هل ما زال النقد الجمالي ممكناً؟
عابد اسماعيل
أضحت فكرة الفنّ للفن من إرث الماضي السّحيق، بخاصّة بعد التطور المذهل في طرائق القراءة ونظريات التأويل، ودخول النص الأدبي شبكة لا متناهية من العلاقات النصّية، محكوماً بإحالاته التاريخية والفكرية والأدبية. وانتهت رحلة القصيدة التي لا تشيرُ إلاّ إلى نفسها، منفيةً عن بؤرة ذاتها، وشروط تحقّقها كفعل لغوي في الدرجة الأولى. ولعلّ الرّبط الحرفي بين القصيدة والعالم كان سبباً رئيساً في خلق وهم المسؤولية، وشيوع مفهوم الالتزام بمعناه الضيّق. فالقصيدة التي لا تتحدّث عن «قضية» بذاتها باتت ضرباً من ضروب التنجيم أو الفانتازيا المجانية، خصوصاً إذا كانت تقوم على رؤيا صافية للعالم، وتخلو من شوائب الفكر المسبق أو العقيدة الجاهزة. ولطالما اتُهم أدونيس بالنخبوبة والغموض لأنه يتطرّق في شعره إلى موضوعات فلسفية وجمالية خالصة. كما أنّ نقّاداً كثراً اعتبروا أنسي الحاج مجرّد شارح لجمل إنجيلية، يعيد صوغ مضامينها شعراً، فكان أن صُنّف في عداد شعراء النخبة، المنقطعين عن شرطهم التاريخي. الشاعر محمود درويش نفسه مرّ بمرحلتين، في الأولى كان لصيقاً بالجملة المقاتلة، المباشرة، الملتزمة، وقيل عندئذ إنه شاعر «القضية»، لكنه عندما انتقل بخطابه الشعري إلى مستويات بلاغية وفكرية مختلفة، كما تُظهر دواوينه الأخيرة، بدأ بعض النقاد يتحدّثون عن ابتعاده من هموم وطنه، ومن وقوعه في شرك المجاز «الباذخ»، الذي لا يخفي جنوحه نحو الغموض.
ولكن علينا أن نتذكّر أنّ أفلاطون طرد الشعراء من جمهوريته ليس لأنّه ضدّ الشعر، كما يحلو للبعض أن يعتقد، بل لأنه يصرّ على أن تُوضع القصيدة في خدمة ما يسمّيه الأخلاق، وأن تكون وفية للحقيقة. وحقيقة الأمر أنه من تلك الرؤيا التعليمية انطلقت شرارة ما يُسمّى الالتزام، التي طوّرها لاحقاً النقد الأيديولوجي، بكل أنماطه، عبر دعوته الى تشييد علاقة عضوية بين المجاز والواقع، الرّمز والحقيقة، النصّ والعالم. ولكنّنا نعلم أن أفلاطون، فيلسوف المذهب المثالي، لا يمكن أن يكون عدوّاً للفنّ، باعتبار أنه يرى العالم المحسوس محاكاةً متأخّرة لعالم المثل، الغامض والنائي أصلاً، وبالتالي فالواقع ذاته ليس سوى صدى خافت لفكرة الحقيقة الأولى، التي لا تمكن مقاربتها بالحواس الخمس، بل عبر شحذ قوى شعرية خفية وصقلها، كمَلَكة الحدس، تتيحُ للعارف ولوج فلك المعنى، متحرّراً من سطوة العقل. من هنا منبعُ التناقض في رؤيا أفلاطون، فمن جهة يدعو إلى الالتزام ولجم المخيلة، ومن جهة أخرى ينادي بتجاوز المرئي والمحسوس والابتعاد من العقل ومنظوماته الأخلاقية، وقبول فكرة الانزياح التي تؤسّس أصلاً لكلّ رؤيا شعرية.
هذا يقودنا للقول إنّ القصيدة ليست محاكاة آلية للواقع أو إعادة إنتاج له، بل ملامسة مرتعشة لأصدائه وظلاله اللامرئية. فالقصيدة في جوهرها وقفة جمالية من العالم، والتزامها مرهونٌ بسلامتها الفنّية أولاً وأخيراً، وليس بفحوى الرّسالة الأيديولوجية التي تريد نقلها، أو إيصالها إلى القارئ. ومدرسة الفنّ للفن، التي دعت الشاعر إلى الانسحاب من العالم، والانزواء في برجه العاجي، لم تكن تدعو البتة الى التخلّي عن الحقيقة الشعرية، بل الارتقاء بها إلى مرتبة المثال الأفلاطوني. وهذا ما أطلق عليه كانط «المسافة الجمالية»، التي تعلّم منها جيلٌ كامل من الرومنطيقيين الألمان، وعلى رأسهم غوته وشيللر، وألهمت إليوت في فكرته عن المعادل الموضوعي. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين عاد الاهتمام قوياً بالرّوح الجمالية مع شعراء ونقّاد من أمثال كولريدج وأوسكار وايلد وإدغار بو، وكان البحث عن المتعة الجمالية بمثابة ردّ فعل مباشر على طغيان المادّية المفرطة، وشيوع قيم المجتمع الاستهلاكي، التي أصابت الرّوح الإنسانية بعدوى التشيؤ، ما جعل شاعراً حديثاً مثل ولاس ستيفنس يقول: «كل قصيدة هي قصيدة داخل قصيدة»، متمّسكاً بما سماه «الخيال الأسمى»، ومنزوياً في صومعة لغوية صافية، تقوم على التأمّل الجمالي للعالم.
هذا، في الحقيقة، ما يؤكده الناقد الأميركي هارولد بلوم حين يصرّ على أنّ النقد الجمالي يعيدنا إلى استقلالية الأدب المتخيّل، وسيادة الرّوح الوحيدة، وإلى القارئ، ليس بصفته شخصاً في مجتمع، بل ذاتاً عميقةً، تمثّل جوّانيتنا (inwardness) المطلقة. ويؤكد بلوم أنّ عمق الجوّانية لدى كاتب قوي مثل دانتي أو شكسبير يشكّل قوةً تخفّف من العبء الثقيل لمنجز الماضي، وتحمي الأصالة الإبداعية من الانسحاق، حتى قبل أن تولد. لقد وصف بورخيس نفسه بالقارئ «المتعوي» الذي يقرأ الكتب بحثاً عن المشاعر الجمالية، مهملاً التعليقات والحواشي: «عندما قرأتُ الكوميديا الإلهية للمرّة الأولى، خُطفتُ من نفسي بعيداً». حال الانخطاف تلك منبعها قدرة فائقة على التذوّق الجمالي، والتي تعرف جيداً كيف تتصيّد المتعة الهاربة من شقوق الرّصانة، وتجيد الإصغاء الى موسيقى المعنى، لا المعنى ذاته، بخاصة تلك الإيقاعات التي تتصاعد خلسة من الكسور الخفية التي يضمرها كلّ خطاب أدبي. لقد راهن الشاعر الكلاسيكي الصّيني لو – جي (261-303) على ما سماه «متعة الكلمات»، القادرة على ابتكار حياة جديدة من الفراغ، واستنطاق السّكون ذاته: «الكتابةُ متعةٌ/ لذلك يمتهنها القدّيسون والمفكّرون./ الكاتب يبتكرُ حياةً جديدة في الفراغ/ ينقرُ على الصّمت لكي يصنع صوتاً». هذا ما فسّره لاحقاً الشاعر الفرنسي مالارميه بالشّعر الصافي الذي يقترب من تخوم الموسيقى، عبر تناغم الفكرة مع الصّورة، والمبنى مع المعنى.
لو – جي يدعونا إلى تعلّم مهارات التذوّق الجمالي، من خلال الإنصات الى الصّمت الكامن في اللّغة، وليس عبر تطبيق نظريات جاهزة، وإسقاطها آلياً على النصّ الأدبي. لقد شرح النقد العربي المعاصر معظم النظريات النقدية الحديثة التي ولدت في الغرب، من بنيوية وتفكيكية وتاريخانية وسيميولوجية وسيميائية… وسواها، وطوّر مناهجه وأدواته بالاستناد إليها، لكننا، كقرّاء، لم نزدد معرفةً عن ذي قبل، ولم ينل النص الأدبي حقّه من التحليل والتفسير والتأويل، وغابت، وهذا هو المهمّ، الرؤيا الجمالية للغة، بصفتها شرطاً من شروط تحقّق النصّ في العالم، ما أفسح في المجال للنقد المعياري الأيديولوجي (الماركسي والتاريخاني)، بالهيمنة وتخريب الذائقة. إنّ النقد العربي الحديث مدعوٌ لإعادة النظر بأدواته ومناهجه، التي أصابها «عمى» بنيوي مزمن، مردّه الجنوح الآلي للبحث عن ذرائع مسبقة للنص، واختلاق مبرّرات خارجية لوجوده، متناسياً لذّة النصّ ذاتها، وتلك الغبطة الخفية التي تتجاوز الوظيفة التواصلية للصور والاستعارات، والتي تنتظر منّا أن ننقر بأرواحنا على أوتارها الخفّية، لنسمع صوت المعنى، يأتي حرّاً طليقاً، لا نهائياً.
الحياة – 02/10/08