صبحي حديديصفحات العالم

نتنياهو وأوباما: الرمال المتحركة في منطقة الوسط

null
صبحي حديدي
يحلو لرئيس الوزراء الإسرائيلي المكلّف، بنيامين نتنياهو، سرد الحكاية التالية: حين قام الرئيس الأمريكي باراك أوباما بزيارة الدولة العبرية الصيف الماضي، وكان يومها مجرّد مرشّح للرئاسة، انتحى جانباً بزعيم الليكود، وقال له: أنت وأنا نشترك في الكثير.
لقد بدأتُ على اليسار وانتقلتُ إلى الوسط. وأنت بدأتَ على اليمين وانتقلتَ إلى الوسط. كلانا براغماتي يرغب في إنجاز الأمور’. وإذا جاز أنّ رغبة نتنياهو في سرد هذه الحكاية تنبثق، جزئياً، من نرجسيته المتأصلة ومزاجه المتلفز الميّال إلى دراما العبارة وألعاب اللفظ، فإنّ الجزء الأعمّ الباقي يستهدف الإيحاء بأنّ نتنياهو 1996 ليس نتنياهو 2009، في نظر رئيس القوّة الكونية الأعظم، وليس عند أيّ ناظر آخر.
وريثما يفرغ نتنياهو من تدبّر تشكيلته الوزارية (التي لن تكون في موقع الوسط، في كلّ حال، بل في اليمين وأقصى تنويعاته، بصرف النظر عن رغائب أوباما وسواه)؛ ويعلن برنامجه الحكومي الرسمي (الذي لن يتطابق تماماً مع برنامج الليكود، إذْ لعلّه سيكون أكثر تشدداً)، ثمة بعض المغزى في استذكار نتنياهو الأصل، ذاك، نقيض هذا الذي يراهن الرئيس الأمريكي على زحفه الحثيث من خطّ اليمين إلى خطّ الوسط. والإنصاف يقتضي القول إن نتنياهو 1996 (أي زعيم الليكود، ورئيس وزراء الدولة العبرية بالإنتخاب وليس بالتعيين، كما كانت الحال قبلئذ) قطع مشواراً حافلاً لتصعيد نتنياهو 1991(الشخصية المتلفزة التي أطلّت على العالم من شاشة الـ CNN، عبر قناع واقٍ للغاز، مباشرة، في أعقاب سقوط أوّل صاروخ ‘سكود’ عراقي على تل أبيب). وبعد وقت قصير من تولّيه المنصب، كان المزاج الدولي والعربي الرسمي (من الرئيس المصري حسني مبارك، إلى الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، مروراً بالرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك) يقوم بترقية نتنياهو وتبييض ساحته وصفحته، معللاً النفس بالمنطق القائل: الرجل انتُخب قبل أسابيع معدودات فقط، وهو بالكاد فرغ من تشكيل حكومته، فامنحوه فضيلة الشكّ، واصبروا عليه قليلاً. بعض المعلقين في الصحافة الأمريكية أسبغوا طابعاً مسرحياً على أجواء الترقب تلك، ومنحوا نتنياهو لقب ‘الرجل اللغز’ Enigma Man، وتوقعوا انكشاف الأسرار وتدفق السيول البراغماتية. لكن آلة نتنياهو كانت تعمل وفق منطق آخر، فأسفر رجل الألغاز عمّا هو أبعد ما يكون عن اللغز… إلا عند الحمقى وحدهم.
لقد طالب بالسلام مع الأمن والقوة وأرجحية الكفّ الاسرائيلية، وشدّد على أنه في ذلك لا يتجاوز ‘المفهوم’ الأمريكي العريق للسلام المسلّح حتى النواجذ. وطمأن العالم إلى أنه ملتزم بالإتفاقات التي وقعها سلفاه إسحق رابين وشمعون بيريس، فبدا الإعلان أشبه بكرم أخلاق من جانبه، كأن الديمقراطية الإسرائيلية تسمح له بإلغاء أي ميثاق موقع، ولكنه هو الذي يأبى ذلك بسبب عشقه للسلام. وشاء أن يبدو عادلاً عادل حين نشد المساواة في توزيع التنازلات بين العرب والإسرائيليين، فرأى أنه من غير المعقول أن تقدّم إسرائيل انسحابات من الأراضي المحتلة بنسبة 100’، ولا يقدّم العرب شيئاً، حتى لقد خيّل للبعض أنّ العرب هم الذين يحتلون بعض الأراضي الإسرائيلية ويماطلون في الانسحاب منها!
وأراد من السلطة الوطنية الفلسطينية المزيد فالمزيد من لعب دور الشرطي بالنيابة عن الدولة العبرية، مقابل وعود كريمة بالتخفيف من مصاعب إغلاق الحدود والمعابر (ودلالة التطابق بين راهن الأحوال وسالفها، في مسألة المعابر وحدها، تكاد تختصر تسعة أعشار الرهانات على تحوّل الموقف الإسرائيلي بأسره، يمينه ويساره ووسطه). مسألة القدس كانت عنده محسومة منتهية، إذْ هل يحقّ لرجل مثل نتنياهو أن يقول لرجل مثل كلينتون إنّ عاصمة الولايات المتحدة هي بوسطن، وليس واشنطن؟ كلا، بطبيعة الحال. الإنسحاب من الخليل؟ ولكن… ألا يعرف العالم السبب في أنّ بيريس أرجأ قرار إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي حول الخليل، وتقصّد وضع هذه المشكلة العويصة على كاهل نتنياهو، وتوريثه هذه الهدية المسمومة؟ فوق ذلك، هل تنسى البشرية أنّ الخليل هي موطن أقدم جالية يهودية في التاريخ، وأنّ الوجود اليهودي فيها يعود إلى 3500 سنة؟ ألم يقرأ العالم عبارة المؤرخ البريطاني بول جونسون: ‘إذا آردتَ أن تفهم الشعب اليهودي، فاذهب إلى الخليل’؟
الإستيطان؟ ولكن… كيف يسمح البعض لأنفسه بمجرد التفكير في مناطق خالية من اليهود Jew-Free Zones؟ وهل أراد الإسرائيليون يوماً (وكان الأجدر به القول: هل تحدّثوا علانية عن) مناطق خالية من العرب؟ ومن جانب آخر، أيكون من العدل أن يتوقع العالم من حكومة ليكودية أن تقوم بأقلّ مما قام به حزب العمل، في قضية الاستيطان؟ ألم يطّلع الرئيس كلينتون على احصائيات تثبت أنّ معدلات النمو السكاني في المستوطنات زادت بنسبة 50’ أثناء أربع سنوات من حكم حزب العمل، فهل تتوقعون منّا أن نكون ملكيين أقلّ من ملوك أمثال رابين وبيريس؟ كلا، وألف كلا!
على منوال كهذا سارت فصول إفصاح ‘الرجل اللغز’ عن خفايا رؤيته وأسرار فلسفته. ولكي يتعزى المراهنون على منطق الصبر والتشويق المسرحي، قدّم نتنياهو مادّة للغز جديد سوف يشتغل عليه هؤلاء إلى أمد طويل، لم ينقطع حتى بعد هزيمة نتياهو النكراء، صيف 1999، على يد الجنرال المتقاعد إيهود باراك. إنه لغز إدخال اقتصاد السوق إلى الدولة العبرية، والتي تعدّ بين آخر قلاع اقتصاد الدولة، والبعض يسمّيه ‘الإقتصاد الإشتراكي’، في الديمقراطيات الغربية و’العالم الحر’. فوق هذا وذاك، وعد نتنياهو بأن تتخفف الميزانية الأمريكية من ثلاثة مليارات سنوية، يسددها دافع الضرائب الأمريكي إلى الدولة العبرية، على شكل إعانة سنوية.
وحين امتنع عن مواصلة جداول أعمال أوسلو مع الفلسطينيين، واستبدلها بسياسة تنشيط الإستيطان من جهة، وتصعير الخدّ كلما حدّثه أحد عن لقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، كان نتنياهو يدرك في قرارة نفسه أنه سائر بقدميه إلى مستنقع تكون فيه الانتفاضة ـ 2 أمامه، وخلفه تراث الحاخام مئير كاهانا (نبيّ التطرّف الديني ـ اليميني الأقصى)، وأمّا على التخوم اليمنى من المستنقع فثمة دافيد ليفي وأرييل شارون وناتان شارانسكي، وعلى التخوم اليسرى 50′ من الناخبين الإسرائيليين، وربما 100′ من أصدقاء الدولة العبرية. وهؤلاء، هنا وهناك في العالم، تورّطوا مع الدولة العبرية في سيرورة سلام شاء نصف الإسرائيليين أن يفرملوها عند حافة الهاوية، حين بدت نصف عجلات المركبة معلّقة في الهواء، ونصفها يسير على رمال متحركة… قبل أن تتكفّل رصاصات إيغال عمير بالإجهاز على عرّابها الأبرز إسحق رابين.
غير أنّ نتنياهو، إلى هذا وذاك، كان يؤمن بأنه رونالد ريغان الجديد، أو الطبعة الإسرائيلية من ذلك الحكيم الأمريكي المسلّح الذي أوصل المعسكر الشيوعي إلى أسفل سافلين، وتسبب في الإنهيار الختامي لـ’مملكة الشرّ’ التي كانت تًسمّى الإتحاد السوفييتي؛ ولم يعدم، والحقّ يُقال، مَنْ يشحنه بذلك الوهم اللذيذ. ففي حكاية امتناعه عن لقاء عرفات، أعلن نتنياهو أنه يحاكي امتناع ريغان عن لقاء الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف، أو على الأقلّ رفضه أن يكون اللقاء على الطريقة المائعة المخجلة التي مارسها جيمي كارتر حين وقّع اتفاقيات ‘سالت 2’؛ أو، في المثال الإسرائيلي، على طريقة رابين وبيريس أثناء حفل التوقيع على أوسلو الأولى والثانية في حديقة البيت الأبيض.
ولكن ريغان رضخ أخيراً، وهكذا فعل نتنياهو، بعد سلسلة ضغوطات أمريكية وإسرائيلية وليكودية (عضو الكنيست مائير شتريت كان قد أعطى نتنياهو مهلة زمنية للقاء عرفات، وإلا فإنه ـ وهو صاحب النفوذ في قواعد الحزب ـ سوف يشكل وفداً خاصاً وسيذهب إلى غزة). لقاء عرفات ـ نتنياهو تمّ، خلال أقلّ من سنة، وكانت مفارقته الكبرى أنّ الأوّل راكم أوراقاً سياسية إضافية لم تكن في حوزته عندما فاز الثاني، وأنّ الأخير خسر الزخم الذي تركه بيريس وراءه، سواء في اتفاقية الإنسحاب من الخليل، أو في مفاوضات ‘واي بلانتيشن’.
وهنا، أيضاً، تذكّر نتنياهو أنه ريغان الجديد، الذي يطبّق مبدأ ريغان العتيق في اعتماد الشدة والحزم، وحتى بعض البلطجة، كلما تعيّن إبرام اتفاق مع الأنظمة ‘اللاديمقراطية’. وكانت الحكمة الريغانية تقول إنّ الطرف الديمقراطي لن يفلح في عقد السلام ما لم يظهر في صورة القوي، شديد البطش والمراس، اللامهادن، العنيد، المتغطرس، الوحيد الذي يقدّم التفسير الأخير الجامع المانع، لأي اختلاف، حول أية فقرة أو جملة أو كلمة أو فاصلة، في أي نص أو عقد أو وثيقة: تشدّدْ أكثر، لكي تكسب أكثر فأكثر، أو Trust, but verify كما كان ريغان يقول.
ولعلّ اختباره الأمني الداخلي الأول، وكان أيضاً اختباراً سياسياً، صنعته العلميتان الإستشهاديتان في سوق ‘محنيه يهودا’، القدس، صيف 1997، حين اعتبر أن السلطة الوطنية الفلسطينية لم تطلق سجناء ‘حماس’ و’الجهاد الإسلامي’، بقدر ما أطلقت قطيعاً من ‘الحيوانات المفترسة’ لكي تسير على هواها ‘في شوارعنا’. المعلّق ناحوم بارنياع أثارته، آنذاك، فكرة المقارنة بين مشهدين ونمطين: نتنياهو الذي ‘جاء للرقص على الدماء’ بعد عملية شارع دزنغوف في تل أبيب، خريف 1994؛ ونتنياهو الذي جاء إلى سوق ‘محنيه يهودا’، وهو يحمل الكلبشات المعدّة لقائد الشرطة الفلسطينية غازي الجبالي! بعد أشهر سوف يتلقى نتنياهو، من الملك الأردني الحسين بن طلال هذه المرّة، درساً بليغاً حول طبيعة الحدود القصوى لأيّ تشاطر استخباراتي، وكيف يمكن لدهاء الموساد في تسميم خالد مشعل أن ينقلب إلى كاشف لحماقة نتنياهو.
وفي العودة إلى الآمال التي يعلّقها نتنياهو على منطقة الوسط التي تجمعه مع أوباما، يتذكّر المعلّق الإسرائيلي عكيفا إلدار، في مقالة حديثة، مقدار النفور الذي حظي به نتنياهو 1996 ـ 1999 لدى رجالات إدارة كلنتون، من الرئيس نفسه (الذي استخدم تعبير ‘براز الدجاج’، في إحدى ثورات غضبه على نتنياهو)؛ مروراً بالسيدة الأولى الأسبق هيلاري كلنتون، وزيرة الخارجية الراهنة؛ وانتهاء بأمثال دنيس روس، أرون دافيد ميللر، وجو لوكهارت (الناطق الأسبق باسم البيت الأبيض، الذي قال التالي في وصف نتنياهو: ‘إنه بين الأشخاص الأشد إثارة للنفور. كاذب وغشاش. حين يفتح فمه، لا تثقْ في أنّ أي شيء يقوله يمكن أن يكون صادقاً’.
وبالطبع، ليس في هذا أيّ ملمح إلى أنّ نهج إدارة أوباما، المقتدية بالكثير من منهجية إدارة كلنتون في السياسة الخارجية عموماً، ومشكلات الشرق الأوسط خصوصاً، سوف يكون قاسياً على نتنياهو، نافراً منه، ميّالاً إلى خصومه، سواء في إسرائيل أو على صعيد مجموعات الضغط اليهودية ـ الأمريكية. ومن المؤكد، استطراداً، أنّ احتمالات نفور إدارة أوباما من نتنياهو لن يشكّل أيّ عزاء للحاكم العربي، سواء أكان ‘معتدلاً’ تابعاً في العلن، أو ‘ممانعاً’ مساوماً في السرّ… كما في العلن!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى