حنا مينه… حارس الشقاء والأمل
صدر عن الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية /2008/. وضمن سلسلة أعلام الأدب السوري، كتاب «حنا مينة» حارس الشقاء والأمل. لمؤلفه نذير جعفر.
والذي ضمّنه السيرة الذاتية والإبداعية للروائي حنا مينه، ومقدمة تتوقف عند عالمه الروائي وسماته العامة، ومجموعة من الحوارات، والشهادات لبعض رموز الأدب السوري والعربي، ومختارات من إبداعاته.
ويستمد العنوان دلالاته من حياة الشقاء والفقر التي عاشها حنا مينه منذ مولده عام /1924 / في مدينة اللاذقية، ثم طفولته التي عاشها متنقلاً بين السويدية وريف ارسوز واسكندرونة، وتنقله بين بيروت ودمشق بحثاً عن عمل من اجل لقمة العيش، حيث عمل حلاقاً منذ أوائل الأربعينيات، ومصلحاً للدراجات، وبائعاً في صيدلية، وبحاراً يعارك الأمواج، وعاملاً في الميناء. وهذه الظروف لم تسمح له باستكمال تحصيله العلمي بعد الشهادة الابتدائية. ولم يكن يأبه للشهادات والألقاب الطنانة، لأنه أدرك أن (جنيات البحر) ستعوضه عن جامعات الدنيا وحذلقات المثقفين وصراعاتهم التنافسية الخائبة.
شارك في النضال ضد الفرنسيين، واعتقل وسجن مرات عديدة. وأسس مع عدد من الكتاب الوطنيين والديمقراطيين مثل شوقي بغدادي وفاتح المدرس وسعيد حورانية وصلاح دهني وحسيب كيالي وآخرين، رابطة الكتاب السوريين عام/1951/. والتي تحولت إلى رابطة الكتاب العرب عام /1954/. وتعرض للنفي منذ /1959/ لمدة عشر سنوات، عاد بعدها إلى سورية ليشارك في تأسيس اتحاد الكتاب العرب عام /1969/.
كتب حنا مينة خمسا وثلاثين رواية، إضافة إلى عدد من المجموعات القصصية والدراسات الأدبية، والتي عبر من خلالها عن الأمل بقيام عالم تسوده الحرية والعدالة، وترجمت أعماله إلى سبع عشرة لغة في العالم، وحاز عدة جوائز عربية وعالمية منها : جائزة سلطان العويس، وجائزة الكتاب العربي، إضافة إلى وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام /2005/.
ويعد حنا مينه، بغنى وتفرد تجربته، وتنوع نتاجاته ومساراته الحياتية والأدبية، نجيب محفوظ الرواية السورية، وحجر الزاوية في عمارتها، والأب الروحي لسلالتها، والشراع الذي أوصلها إلى مصاف العالمية، على حدّ تعبير المؤلف. واستطاع بروايتيه «المصابيح الزرق» 1954، «والشراع والعاصفة» 1958، أن يضع الرواية في مسارها الفني الأصيل، بعدما كانت قبله مجرد تمارين مدرسية على حد تعبير فيصل دراج.
واستطاع أن يجدد باستمرار موضوعاته بدءاً من عالم البحر والموانئ والصيادين وما يدور فيه من صراعات، مروراً بالريف وظلم الملاكين، وبؤس المرابعين وأحياء الصفيح المهشم على أطراف المدن، وانتهاءً بعالم الغربة والصراع من اجل الحياة. وكان دأبه اكتشاف المناطق المجهولة في الأدب، أو الموضوعات البكر، بعيداً عن الطرق المعبدة. إلا أن البحر كان دائماً مصدر إلهامه، حتى أن معظم أعماله كانت مبللة بمياه موجه الصاخب، وعلى حد تعبيره «إذا نادوا: يا بحر، أجبت: أنا! البحر أنا، فيه ولدت، وفيه أرغب أن أموت».
وظل حنا مينه في تقديمه لهذه العوالم، مخلصاً للتيار الواقعي بنزعته الغنائية الرومانتيكية حيناً، والنقدية أو الاشتراكية حيناً آخر. التيار الذي يرى في الشخصية الإنسانية ابنة لشرطها الاجتماعي والطبقي، يُوجه دوافعها وسلوكها، ويُسهم في تحديد خياراتها ومصيرها. إنها الواقعية الخصبة التي لا يرتهن خطابها للدعوات الإيديولوجية المباشرة، بل يرتهن للإصغاء إلى تدفق بحر الحياة وتياراته الصاخبة المتصارعة، ويصغي إلى نبضه واندفاعه وسكونه، مشخصاً الواقع الموضوعي، ومستشرفاً آفاق تحولاته، نحو عالم أفضل وأجمل.
ويبرز اهتمام حنا مينة بالمرأة منذ روايته الأولى كما يرى جعفر، فظهرت في صور ونماذج متعددة. صورة الأم الصابرة المضحية، وصورة المرأة البغي التي تواجه قهر المجتمع بالتمرد الطوعي أو القسري على قيمه، والمرأة الرمز والمعلم، والمرأة المثقفة، والمرأة الأسطورة. ويقول مينه «أبارك المرأة ثلاثاً. أما أحب بطلاتي إليّ فهي« امرأة القبو»، أما المرأة التي أريد فما زالت وهماً، اسطورة، جنية قمر».
لقد فهم حنا مينة مثله مثل غوركي وناظم حكمت اللذين تأثر بهما أن للأدب رسالة ووظيفة، ورسالته النفاذ إلى جوهر الحياة والنفس البشرية وتصوير أغوارها وصراعاتها، والانتصار لقيم الحق والخير والجمال والتبشير بعالم جديد، ينتفي فيه الظلم والاستبداد، وتتحقق فيه حرية وكرامة الإنسان.
وكتب حنا مينه ملحمة الشعب السوري في صراعه مع المستعمر والإقطاع والبرجوازية الطفيلية، وكان في قلب العاصفة، وليس في برج عاجي، كان في عاصفة الحياة التي كافح من اجل أن تكون حرة نظيفة، فذاق مرّها قبل حلوها! وقسوتها قبل حنوها.وانتصر على حياة التشرد والفقر بقلمه الشجاع الذي لم يتوقف عن تعرية الظلم والنساء، فكان حارس الأمل وسائسه الذي لا يعرف التعب.
وقد تناول العديد من النقاد السوريين والعرب نتاجات حنا مينه الإبداعية، وأطلقوا عليه ألقاباً عديدة مثل: بلزاك الرواية السورية، وزوربا الروائيين العرب بامتياز بتعبير شوقي بغدادي، وروائي الزمن الصعب. لكن لقب «روائي البحر» كان الأقرب إليه. وهو الذي أوصى في حوار مع جان ألكسان/1997/، بان يكتبوا على شاهدة قبره: «المرأة.. البحر.. وظمأ لا يرتوي».
ووصفه غالي شكري بأنه:«فنان واقعي بأرحب معاني الواقعية وأكثرها خصوبة». وانه: «كسر بعنفوان قوانين الزيف والنفاق في المجتمع ليقدم أفدح سيرة ذاتية عرفتها الرواية العربية واحفلها بالصدق الجارح والثراء الفكري في التعبير عن الفقر المادي، في ثلاثيته «بقايا صور» و«المستنقع» و«القطاف» برأي الناقد والكاتب المصري صلاح فضل. وهذا ما تؤكده الناقدة اللبنانية يمنى العيد، وانه أيضا «كشف معنى القمع وعواقبه. القمع الذي تمارسه أكثر من سلطة هي في الثلاثية، سلطة الأب، وسلطة المختار، وسلطة الفقر والجهل، وسلطة الغيبيات وسلطة ذوي النفوذ على تعدد مستوياتهم».
إن قضيته هي قضية شعبه.. وقد نزل إلى هذا الشعب وابتدع لغة تعبر عن همومه ومشاكله وقضاياه الساخنة ونضالاته في سبيل غد أفضل. الغد الذي هو العدالة الاجتماعية والحرية، حلم البشرية أولا وآخراً. وهذا ما يراه الناقد د.خلف الجراد بأن حكاية حنا مينة هي «حكاية المثقف العضوي الشريف ممارسةً وعيشاً وتجربة وإبداعاً، المستعد دوماً للموت في كل لحظة من اجل أن تصبح الأمور والأشياء جيدة دفعة واحدة. همّه: العدالة الاجتماعية ودحر الظلم والمستعمرين». ووصفه وزير الثقافة السوري رياض نعسان آغا بأنه «أديب الحقيقة … أديب الصدق… عصامي بامتياز، خرج من سلطان القهر ليصبح سيد الإبداع».
وتبقى حسرة في قلب مينه لأنه لم يعد قادرا على كتابة الجزء الثاني من «الياطر» التي أصبحت أشهر أعماله، ويصفها في حوار معه «بأنها ستكون رواية رواياته، إلا أنها منذورة للخفاء، ونائمة في الجليد كزهرة الثلج».
اسم الكتاب: حنا مينه – حارس الشقاء والأمل
المؤلف: نذير جعفر
الناشر: الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية ـ دمشق 2008
عدد الصفحات: 103 من القطع المتوسط