صفحات سورية

نماذج روسيا وإيران وفنزويلا حيال «الديموقراطية السيادية»

null


صالح بشير

هل تكون الانتخابات الروسية الأخيرة التجلي الأول لنظرية «الديموقراطية السيّدة» أو «الديموقراطية السيادية» (sovereign democracy)، تلك التي ابتدعتها دوائر الكرملين وحزب «روسيا الموحدة»، وتولى أمر صياغتها فلاديسلاف سوركوف، الذي يوصف بأنه إيديولوجي نظام بوتين ومستشاره «الفكري» والمؤتمن لديه على ورشة «المفاهيم» يسكّها كلما دعت الحاجة؟

كثيرون في الغرب، وبعض الروس، لم يأخذوا المصطلح ذاك، مصطلح «الديموقراطية السيادية»، على محمل الجد واستهجنوه، فاعتبروه مسعى فجّا وغير موفق، دعائيا في أحسن حالاته، لتمويه الاستبداد والتستر عليه، مع أن صاحبه، سوركوف إياه، اجتهد في دعمه وتسويغه بأسانيد فلسفية، استقاها من الفيلسوف الألماني كارل شميت، صاحب التعريف الشهير للسيادة بأنها «سلطة القرار في اللحظات الاستثنائية»، ومن المفكر والسياسي الفرنسي فرانسوا غيزو، الذي تولى رئاسة حكومة بلاده في عهد «ملكيّة تموز (يوليو)»، وقد كانت إحدى محاولات العودة إلى النظام الملكي بعد الثورة الفرنسية، انتهت بقيام الجمهورية الثانية سنة 1848. وحسب مقالة للباحث البلغاري إيفان كراستيف، أخذ سوركوف عن شميت وأتباعه تعريفهم للديموقراطية بوصفها «تماهيا بين الحاكمين والمحكومين» وعن غيزو ومشايعيه قولهم إن السيادة لا تعود إلى الشعب أو إلى الناخبين بل إلى العقل المتجسّد في إجماع النخب الوطنية المسؤولة، ورأى (أي سوركوف) أن حكم بوتين ونظامه يتطابقان مع التعريفين ويستوفيانهما.

لا تعدو المحاولة هذه، في نظر منتقديها الكثر، وبالرغم من ادعاءاتها الفلسفية، أن تكون إيهاما بالجديد حيث لا جديد، لأن نظام الحكم الذي تصفه وتدعو إليه، يبقى في جوهره بعيدا عن الديموقراطية منافيا لها، لا ينتسب إليها إلا على نحو ما تفعل أنظمة «الديموقراطية المقيّدة» وفق أنموذج أضحى مبتذلا في شتى أصقاع العالم، يقوم على التسامح مع قدر من تعددية حزبية ومن حياة برلمانية صورية ومن حرية إعلام وانتظامٍ على أن لا تنال من انفراد حزب أو طغمة بالسلطة. واجهة تحاول، دون أن تفلح في الغالب، تقديم صورة ديموقراطية للخارج والتستر على واقع استبدادي مطبق في الداخل.

لسنا من الآخذين بهذا الرأي في ما يتعلق بالتجربة الروسية أو ببعض تجارب أخرى، في جمهورية إيران الإسلامية أو فنزويلا هوغو شافيز، وهي تجارب ربما وجدت في مبدأ «الديموقراطية السيادية»، كما بلوره إيديولوجيو الكرملين، تعبيرا، على هذه الدرجة أو تلك من الدقة، عن خصوصيتها وعن احتمال قيامها أنموذجا قد يستهوي في العالم، لا سيما الثالث. لا أحد، يجزم بديموقراطية تلك التجارب بطبيعة الحال أو يدعيها (إلا لمن كان من أنصارها، وتلك ليست حالنا)، ولكنه يتعذر، من وجه آخر، إدراجها في خانة «الديموقراطيات المقيدة» وكفى الله المؤمنين شر القتال.

إذ يبدو، على ضوء ما هو جارٍ ممارسةً وبغض الطرف عن أي تنظير، أن ما يميز «الديموقراطية السيادية» عن نظيرتها «المقيدة»، أن الأولى أخذت علما بأمرٍ وتحاول التصدي إلى آخر. فهي من ناحية أخذت علما بأنه لا سبيل إلى الإقامة على استبداد كذلك التقليدي، تزاوله قسرا قوة خارجة عن المجتمع، لا تتمتع بقاعدة شعبية (غير أولئك المرتبطين بها منفعيا) ولا هي عابئة بذلك. أنظمة «الديموقراطية السيادية» هي في الغالب وريثة ثورات أو تحولات جذرية أطاحت أنصبة استبدادية غاشمة، وتستقي شرعيتها من فعل الإطاحة ذاك. كما أن الأنظمة تلك من ناحية أخرى، تعتبر أن عليها أن تواجه وأن تجد حلا لمشكلة الدولة الوطنية، في عصر العولمة هذا الذي يكاد يكون عصر ما بعد تلك الدولة، يتهدد سيادتها بالانتقاص أو بالإلغاء، سواء طوعا، من خلال الانضواء في تكتلات، يستوي الاتحاد الأوروبي مثالها الناجز والمرجعي (ومعلوم أن هذا قام على تخلي دوله عن عدد من مظاهر سيادتها، صلاحية مراقبة حدودها أو استقلالها النقدي، والاقتصادي تاليا)، أو من خلال إقرار مبدأ الحق في التدخل يتجاوز سيادة بلد من البلدان إن دعا داع، بصرف النظر عن رأينها في ذلك الداعي، كما حصل مع صربيا ميلوسيفيتش، إضافة إلى اقتصاد العولمة الذي يكاد يجبّ شيئا اسمه الاقتصاد الوطني، سياسات وخيارات.

«الديموقراطية السيادية» تمثل محاولة للتعاطي مع ذينك الهاجسين، أي الديموقراطية والسيادة، واستيعابهما وتذليلهما. لا غرو أنها في العمق تنحو منحى التقييد، ومن هنا ارتياب دعاة الديموقراطية الكلاسيكية وازدراؤها بها، إلا أنها تختلف مع ذلك عن «الديموقراطية المقيدة»، وفق أنموذجها الشائع كذلك المعمول به في مناطقنا، في أمر جوهري، في أنها أقل عشوائية واعتباطا، أي في أنها حيثما أقرت قوانين وأعراف ودساتير وآليات التزمت بها عموما. فهي قد تحصر اللعبة «الديموقراطية»، في فئات اجتماعية أو فئات رأي بعينها، تسبغ عليها حق المشاركة، وتستبعد أخرى، تراها مناهضة للهوية أو للمصلحة الوطنية، وهذا هو البعد السيادي في الأمر، ولكنها تتقيد بقواعد تلك اللعبة. جمهورية إيران الإسلامية شاهد بليغ على ذلك، حيث السلطة العليا تتحكم في الترشيحات فتقرّ أو تبطل منها ما تشاء، صلاحية سيادية قد لا تتطلب تعليلا، ولكن ما أن يتحقق ذلك، حتى يجري الاقتراع نزيها أو أقرب إلى النزاهة، ويُصار إلى التقيّد بنتائجه، سواء أوصلت إلى الحكم إصلاحيا مثل محمد خاتمي أو محافظا مغاليا مثل محمود أحمدي نجاد.

وذلك أيضا شأن الانتخابات الروسية الأخيرة، حيث لم يبادر فلاديمير بوتين، وهو من هو سطوة ونفوذا، إلى تعديل الدستور للترشح لولاية رئاسية ثالثة… صحيح أنه عاد من النافذة رئيسا للحكومة لدى رئيس دولة (دميتري مدفيديف) هو صنيعته، رشحه وزكاه وضمِن انتخابه وستكون له عليه اليد الطولى لا محالة، ولكنه لجأ في ذلك إلى ما يشبه فقه الحيَل، ولم يجترئ على القوانين يغيرها لغاية عينيّة، هذا فضلا عن كون الانتخابات الروسية، وإن شابتها خروق على ما قالت أوساط المعارضة، جرت على نحو سليم عموما، وأفضت إلى فوز في حدود السبعين بالمئة، بعيد كل البعد عن النسب التسعينية المعهودة.

كل ذلك للقول بأنه إذا كانت «الديموقراطية السيادية» تتحكم في الحياة السياسية، والتعددية الحزبية والتنافس الملازم لها من خلال إخضاعها إلى مرتبة سيادية عليا، أي إلى من هو مناط الشرعية، حقيقةً أم تواضعا أم افتعالا، وبواسطة التمييز بين مواطنين يحق لهم خوض غمارها وآخرين يُحكم عليهم بالنبذ والإقصاء، كما في إيران صراحة وفي روسيا مداورة، فإن نظيرتها «المقيدة» إنما تلجأ إلى الإخضاع ذاته، ولكن تتولاه سلطة تنفيذية صرف، عادة ما تكون سلطة أمر واقعٍ لا تستند إلى شرعية، سلطة انقلاب مستمرّ حيث لا تضع للشأن العام أطرا قانونية معلومة يسير بمقتضاها، أو هي تنقلب على القوانين التي سنّتها بنفسها، تنكرا أو تعديلا، في حين أن انتخاباتها استفتاءات، يخوضها مرشح واحد في الغالب، ونتائجها فلكية، تُبلغ بالقسر وبالرشوة وبالتزوير.

ليس في النية المفاضلة بين الأنموذجين، إذ لا اجتهاد في الديموقراطية إن تعلق الأمر بالحد منها حسب أنموذجها «السيادي» أو حسب أنموذجها «المقيد»، إن هي إلا محاولة للتوقف عند نظرية «الديموقراطية السيادية»، سعيا إلى الإحاطة بها وتبيان خصائصها، القائمة أو المدّعاة، وهي التي قد تستهوي، بديلا عن استبداد تقليدي فجّ وسافر، تجاوزه الزمن وفقد كل شرعية ربما كانت له في وقت من الأوقات، استنادا إلى إنجاز تاريخي (تحقيق الاستقلال عن المستعمر مثلا) أو بناء على وعد إيديولوجي

روسيا على أية حال، تعول على ابتداعها مفهوم «الديموقراطية السيادية» لاستعادة إشعاعها قدوة بين الأمم، كما كان شأنها في العهد الشيوعي أو في أطواره الأولى، فهي ما عادت تتحرج في تقديم نفسها على أنها «أوروبا الأخرى»، بديلا عن أوروبا ما بعد الدولة-الأمة.

الحياة – 09/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى