عن الفضيحة أيضاً
عباس بيضون
كان أندريه بروتون في أخريات أيامه يتنهد لأن الفضيحة لم تعد ممكنة. لم يصدق حدس بروتون لكنه لم يكذب ايضا. لقد استمرت الفضيحة واستمر صناعها لكنها لم تعد بالقوة نفسها. لقد دخلت في الاستهلاك شأنها شأن الأزياء، انها تسطع لأمد قصير وتنطفئ، بعد ذلك على فنان الفضائح ان يطلق غيرها. لن تكون الفضيحة الثانية بقوة الأولى وستعيش أقصر مما عاشت. هكذا نصل الى نوع من اختصاص. فنان الفضائح ينحصر فيها. يمكننا ان نتكلم هكذا عن ابتذال الفضيحة وجعلها ميسورة عامة. اننا امام فن قائم بذاته. دولفوا الذي أنتج كلواكا عام ٢٠٠٥ وكلواس (يستند هذا المقال الى تحقيق بعنوان الفضائح نشر في بوزار الفرنسية) آلة لانتاج الخراء عبر الآليات ذاتها التي يعتمدها الجسد الانساني. دولفوا لم يكتف بماكينته بل استمر في صناعة الفضيحة. وفي ٢٠٠٥ رسم المسيح على ظهر خنزير. داميان هيرست الذي غرس في بقرة حية عشرات السهام عارضا اياها تحت اسم »سان سباستيان« القديس الاشكالي الذي ربط وقتل بالسهام. داميان هيرست يعود الى تحنيط حوت حقيقي ايضا. انها فضائح قصيرة العمر، لكنها تثير في وقتها وتصنع نجوماً ايضاً. لم يعد في وسع فضحية ان تشكل مفصلاً بالطبع. ليس زمن دوساد وفلوبير وبودلير ود.هـ. لورنس، اذا استعدنا ما يجيء عفوا على الخاطر، ليس زمن ميكال انج الذي لم يفرج عن عراته في جدارية القيامة في كنيسة سيكستين الا بعد ان قام تلميذ له بتستيرهم في مواضع فحولتهم. ليس زمن كارافاجيو الذي جعل المقدس دنيويا وأعطى المسيح وحوارييه ومريم صورة العائلة البرجوازية يومها، ليس حتى زمن بالتوس المولع بالصغيرات ولا بيكون المثلي العتيق والقاسي، ولا جان جينيه اللص المثلي، ولا هنري ميلر الذي بال في المحكمة ولا بوكوفسكي الذي مر بيديه على فخذي جارته في برنامج ابوستروف. لقد انتهى هذا الزمن. اذا كانت شارته الكبرى هي »مبولة« دو شان التي وقع عليها باسمه وعرضها في معرض فني. هذه البادرة افتتحت عصراً كاملاً. انها في نظر البعض انقلاب كامل في مفهوم الفن، وما زلنا نتكلم عنها لكننا لا ننظر الا هنيهة الى علب الخراء التي تحمل عنوان »خراء الفنان« وتباع تحت هذا الاسم، ويقال ان لويس الرابع عشر كان يحتفظ بفضلاته في صناديق ثمينة يعرضها على ضيوفه. ننظر الى هذه العلب ثم ننساها وصاحبها. كان الدين والجنس هما موضوعا الفضيحة الأساس. الآن لا تستفز البورنوغرافيا أحداً، أما الدين فلا يحرك ساكنا ازاء اعتداء »الفن« عليه. اذا احتجت الكنيسة حديثا، بدون آبه ولا مهتم على تمثال الضفدع المصلوب فان ثمة عملاً آخر منذ اكثر من عشر سنين يمثل الصليب كما هو غارقا في حوض من البول. أما المسيح الاصفر والمسيح الانثوي والمسيح المثلي فهي أعمال ابتلعتها الكنيسة على مضض مع ذلك لا زال رواد الفضيحة الى الآن يداعبون الكنيسة حين تعز الموضوعات فالمقدس حتى ولو بلي وبات بدون دفاع لا يزال الاعتداء عليه مشهوداً. لكن الكثيرين يجدون في هذا الضرب من الاعتداء استعراضا رخيصا، فقد علق احدهم على رسم دولفوا المسيح على ظهر خنزير بأنه عمل جبان، ليست المسيحية التي تنجِّس الخنزير ولكن اليهودية والاسلام، ودولفوا الذي تعرض للمسيح، في غير الموضع المناسب، فعل ذلك لأنه أقصر يداً من ان يطال اليهودية والاسلام. الأولى تتحصن باللاسامية والثاني يدافع عن نفسه بيده، ولنا في عواقب الرسوم الدنمركية ومقتل فان غوغ، شاهد.
من حق بروتون ان يتنهد لأن الفضيحة ابتذلت وشاعت. الآن نتذكر مبولة دونسان لكننا لا نعير انتباها لكل هذا اللعب بالبول والدم والخراء فهذه الآن، بعد ان غدا المقدس بلا حول، ولم يعد الدين والجنس غرضاً. غدت الاستفزاز الممكن لكنه استفزاز عرضي وعابر. صناع الفضيحة اليوم ينتجون بوتيرة تجارية، سرعان ما يتشبع السوق وتستوفي الحاجة ويتطلب الأمر منتجا جديداً. هل انتهى المحرم وزالت التابوات، البعض يقولون ان الأمر ليس تماماً هكذا، لكل زمن محرمه. اذا كانت لوليتا مرت من نصف قرن فان من الصعب ان يتيسر لها ذلك الآن، لم تكن البيدوفيليا حراماً يومذاك وصارته اليوم. هناك ايضا الصحة والبيئة انهما الدين الجديد، البورنوغرافيا ميسورة الآن لكننا لا نعلم اذا كان ممكنا بعد في السينما والأدب تصوير التدخين كمتعة، ولا نعرف اذا كان سيأتي يوم لا نرى فيه مشهد تدخين على الشاشة الا ويتذيل بعبارة من مثل »التدخين مضر للصحة ويسبب السرطان« كما هي الحال اليوم في اعلانات السجائر. لم يعد الدين حرما لا يمس، لكن الدين المعني هو المسيحية. اليهودية غير مباحة على هذا النحو ولا الاسلام. لا ننسى ان فضيحة العصر هي رواية سلمان رشدي »آيات شيطانية«، لا ننسى مجددا ما تسببت به الصور الدنمركية. اما اليهودية فسرعان ما تتترّس بمعاداة السامية وهكذا تجد نفسها محمية بقوانين لا تحمي المسيحية ولا غيرها من الأديان. هناك البيئة ايضاً، لا نعرف إلى متى نستمر في رؤية الأكياس البلاستيكية والقناني المضغوطة على الشاشة. بدون تحذير، لكن هذه مسألة شائكة اكثر فحين يحين الوقت لذلك سيكون العالم قد تغير تماماً. لست مع التدخين ولا التلوث لكن المسألة ليست هنا، المسألة هي في مفهومنا عن الفن. هل يمكن العودة، تحت أي اسم، الى البطل الايجابي، الى الفن التربوي، إلى حجب الراهن لحساب المستقبل، إلى تقديم الايديولوجيا والدعوة على الواقع. هل نبالغ في خوفنا، هل الانتكاس مستحيل ام اننا نرتكس في حقول أخرى الى ما هو دون ذلك. في السياسة مثلاً لا يقول محور الشر او التبسيط الامبريالي شيئاً آخر، الانتكاس ممكن ويمكن للبشرية أن تخسر في يوم ما راكمته سنين طويلة.
ماذا عن العرب والفضيحة، يبدو السؤال غريباً لكثيرين. ثمة فضائح بالطبع في تاريخنا الفني لكنها تبقى فضائح ولا تتحول الى محركات أو دوافع أو عوامل. الفضيحة تبقى في نطاق الطرفة او النادرة لكننا في وعينا المحافظ نراها أقل من ان تعمل في التاريخ. تسلينا أخبار ابن ابي ربيعة والعرجي وبشار بن برد وأبو نواس وابن الرومي والمتنبي وديك الجن الحمصي والمعري لكننا لا نعول عليها في نظرنا إلى آثار هؤلاء ولا في نظرنا إلى سياق التجديد الأدبي. تقول ان ابو نواس صاحب فكاهة ربما بالمعنى الذي تقصده حين تقول ذلك عن ان اشعب او جحا او حتى آل الخازن، ولا نقدر ان هذه الفكاهة اصل في العالم النواسي كله واننا بدونها لا نستطيع ان نتكلم عنه او نقدم عمله. ثم ان هذه ليست الفكاهة فحسب، انها اكثر من ذلك، انها الفضيحة. انها الهرطقة والاحتجاج والتجديف وقد استحالت قوة لاعبة هازلة، ولو جمعنا أبو نواس الى اصحابه ووضعناه في محيطه لبدا لنا اننا أمام ظاهرة او تيار او مخاض ثقافي. يمكننا بالطبع ان نتكلم هكذا عن ابن ابي ربيعة وشعراء الغزل الأموي، عن بشار بن برد وابن الرومي والمتنبي وسواهم. لم يكن هؤلاء متوافقين مع زمانهم وعالمهم، كانوا غرباء ومعترضين وفي صراع مع انفسهم ودنياهم. كانوا بكل المعاني فضيحة صارخة، ثم الا يبدو بالنسبة لنا عجيباً ان اكبر شعرائنا وأدبائنا القدامى ذهبوا بعيداً في الصراع إلى أن استحقوا القتل. لا نزال نظن ان مقتل بشار بن برد واحدة من نكاته، وأن ابن الرومي قضى بنكتة وان ابن المقفع ذهب بنكتة مماثلة، وعبد الحميد الكاتب مات في مثلٍ عن الوفاء والمتنبي ذهب ضحية كبر رأسه وقصيدة خجل بها، أن العرجي قضى في سبيل متعة وسنقول بالطبع ان المعري اعتزل زهداً وديك الجن قتل غيرة. لا يمكننا ان نتخيل الأدب والفن الا جداً في جد، ولا يسعنا ان نجد فيهما دخلاً للمزاج والطبع والمزاج، بل نستكثر ان يكون فيهما اثر الانحراف والشطح ونستبعد ان يولد الخلق من انحراف وزيغ واختلاف. لا نزال نحاسب المتنبي على كبريائه وأبو نواس على مجونه وبشار بن برد على تجديفه وابن الرومي على وسواسه والمعري على سوداويته وابن المقفع على خفته (كما قيل) والعرجي على شهوانيته وعمر بن ابي ربيعة على لهوه، بل ونخترع لهم ألفاظاً تشعر بالبون ما بين حياتهم وفنهم، دون أن ننتبه إلى أن ما نعجب له لدى شعراء وأدباء أفاضل فحول وما نراه شذوذا وضعفا، هو في النهاية حياتهم كلها وربما فنهم كله. أن الفضيحة ليست في حياة هؤلاء بقدر ما هي موجودة في أدبهم. ان هرطقة ومثلية وعذاب أبو نواس الروحي ماثلة في شعر هو الأغنى. وان ما نراه كبرياء لدى المتنبي ليس من سخفه وتيهه ولكنه وتد في شخصيته وفي أدبه، وأن ابن الرومي وابن المقفع لم يذهبا بنكتة، أليس غريباً ان يكون شعراؤنا وأدباؤنا اكثر عرضة للقتل (والسلسلة أطول بكثير) ثم لا ننتبه الى ان ذلك حدث في صدام كبير، وأن تاريخ الأدب والفن قد يكون تاريخ هذا الصدام، وان الفضيحة التي تهمشها هي ديناميته وأساسه.
انه تاريخ يندر شبهه في تواريخ الأدب. لم يُرفع هذا العدد من الرؤوس العظيمة في كل الآداب ولم يُواجه استبداد مماثل بهذا القدر من الهرطقة والسخرية والمجون والاحتقار المدويين. يتكلمون عن الارتزاق كثيرا وينسون ان القتل هو الوجه الآخر. يفضلونهم مرتزقة على أن يكونوا لاعبين ساخرين صاخبين بفضائحهم. انه تاريخ لا نجد له مثيلاً في حاضرنا. »في الشعر الجاهلي« لطه حسين عمل قوي لكن اينه من شعر ابي نواس. »أولاد حارتنا« رواية استفزازية لكن اينها من المعري والمتنبي. انها أمثلة جيدة لكنها دليل آخر على ان الفضيحة انقطعت، لم تستنفذها لكنها انقطعت، لقد صرنا وراءها، وما نفعله اليوم هو الدليل على أننا لم نفهمها ولم نعــرف ماذا فعلت فينا او في ثقافتنا، بل على أننا بذلك لا نفهم ماذا فعلــنا وماذا كنا في الماضي. حين يصرخون بالأصالة والماضي والــتراث العــربي يكفي أن نخرج لهم من القبعة او الكم ابو نواس او المتنبي ليولوا وجوههم. لكن هذا يا سادة هو تراثنا، انه فضيحة وخير لكم أن تبقوا في جدكم، في زمنكم الذي ليس ماضيا ولا حاضراً ولا مستقبلاً لأنه زمنكم فحسب.
السفير