بكر صدقيصفحات سورية

الانسحاب التركي المفاجئ من شمال العراق

null

بكر صدقيء

كان الانسحاب العسكري التركي من شمال العراق مفاجئاً لجميع المراقبين. وفي حين حاولت قيادة أركان الجيش إعطاء الانطباع بأن توقيت الانسحاب يتعلق باعتبارات عسكرية بحتة، أي الحفاظ على أمن القوات المنسحبة، اختبأت الحكومة وراء «التنسيق الكامل» مع قيادة الأركان، والاتفاق معها على أن العملية حققت الأهداف الموضوعة لها. أما المعارضة المتمثلة برلمانياً في حزبي الحركة القومية والشعب الجمهوري، فقد عبرت عن خيبة أملها بالنهاية السريعة للعملية، وانتقدت الحكومة على تنفيذها الفوري للطلب الأميركي بالانسحاب من شمال العراق.

وخارج تركيا كان الانطباع العام متوافقاً مع رؤية المعارضة البرلمانية، فمن حق المراقب الخارجي ربط الانسحاب بزيارة وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس لأنقرة وطلبه الصريح من الحكومة والجيش التركيين إنهاء العملية البرية بأسرع وقت. حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان المعتقل في سجنه التركي، استغل بدوره هذه البيئة السياسية – الإعلامية ليؤكد فشل العملية العسكرية التركية عبر الإعلان عن مقتل خمسة فقط من مقاتليه مقابل مقتل المئات من أفراد الجيش التركي، في الوقت الذي أعلن فيه الطرف التركي أرقاماً معاكسة.

يأخذ المحلل السياسي التركي جنكيز تشاندار على الحكومة تخليها عن المبادرة السياسية لصالح قيادة الجيش، ناعتاً جهل رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان بموعد الانسحاب العسكري بـ»الفضيحة». وبالفعل فقد تم الإعلان عن كلمة سيوجهها رئيس الحكومة إلى الأمة تتعلق بالعملية العسكرية الجارية في شمال العراق، قبل يوم واحد من حدوث الانسحاب، وتم توزيع الكلمة المسجلة على وكالة الأنباء الرسمية، على أن تذاع في اليوم التالي. وبعد شروع الجيش بالانسحاب الفعلي، تم سحب كلمة أردوغان وتعديلها، ما سبّب حرجاً كبيراً له.

والحال أن الإدارة الأميركية دأبت على وضع حلفائها، في مناسبات مختلفة، في حالة مشابهة من الحرج. فالغزو البري لشمال العراق، والذي لا يشك أحد بأنه تم بضوء أخضر أميركي، أحرج حلفاء واشنطن في حكومة إقليم كردستان أولاً، وفي الحكومة المركزية في بغداد ثانياً، الأمر الذي حاولوا التغطية عليه، بلا جدوى، ببيانات الاستنكار أو مطالبة الأتراك بالانسحاب الفوري. وبالمثل وجد القادة الأتراك، سياسيين وعسكريين، أنفسهم في حرج شديد أمام الرأي العام المحلي، حين اضطروا لإنهاء عمليتهم العسكرية بصورة مفاجئة. ويلفت تشاندار، في مقالة له في جريدة الريفيرانس اليومية، النظر إلى التشابه بين حرب صيف العام 2006 في لبنان والغزو التركي الحالي لشمال العراق. ففي المناسبتين كان المايسترو الأمريكي وراء الموافقة على بدء العمل العسكري (الإسرائيلي ثم التركي على التوالي) كما كان وراء الأمر بالتوقف؛ وفي المناسبتين أدت الحرب إلى إضعاف حليفين محليين للولايات المتحدة (حكومة الأكثرية النيابية في لبنان وحكومة إقليم كردستان على التوالي) وقوّت في الحالة الأولى حزب الله، ويمكن أن تؤدي إلى نتيجة مماثلة فيما يتعلق بحزب العمال الكردستاني، إذا لم تبادر حكومة أردوغان إلى «هجوم سياسي» يتمثل بطرح حل سياسي معقول للمشكلة الكردية في تركيا، مع العلم أن شروطاً كثيرة متوفرة لإطلاق عملية سياسية من هذا النوع، أهمها الشرط السيكولوجي الناجم عن العملية العسكرية نفسها، ويمكن وصفها بحالة من الإحباط مردها الشعور العام بأن تركيا عاجزة عن فعل شيء بدون موافقة أميركية، وفقط بحدود هذه الموافقة، الأمر الذي يمكن أن يخفض من نبرة دعاة الحرب ويفتح المجال واسعاً للاختراق السياسي؛ وثاني تلك الشروط وجود حزب المجتمع الديموقراطي في البرلمان، ومعروف بأنه يشكل الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، وقد بادر رئيس كتلته البرلمانية أحمد ترك، الذي يعد من جناح الحمائم في الحزب، إلى إطلاق تصريحات إيجابية بعد ذيوع خبر الانسحاب العسكري، فأعلن بأنه أوان العمل على إيجاد حل ديموقراطي سلمي للقضية الكردية؛ وثالثها ضغط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة معاً على الحكومة التركية من أجل إيجاد حل مماثل.

ويأخذ المثقفون الديموقراطيون من تيار الجمهورية الثانية خاصةً، الذين دعموا حزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات النيابية، كما دعموا ترشيح عبد الله غل لرئاسة الجمهورية، على حكومة أردوغان تراخيها في الإصلاحات السياسية التي وعدت بها، وعلّقوا عليها آمالاً عريضة باتجاه التحول الديموقراطي وتحجيم دور المؤسسة العسكرية وإعطاء دفعة قوية لمسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. غير أن الأشهر الستة المنقضية من عمر الحكومة كانت بالنسبة لهم مخيبة للآمال، فلم تخط الحكومة خطوة واحدة نحو إلغاء القوانين المقيّدة للحريات (خاصةً المادة 301 السيئة الصيت من قانون العقوبات التي تدين امتهان الهوية القومية التركية، وحوكم بموجبها عدد كبير من ألمع مثقفي البلاد وأشهرهم أورهان باموك الذي انتهى إلى الهرب من البلاد بفعل التهديدات بالقتل، والكاتب الأرمني هرانت دينك الذي ذهب ضحية اغتيال أوائل العام الماضي) أو نحو إيجاد حل سلمي للمشكلة الكردية أو مشكلة التمييز ضد الأقليات الدينية والمذهبية، أو نحو تطبيق معايير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. بدلاً من ذلك كله، فضلت الحكومة الانحناء أمام مشيئة العسكر فأعطتهم زمام المبادرة بملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني ما وراء الحدود، ما استتبع بدوره ارتهاناً للإرادة الأميركية، فضلاً عن تسميم أجواء البلاد بنزعة عسكرية حربوية تهدد بشروخ أهلية قد تصعب معالجتها.

فإذا أضفنا إلى ذلك كله موضوع تحرير ارتداء الحجاب في الجامعات الذي أعطته الحكومة أولوية على ما عداها من مشكلات جسيمة تواجه البلاد، وتسبب باستقطاب سياسي حاد، كانت النتيجة أن حكومة أردوغان باتت رهينة العسكر من جهة، وحزب الحركة القومية المحافظ الذي تحالفت معه من أجل تمرير قانون الحجاب في البرلمان من جهة ثانية، والإدارة الأميركية من جهة ثالثة، مبـددةً بذلك رصيدها الشعبي الكبير الذي نالته في الانتخابــات النيابية والرئاسية الصيف الماضي.

كاتب سوري

الحياة – 08/03/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى