كيف يهدّدنا الإسلام الأصوليّ؟
فلورنتينو بورتيرو
ترجمة: أحمد يماني
حضارة في أزمة
لقد فتحت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الطريق أمام نقاش حادّ حول درجة التهديد التي يفرضها الإسلام الأصوليّ. شهدنا طوال تلك السنوات الأخيرة سيلا متلاحقا من المصطلحات لإعطاء وصف للمعتدي، وللوضع الذي وجدنا أنفسنا عليه. “الإرهاب الإسلاميّ”، “الإرهاب الإسلامويّ” ثمّ “الإرهاب الجهاديّ”. “الحرب على الإرهاب”، “الحرب على الذعر” أو “الحرب الطويلة”. ثمّة الكثير من الشكوك وتغير المعايير والتي تعكس صعوبة تعيين محيط استراتيجيّ جديد يخرج عن هامش التفكير الكلاوسفيتزي (نسبة إلى الجنرال البروسي كارل فون كلاوسفيتز وكتابه الشهير “عن الحرب”.م) الذي تربينا عليه. أولئك الذين يقومون بالتهديد وبالتحدّي من العالم الإسلاميّ لم يمرّوا بالحركة العقلية للقرن الرابع عشر ولا بعصر التنوير. يجهلون ديكارت ويعيشون بعيدين عن الهواجس العقلانية للغرب. إنّ سلوكهم لا يتوافق وقوانينا وهذا يخلق لنا صعوبة مضافة في تحديد هذا السلوك وتصنيفه.
إنّ خطورة الهجمات الجهادية على نيويورك وواشنطن ومدريد ولندن، كي نضع أمثلة قريبة منّا، حملتنا على تركيز انتباهنا على الجماعات الأصولية التي اختارت طريق القوة، ومع ذلك لكي نفهم طبيعتها فإنه من الملائم إمعان النظر في أصل المشكلة. إنّ جماعات كالقاعدة ليست إلا تعبيرا عن واقع شديد التعقيد والخطورة. نمت في الإسلام، ككلّ الديانات الكبرى، على امتداد الزمن تيارات متباينة عند القيام بالتأويل الصحيح لمعنى الرسالة أو تكييفها مع حقب مختلفة. ثمة دائما قطاعات رافضة للتغيير كما أنّ هناك دائما جماعات على استعداد للقيام بتحوّلات راديكالية.
بتركيزنا على الجماعات الأولى فإنّ تأثيرها سيكون كبيرا أو صغيرا تبعا للاستقرار المجتمعي. لو أنّ مجتمعا ما يتكيف مع تحديات عصره ولو أنّ المعايير التي يتبناها تأتي بالنتائج المرجوة، فإنّ الغالبية العظمى من الأشخاص سيكون لها سلوك معتدل وستركز على أنشطتها اليومية. والعكس عندما تكون المعايير غير مناسبة، أو، وهذا أسوأ، أن تكون غير موجودة أساسا؛ عندما يكون هناك مجتمع غير قادر على الردّ على هذه التحدّيات ويشعر أنه ناء عن المجرى العام للتحديث، عندما ينظر حوله ويرى غالبية العالم تتقدّم في المعرفة وفي الرخاء بينما يظل هو راكدا فيما قبل التحديث، عندئذ تتوفر الشروط لكي يهجر تحكيم العقل ويستسلم للأهواء. هذه هي حالة مصر والمغرب على سبيل المثال.
هناك وضع مختلف لكنه ذو نتائج شبيهة ناتج عن التغييرات الثقافية والاجتماعية التي تمّ تنفيذها في وقت قصير، يمكن له أن يخلق عندئذ أزمة هوية. تبدو القيم التقليدية مهجورة بشكل جزئيّ لصالح قيم أخرى بعيدة، وبمقياس أكثر أو اقلّ، فهي مضادّة للقيم الأولى. في هذا الوضع من المحتمل كذلك أن الشعور بالدوار يتخيل الشروط من أجل أن تكسب التيارات الرجعية الحاضرة دوما قلوب الناس. وما حدث في إيران خلال حكم الشاه يمكن أن يتجاوب مع هذا الوضع الثاني.
ترفض الإسلاموية، أو الإسلام الرجعيّ، احتمالية اللقاء مع الغرب. بالطريقة نفسها التي حدثت مع منظّري الشيوعية، يعتقدون أنّ أية تقارب بين الثقافتين يفضي إلى فساد الإسلام، فيقوم بإضعاف قيمه بل يعزز انحطاطه، فالمشكلة ليست دينية بل ثقافية.
يشكّل الغرب، منذ أن هجر الله واستسلم للمادية والاستهلاك، تهديدا، ويشعر المسلمون بانجذاب نحو المنافع المادية وتنسى نساءهم عفتهن التقليدية كي يتبنين سلوكا مستقلا و”غير طبيعي”. إن القبول بالقيم المميزة للغرب إنما يتضمن في عقليتهم التبعية وإضعاف الإسلام، مما يؤدي في النهاية إلى التفسخ والدمار.
إنّ العدوى بالثقافة الغربية لهي سرطان يفاقم علة موجودة من قبل: الاعتقاد في الاعتداء الواعي من قبل أوروبا والولايات المتحدة. كان هناك أوّلا فرض المستعمرات والمحميات. ثانيا ترسيم الحدود في وقت لم يكن هناك فيه فصل بين الأراضي. بعد الفرض يأتي دعم حكومات تحرك كالدمية والتي بدلا من الدفاع عن قيم شعوبها ومصالحها، فإنها تكتفي بلعب دور الخادم للقوى الأجنبية.
إن الفكرة التي ترى أن تحديث الإسلام يتطلب تطوير الأنظمة السياسية حتى الوصول تدريجيا إلى ترسيخ نظام ديمقراطي حقيقي تفترض بالنسبة للإسلاميين نوعا من العنف، فالمبادئ والقيم التي تقوم عليها الديمقراطية -الحرية الفردية والمساواة بين الرجل والمرأة والفصل بين الدين والدولة…- هي بالنسبة للإسلاميين مجرد هرطقات بعيدة كل البعد عن تراثهم وموجهة لإضعاف الإسلام وضمان للقوة المهيمنة للغرب.
نتيجة كلا العمليتين، الثقافية والسياسية، انحطاط للإسلام. تقع المسئولية بشكل جليّ على عاتق الغرب وعلى عاتق قطاعات الإسلام تلك التي لديها حكومات ذات أنظمة لا إسلامية أو أولئك الأشخاص الذين يدافعون عن تحديث مجتمعاتهم عبر علاقة قوية مع الغرب أو، وهذا أسوأ، يدافعون عن تبنّي أنظمة ذات صبغة ديمقراطية. وهذا تأويل متماسك بقدر ما هو خياليّ، لديه مزية تحرير الدين وكذلك المواطن المتوسط من كل شعور بالذنب.
ليس من المقبول بالنسبة للمسلم رجل الشارع ألا تتقدم بلاده وألا يتمكن أبناؤه من التحصل على مستقبل أفضل وألا يكون هناك تعليم عام ولا خدمات صحية… بينما يشاهد عبر الأقمار الصناعية كيف يعيش الناس في باريس ونيويورك وكانبرا ولوس أنجلس، ولماذا هم لا؟ في أي شيء يختلفون عنهم؟ الأكثر منطقية أن ينظروا حولهم وأن يعترفوا بما هو بين الوضوح: أن الإسلام في انحدار منذ قرون؛ وأنه في حقل الثقافة العليا يساهم بأقلّ القليل في المعرفة العامة وأن العلم لم يعد أمرا ذا شأن بالنسبة له وأن الأنظمة الخارجة من التحرّر من الاستعمار تمترست خلف خطاب قوميّ و/ أو اجتماعيّ لكي يولد نظام من الفساد غير المألوف، ومن عدم الكفاءة. لديهم كامل الحق في رفض هذا الوضع ولكنه ليس مبررا تجاهل الواقع. رغم ذلك فإن التوسع الكبير، والذي تقلص فيه، في السنوات الأخيرة،عدد القنوات التليفزيونية، التي تشكل العمود الفقري لمجموع العالم العربي، وعموما مجموع الوسائط الإعلامية إنما تحصل على صدمة رهيبة في وقت ترسيخ تأويل الأمر كضحية: فالذنب يقع على عاتق الآخرين، على عاتق الغرب. تصبح الحياة أسهل دون الشعور بالذنب لكن هذا العلاج مخادع. دون الاضطلاع بأعباء الواقع سيكون مستحيلا على هذا المجموع من الدول أن يجد طريقه نحو التحديث الاجتماعي. هذا هو الوسط الذي يمكن أن ينشأ فيه الإسلامويّ. بتغذى على فشل القوميين وعلى خطاب الضحية وخاصة على الشعور العام بالإخفاق كي يقدم تأويلا وبديلا. تكمن المشكلة في الابتعاد عن الإسلام الحقيقي، عن الهوية الخاصة. يكون الحل في العودة للقرآن من خلال تأويل متشدد ومضاد للغرب.
إن حضارة ممتدة وقديمة كالإسلام، حاضرة في ثقافات متباينة، لا بد أن تكون لها مدارس فكرية تعيد تشكيل هذا التعدد، حتى داخل الحدود الدنيا الشبحية للتفكير الأصوليّ. لا مقام هنا لوضع وصف تفصيلي ولكن نعم للتأكيد على وجودها. هناك مدارس مربوطة بماض علماني، تمارس تأثيرات اجتماعية موسعة عند تمتعها بوضع سلطوي وأنها بالإضافة إلى ذلك فإنّ تحت تصرفها كمية هائلة من الأموال. هذه هي حالة الوهابية العربية والمرتبطة بآل سعود. هناك أيضا مدارس حديثة العهد تنطلق من أوضاع أكثر موافقة لظروفنا الراهنة وتعاني من ملاحقة سياسية منسقة وأنها تعتبر اليوم، من قبل حكومات الدول التي لديها حضور فيها، التهديد الرئيسي للاستقرار السياسي. هذه هي حالة الإخوان المسلمين.
بعيدا عن تعدد المدارس نجد تكتيكات شتى تتلاقى في هدف استراتيجي مشترك: إعادة الخلافة وفرض الشريعة وتطبيق سياسة عامة لكل الأمة لمواجهة الغرب. ككل تيار رجعي فإن هذا الأمر جوهري في أهدافه النهائية، رغم أن مجموع مدارسه يطرح غنى ثقافي معتبر. يتفقون جميعا في أنه يجب الوصول للناس البسطاء كي يشرحوا لهم أسباب الانحطاط والحاجة للعودة إلى التأويل المتشدد. إسلام يفهم كما فهم دائما كتفسير شامل للحياة، على المستوى الفردي والاجتماعي، يعيد تجميع المظاهر الخاصة بالوسط الديني وكذلك قواعد مؤسسة الدولة والحكومة الصالحة. لهذا يتحركون في مستويات مختلفة. يعتنون بالتعليم الابتدائي مستغلين عدم وجود نظام تعليميّ عامّ وكلّيّ. يتلقّى التلاميذ في مدارسهم تعليما دينيا دينيا حادا ومتعصبا. أتاحت الثورة التكنولوجية لهم أن يعتمدوا على قنوات تليفزيونية يمكن أن تكون متوالية عبر الملايين من الهوائيات التي تهيكل الإسلام المعاصر ثقافيا. أمام أي حدث يتم في أي بقعة نائية في العالم تحوز النزعة الإسلامية الآن على فرصة المساهمة في تأويله أيديولوجيا في وقت بالغ القصر. هذه القنوات هي كذلك منصات هائلة تمكن المفكرون الإسلاميون، القادمون من أمم مختلفة، من التوجه بالخطاب إلى الأمة، معززين فكرة وجود وحدة ذات مصير مشترك مواجه بشكل لا يمكن تحاشيه لمصالح الغرب. ثمة تلاق آخر وهو شرعية استخدام القوة، أمام لا شرعية الأغلبية العظمى من حكومات الدول ذات الأغلبية المسلمة، والتي هي بالفعل حكومات ديكتاتورية لا تتورع عن إفساد العمليات الانتخابية كي تبقى في السلطة للأبد، ونظرا لاعتقادهم الدوجماطيقي في أن هذه الحكومات تعتمد في بقائها في الحكم على إرادة القوى الغربية، لا يثير استخدام القوة الشك في أنه جائز وشرعيّ ومتفق مع التفسير الصحيح للقرآن للتخلص منهم ووضع حكومات عادلة في مكانهم. تكمن المشكلة في تحديد الوقت المناسب.
في الحقب الأخيرة من القرن الماضي نلمح توترا بين خيارين: كسب العقول لعزل الحكام وجعلهم يسقطون كفاكهة ناضجة أو، على العكس، حثّ نهاية هذه الحكومات عن طريق وسائل عنفية وتغيير المجتمع من خلال السلطة. بين الخيارين المتطرفين ثمة أوضاع وسطية.
الإخوان المسلمون
بين أبطال الخيار الأول نجد الإخوان المسلمين، واحدة من الحركات السياسية والثقافية الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر ذكاء وإثمارا في الإسلام الراديكالي المعاصر، مرشحة لتلعب دورا بارزا في السنوات المقبلة. هي في الأساس حركة ثقافية تعمل على المدى البعيد. يحاولون التوغل في المجتمع وكسب احترامه عبر المساعدات الصحية والخدمات التعليمية للشباب. باستمرارية ووضوح في الهدف فإنهم يقومون بنشر تأويل متجدد للإسلام راديكالي بشكل أساسي. يحوز أعضاؤها على احترام نظرا لما يقومون به من خدمات لصالح المجتمع وكذلك لأخلاقيتهم. التباين بين فساد القوى الحاكمة والعناية القصوى في استخدام أموال بعيدة عن أعضاء الجماعة لعب دوما لصالحهم، إلى درجة كسبهم التأييد ليس فقط من قبل مسلمين معتدلين بل وحتى من قبل مسيحيين. لا يجعل الإخوان من الوصول للسلطة، عبر وسائل عنفية أو سلمية، هدفهم الفوريّ. ولهذا فإنّ الأساسيّ كسب إرادة الناس من خلال خلق ثقافة سياسية دينية جديدة. أما الباقي قسيقع من تلقاء نفسه. لديهم قوة هائلة في بلاد كمصر والأردن وفلسطين. عانوا في سوريا من ملاحقات إجرامية أودت بحياة الآلاف منهم. رغم الاضطهاد القاسي الذي يتعرضون له في كل تلك الأماكن فإن استراتيجيتهم ما زالت تعمل والوقت يلعب لصالحهم. بينما منظمة فتح ذات التوجه الناصريّ والملكية الأردنية، بدرجة أقل، لا تتوقفان عن فقدان النفوذ بين الشعب. بسبب من عدم التطور والفساد الحكومي فإن النسخ المحلية من الجماعة تواصل كسب أراضي جديدة.
الإرهاب الجهادي
عاش الخيار الثاني تحولا هاما منذ الحصول على الاستقلال وحتى يومنا هذا. إن نجاح التيار القوميّ في الخمسينات والستينات، متوليا الرقابة السياسية ومساهما ببرنامج من التطور الاجتماعي والاقتصادي، جعل الأسطورة القومية تترسخ هناك حيث لم تكن دائما واقعا. بالنسبة للإسلاميين فإن مفهموم الدولة-الأمة إنما هو مجرد تعبير تاريخي للغرب أعيد نقله للإسلام من خلال الاستعمار والتأثير الغربي. يرى في ذاته عنصرا غريبا ومدمّرا، مضادّا للتأويل الصحيح للقرءان وللتراث. كما أشرت آنفا فإنهم لا يفرقون بين المحيط الديني والسياسي ويتصورون فقط نظاما سياسيا قادم من الشريعة والتشدد الديني. ليس في أفقهم أيّ تصوّر سوى الخلافة حيث يخلطون بين السلطة الدينية والسياسية ممثلة في شخص الخليفة، والذي يمارس نفوذه الكامل على مجموع الأمة. كذلك فهموا أنه من المستحيل محاولة تشجيع حملة عنفية بشكل جماعي ضد الحكومات غير الإسلامية. فرضت الرؤية الواقعية الذهاب حالة وراء حالة وبلدا وراء بلد. الجهاديون الذين يدافعون عن العنف كطريقة للتصفية الداخلية قادرة على زعزعة استقرار أنظمة “فاسدة” وإعطاء خطوة لإمارات إسلامية، إنما يفتقدون في كل وقت إلى القدرة على حمل أهدافهم إلى حيز التنفيذ. كانت لدى الدول الناشئة إجراءات كافية لإخضاعهم. تمكنت أجهزة الشرطة والمخابرات من تفكيك مؤسساتهم. قاموا بشن هجمات على درجة كبيرة من الأهمية، كتلك التي أودت بحباة أنور السادات، ولكن في النهاية فإن من نجا منهم انتهى به الحال إلى تمضية شطر كبير من حياته داخل السجون. على مشارف التسعينات كانت الحركة الجهادية قد فشلت، كما يجمل ذلك جيل كيبل في دراسته الشهيرة عن الحركات الإسلامية.
لكن الظروف تغيرت والحركة التي بدا أنها تحتضر انتعشت من جديد. استقطبت الحملة الجهادية ضد الغزو الروسي لأفغانستان مجموعات مختلفة تتفق في الرأي على استخدام العنف لوقف تدخل ثقافات أخرى في الإسلام، وكذلك تتفق على تأويل متشدد. من تلك اللقاءات تولدت “القاعدة”، نسخة متجددة من الاستراتيجية الجهادية. مؤسسة من قبل أردنيّ قادم من “الأخوان المسلمين”، عزام، خلفه في القيادة بعد موته أحد الأغنياء السعوديين من ذوي الأصل اليمني والتكوين الوهابي، أسامة بن لادن، مع الدعم الفكري الثمين من جرّاح مصريّ، من عائلة أكاديمية بارزة ونضال قديم في الجهاد الإسلاميّ المصريّ، الظواهري. تلاقي لمدارس في سياق فريد كذلك الذي كان لحملة أفغانستان العسكرية والتي انتهت بإعطاء شكل لاستراتيجية جديدة. معا تمكنوا من هزيمة الروس ومعا يهزمون الغرب. يكون الجهاد ممكنا إذا كان جماعيا وإذا صُوّب نحو العدو الخارجيّ. إن مواجهة مع الولابات المتحدة ستكشف عن مكانة القاعدة وستحرك الجموع لصالحها، حاملة في طريقها الأنظمة الفاسدة المفتوحة على تعاون مع الغرب. إن الاعتداءات على السفارات الأمريكية في إفريقيا والهجوم على السفينة الحربية الأمريكية في الخليج العربي سبقت الهجوم الكبير في 11 سبتمبر، وقد تواصلت بتفجيرات مدريد ولندن وكثير من الاعتداءات التي أحبطت. احتكرت القاعدة اهتماما إعلاميا وأكاديميا هائلا وأجبرت على مراجعة لاستراتيجيات المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتسببت في حرب في أفغانستان.
مذاك وحتى اليوم لم تتوقف عن محاولة التحصل على أهدافها، محافظة على نجاح في الصورة وعمليات فاشلة متتابعة. بغزو أفغانستان فقدت القاعدة مركز عملياتها وسيطرتها وكذلك القدرة على احتفاظ قيادتها الرئيسية بعلاقة سلسة مع القيادات الثانوية. كان التأثير أكبر من كونه مجرد نقص في قدرة العمليات بل أرغمها على تغيير طبيعتها. متتبعة النموذج الذي صممه واحد من قادتها السوري الإسباني مصطفى سيتماريان نصار، تحولت القاعدة إلى شبكة غامضة تدار بشكل ذاتي كامل من قبل قيادات محلية تتشارك في الأيديولوجيا والاستراتيجية نفسيهما. كثير من هؤلاء القادة لم يلتقوا ابن لادن ومعاونيه من قبل. إن اللامركزية القسرية حملت القادة الإقليميين الجدد على إعادة تجميع منظمات كانت موجودة من قبل مشكلة نيابات إقليمية، كأعضاء القاعدة في المغرب وبلاد الرافدين. في الحالة الأخيرة هذه شكّل الزرقاوي منظمة تم الاعتراف بها لاحقا من قبل ابن لادن كجزء من القاعدة، مضطلعة بثقل الصراع العنفيّ مع النظام الديمقراطي العراقي ومع القوات المسلحة الأجنبية. داخل هذا المجرى من اللامركزية ستصبح حالات خلايا الجيل التلقائي ذات مغزى على جانب كبير من الأهمية. مجموعات لشباب أصوليّ أو في طريقه لأن يكون كذلك، يتواصلون مع مواقع جهادية على شبكة الإنترنت وينتهي بهم الأمر إلى إنشاء خلية وصناعة أسلحة منزلية ومحاولة التضحية بأنفسهم في حال القيام باعتداء إرهابي. هذه الظاهرة كان لها حضور كبير في كندا وأوروبا، تكشف لنا عن الأهمية التي توليها الحركات الجهادية للإنترنت كوسيط إعلامي وكوسيلة للتنظيم والتنفيذ. لقد انخفضت بشكل شديد الفاعلية درجة التحكم اليومية في التنظيم من قبل ابن لادن ومعاونيه الأقربين. في الحقيقة لم يعد حتى تنظيما بمعنى الكلمة. غالبا ما نقرأ في مطبوعات مختلفة من كل نوع المصطلح “سلسلة” للإشارة إلى طبيعتها الجديدة. رغم ذلك فإن هذه الخبرة حديثة العهد إنما تظهر إنها حتى لا تصل إلى هذا المستوى من التماسك. إن الشركات التي تختار هذا النموذج للنمو إنما تحتجز جزءا كبيرا من مفاتيح التجارة. ليس واضحا أن القاعدة قادرة على الذهاب أبعد من ذلك النموذج.
كنتيجة لهذه التغيرات تمكّنت القاعدة من أن تحيا داخل الوسائط الإعلامية وفي النقاش السياسي كلاعب أساسيّ. ومع ذلك لو قمنا بتحليل أفعالها واحدا فواحدا والنتائج المتحصل عليها فإنّ كفة الميزان لن تكون في صالحها. فالاعتداءات التي قامت بها على السفن والسفارات والبنايات الأمريكية لم تتحصل بها سوى على عداء المجتمع والطبقات السياسية وأن تقوم الولايات المتحدة بغزو أفغانستان عسكريا وأن يتحطم نظام الإدارة والتحكم للتنظيم. وضعت في خطر داهم التأسيس لنظام نيابي سياسي في العراق، كي تتحصل في نهاية الأمر على أن يهب العرب السنة، حلفاؤها، ضد هذا النظام وأن يحاولوا بنجاح كبير شله. تحول “العصيان” السنّي من الحرب ضد القوات الأمريكية إلى الالتحاق بها. بينما أكتب هذه السطور فإنّ مائة ألف سنّيّ تقريبا يشكلون المليشيا السنية التي تحارب القاعدة بشكل منظم وبدعم اقتصادي أمريكي. كما تنبأ الظواهري حينذاك في رسالته الشهيرة إلى الزرقاوي (مؤرخة بيونيو 2005.م) بأنّ الضربات الإرهابية غير المميزة (بكسر الياء) يمكن أن تنتهي بإبعاد الشارع العربي عن الحركات الجهادية. واليوم فإن رد الفعل العراقي ضد تدخل القاعدة في الشئون الداخلية للعراقيين إنما تحول، بشكل مفارق، إلى مفتاح العملية السياسية للسلام والاستقرار. كذلك الاعتداءات التي قاموا بها في الأردن، هذا البلد الذي ترى فيه تأثيرات إسلاموية قوية، حملت الشعب على التظاهر ضدهم في الشوارع. وفي الجزائر، البلد المغاربي الذي تأصلت فيه القاعدة بشكل كبير، تسببت هجماتهم في مقتل الآلاف دون التحصل بهذا على إضعاف الجيش. في باقي المنطقة تم ملاحقة اعتداءاتهم عبر عمليات بوليسية موفقة. بل وكذلك فإن التهديد الجديد حمل على تعاون متقدم بين أجهزة الاستخبارات، سامحين لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية بلعب دور محوري ما كانت لتحلم به منذ أعوام. الأمثلة كثيرة ودائما تمضي في الاتجاه ذاته. الصيت لا يعني الفاعلية، فالقاعدة لم تتحصل على إسقاط حكومات كما لم تتحصل عليه كذلك الحركات الجهادية التي سبقتها.
سال كثير من الحبر حول تأثير عمليات القاعدة في المجتمع المسلم، وبشكل خاص في المجتمع العربي. لا ينكر أن ابن لادن تحول إلى شخصية شعبية الطابع لها الكثير من المعجبين. ما زال نقطة تنفيس للإحباط المتواصل: أخيرا يتمكن شخص عربيّ من إذلال الغرب. تم إظهار أن حرب العراق حركت الكثير من الشباب لصالح القاعدة رافعة بذلك العدد الإجمالي للإسلاميين، معلومة كهذه لم يتم البرهنة عليها. ومع ذلك فإن ما يمكن تأكيده أن تأثير عملياته كان لها مكان بين الحركات الجهادية التي كانت قائمة من قبل. أولئك الذين كانوا انضموا لتنظيمات راديكالية ذات نطاق محلي والتي تم دحرها والتي أفاقت من وهنها معترفة بأخطاء استراتيجيتها لكي تتعانق بحماس مع الاستراتيجية الجديدة العالمية. ظنوا بعثورهم على سبب فشلهم وإيجادهم البديل كي يواصلوا. كان المفتاح يكمن في البؤرة العالمية والتركيز على مهاجمة الغرب. شبيبة من محيطهم، كان يمكن أن تظل غير فعالة لكن أصولية توجهت إلى العراق. ظاهرة تمكنا من ملاحظتها في أوروبا. لكن إيمانها الجديد لم يتمكن من تحريك الشارع العربي لصالحه أو تحريك مناطق أخرى يحضر فيها الإسلام، conditio sine qua non،(تعبير لاتيني بمعنى: ذلك الذي من دونه. م.) شرط بدونه لا يمكن بلوغ الهدف. بهذا المعنى كان المثال الأحدث الانتخابات البرلمانية في باكستان، معلم من معالم المحاولة الجديدة للانتقال من ديكتاتورية عسكرية إلى ديمقراطية في هذا البلد. الرئيس مشرف، صاحب الانقلاب على نواز شريف وعلى المحمكة العليا، كان حليفا مهما للولايات المتحدة وأوروبا في الحرب على الإسلاموية الجهادية. كان لابد من الانتظار أن يضخم الرفض لشخصه وسياسته حقيبة الناخبين لصالح أحزاب ذات توجه إسلامي. ورغم ذلك لم يتم الأمر على هذا النحو. تغلب الاعتدال في النهاية.
فلورنتينو بورتيرو:
(مدريد 1956) أستاذ التاريخ المعاصر بالجامعة الوطنية للتعليم عن بعد وخبير في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية، والمقالة منشورة بمجلة دفاتر الفكر السياسي Cuadernos de Pensamiento Político العدد رقم 19 بتاريخ يوليو/ سبتمبر 2008.
(ترجمة عن الإسبانية)