخص العازبين فهنا يطرح كانط مسألة الاستمناء الذي يعتبره أخطر من الانتحار ويربأ تسميته بالاسم، داعياً الى حماية المراهقين منه بزرع فكرة انه يجلب العجز ويبدد البدن ويفسد الذكاء، وإن كانت مساحة للاختيار بين الاستمناء والاتصال بشخص من الجنس الآخر فلا حرج عنده. كان كانط متزهدا في علاقته بالنساء، اما ديوجين فينتمي الى تلك الفئة من الفلاسفة المتشردين الذين يحيون ما يسميه الناس “حياة الكلاب”. وهو نفسه المعروف بلقب ديوجين الكلبي. كان يتسكع في أزقة أثينا وساحاتها وفي غيرها من المدن اليونانية، متسخا ومرتديا أسمالا بالية، متخذا برميلا سريره من دون أن يبدي أي حاجة الى غيره. حتى أن الإسكندر الأكبر جاءه يوما واقترح عليه أن يسأله حاجته، غير أن ديوجين لم يأل جهدا إذ صرخ في وجه الامبراطور: تنحَّ فإنك تغطي بظلك الشمس عن وجهي! وعلى الرغم من أن ديوجين هذا معروف بقوته وفورانه فإنه بطل الاستمناء بلا مراء. ذلك أنه يرى في الزواج ميدانا لتعقيدات دائمة، مفضلاً أن يدفع الى محترفة كي يلبي رغبته.
كُتب على جيني ماركس أن تتزوج من كارل ماركس على رغم اختلاف حياتهما، فهي من أسرة عريقة وغنية، أما كارل فكان فقيراً معدماً من أسرة كادحة حيث كان يضطر إلى سرقة الأواني الفضية ليبيعها فى الأسواق. لكنه كان في الوقت نفسه يتميز بنظرة ثاقبة في دراسة صراع الطبقات، وجعله سحر نظراته وتأثيره على جيني في منزلة رفيعة عندها. كانت تقبل منه ما يصدر عنه وتحملت فى سبيله الفقر المدقع والإذلال ولم يكن ذلك من أجل نصرة البروليتاريا. وفي فترة غياب زوجته ضاجع الخادمة وانجب منها ولدا يقال انه اوكل به الى صديقه انغلز.
هايدغر وحنة اليهودية
ماركس ليس احسن من هايدغر (المقرب من النازية) الذي تزوج بإلفريدة بيتري التي رعت كما يلزم واجبات البيت الزوجية. وانجب منها، كما انجبت هي من سواه، وهي في عصمته، لكنه سرعان ما ملّ عشرتها ليمضي حياته متنقلاً بين تلميذاته، وغير تلميذاته، وليصنفه دارسوه اليوم على أنه فيلسوف عظيم، وزير نساء من الطراز الأول. نشرت “دار شبيغل” الألمانية تحقيقاً موسعاً عن هايدغر تحدثت خلاله عن نسائه حديثاً مستفيضاً، ومن هؤلاء النساء الباحثة الفلسفية اليهودية حنة أرندت التي كانت إحدى تلميذاته. وتقول المجلة إن زوجة هايدغر، الفريدة، اضطرت للاعتراف بهذه العشيقة وللتعايش معها.
كتب هايدغر الى الفريدة: “تعالي أوحي واستريحي فوق قلبي، بعمق شديد واستكانة أبدية. أريد أن أنظر إلى عينيك الممتلئتين بالحكايات. هل تملك يداي القداسة الكافية لتطوّق رجفات يديك؟ هل روحي التي ضربت بالسياط خلال كل هذه الظلال من الشك والتساؤل، قادرة على أن تضع لك تابوتاً يحتفظ بحبك إلى الأبد؟ سامحي صغيرك الشاب، وأعذري عدم هدوئي أيام الآحاد”! لعل الكلمة الأدق هي أن هايدغر وفّق بين عذاب المصطلحات والمفاهيم الفلسفية، وبين انشغالات القلب اليومية العاطفية. وقد دام هذا التوتر في حياته أكثر من نصف قرن، حتى موته عام 1976.
خيانة الفريدة لهايدغر، وإن خلّفت ابناً للفيلسوف يعيش في بيته، وليس من صلبه، لم تكن أكثر من قطرة في بحر خيانة هايدغر لزوجته. ويبدو أنه هو الذي بدأ بمسلسل الخيانة وأن زوجته لحقت به في ما بعد، بدليل أنها كتبت إليه مرة تقول: “كيف مزقت ذاتي التي كان عليها أن تتحمل هذه الاساءات اللاإنسانية بسبب اخلاصها لك. وذلك ليس لمرة واحدة فقط، بل لمرات عديدة متكررة طوال أربعة عقود. هل في استطاعة إنسان، إن لم يكن شجراً أو سطحياً، تحمّل هذا؟ دائماً تقول وتكتب أنك مخلص لي ومرتبط بي. ما هذا الرباط؟ إنه ليس الحب، وإنها ليست الثقة. أنت تبحث عن وطن عند النساء الأخريات. يا مارتن! هل تعرف ماذا يوجد في داخلي؟ وهل تدرك كم هي موحشة، جامدة، ومثلجة، أعماقي؟ حنه أرندت التي سيكون لها شأن كبير في ما بعد، أعجبت بهايدغر هي أيضا واعتبرته “ملكا سريا للفكر”. على رغم أنه كان يكبرها بسبعة عشر عاماً، ومتزوجاً وله طفلان، فذلك لم يؤثر على خيارها الاستمرار بالعلاقة، وهذا على عكس هايدغر، الذي مع الوقت بدأ يشعر بالخوف على سمعته وعلى المجازفة بفقدان مقعده التدريسي وصعوده الوظيفي في الجامعة.
عجز سارتر
سارتر كان اكثر وضوحا في أموره الجنسية، صاحب شهرة في هذا المجال لكنه ليس صاحب فعل. يشاع عنه انه كان يسكن في المدينة وينجب طفلا ويتركه، وهو يقول إنه لا يجد حرجا في حصوله على انتصاب سريع، غير أنه لا يشعر تاليا بلذة حقيقية. هكذا تنتهي اللعبة من سارتر الذي كان يكثر من العشيقات. سيمون دو بوفوار هي عشيقة سارتر التي امضت حياتها كلها معه من دون عقد زواج تطبيقاً عملياً لمبادئ الوجودية التي تدعو إلى التحرر من كل القيود المتوارثة والقيم الأخلاقية. كتبت أن سارتر رجل شديد الحساسية ونشيط في كل شيء إلا في السرير! هو يعترف بنفسه بأنه يفضل كثيرا أن يداعب امرأة أكثر من أن يلج فيها. ثمة مفارقة في تلك العلاقة بين سارتر وسيمون. هي التي تحب ان تحمل المكنسة في البيت، وهي التي تحلم بأن تكون امرأة شرقية عربية وتنادي بالتحرر، وهي التي تغار من عشيقاته وفي الوقت نفسه تعمل على تزويده، حيناً آخر، محبوبات جديدات، بعضهن في سن المراهقة. ومع أن المرء قد يظنّ أن سيمون دو بوفوار كانت رفيقة سارتر، لا رفيقة أي شخص آخر، إلا أن الدراسات تؤكد أن سيمون كانت مثله تنتقل من عشيق إلى آخر، وإن كان سارتر هو العشيق الرسمي. نشرت “لو نوفيل اوبسرفاتور” صورة عارية للكاتبة من خلف، ولخصت “لو بوان” سيرة جديدة لدانييل ساليناف يبدو فيها جان بول سارتر طاغياً، غيوراً، بارداً جنسياً وذكراً تقليدياً. تقول ساليناف في “قندس الحرب” إن دو بوفوار شاءت ان تكون ثورية في حياتها العامة والخاصة، لكن سارتر أقام علاقات أخفاها عنها وسلك كزوج بورجوازي تقليدي.
تلك هي اللذة، تلك هي الروح الانثوية التي لا نفهمها.