نوبل الآداب للـوكليزيـو
اسكندر حبش
لم تخب التوقعات هذه السنة. فاسمه كان حاضرا في جميع الصحف ووكالات الأنباء التي تحدثت، منذ أيام، عن احتمال فوزه بجائزة نوبل للآداب لهذا العام. هو نفسه كان ينتظر الجائزة. هذا ما قاله في حديثه الإذاعي على راديو »فرانس أنتر« قبل ساعات قليلة من إعلان الجائزة. سأله مقدم البرنامج »هل تتوقع فوزك بالجائزة؟«. فأجاب »إنها جائزة أدبية وكلّ كاتب يتوقع الفوز بها، فلمَ لا«. من هنا تبدو الحياة سهلة جداً في بعض الأحيان. هذا ما بدت عليه قصة الكاتب الفرنسي جان ـ ماري غوستاف لوكليزيو التي كافأته اللجنة الملكية السويدية بجائزة نوبل للآداب، قائلة في بيان إنها قررت منح الجائزة للكاتب »صاحب المغامرة الشعرية وكاتب النشوة الحسيّة والباحث عن الإنسانية داخل وخارج الحضارة السائدة«. وبعد إعلان النبأ قال: »إني أشعر بالامتنان والفخر… هذا شرف كبير… أشكر الأكاديمية السويدية«. وبذلك يصبح لوكليزيو الكاتب الفرنسي الخامس عشر الذي يفوز بجائزة نوبل.
يعتبر لوكليزيو، بحق، أحد »معلمي« الأدب المعاصر في فرنسا أو أيضا أحد معلمي الآداب الفرنكوفونية، فهو على الرغم من ولادته في مدينة »نيس« إلا أن أصوله تعود إلى »جزر موريشيوس« وقبلها إلى منطقة »بروتاني« التي هاجر منها أجداده. أما إذا كان كاتبا فرنسيا أو فرانكوفونيا فلوكليزيو يقول إنه لا يستطيع تمييز ذلك »لقد ولدت في فرنسا، ووالدي كان بريطانياً، وقد ولدت من هذا المزيج، كالكثير من الناس في أوروبا«. في أي حال هو صاحب عمل خصب وغزير ومتنوع اعتبره النقاد نقداً عميقاً للحضارة المدينية المتوحشة كما انه نقد للغرب المادي.
ج.م.غ لوكليزيو (كما يوقع كتبه) رحالة كبير، روائي الوحدة والتيه، والمعجب بأدب ستيفنسون وكونراد، هو منذ فترة طويلة كاتب ـ »معبود« في فرنسا، إذ يعرف إقبالاً كبيراً من القراء على أدبه على الرغم من تطّلبه الأدبي أي ابتعاده عن السهولة والمجانية. أطلقت عليه ألقاب كثيرة منها »الكاتب المترحل« و»الهندي في المدينة« و»الأحادي المدهش«، وهي ألقاب مبررة إذ عرف عنه عشقه للطبيعة، كما أنه أبدع فضاء متخيلاً تحاورت فيه شعوب »المايا« و«الإمبراس« (هنود باناما) كما »بدو« جنوب المغرب مع المارونيين (العبيد الذين هربوا من التوطين من جزر موريشيوس).
ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات (بما فيها العربية)، وهي أعمال تشير إلى حنينه للشعوب البدائية، إذا جاز القول. ولغاية الثمانينيات كانت صورته المعروفة عنه بأنه كاتب مجدد وثائر، وقد تمركزت كتاباته حول موضوعات الجنون واللغة، لكنه بعد ذلك مال إلى تأليف كتب أكثر هدوءاً، حيث الطفولة وهاجس الأقليات والميل إلى السفر كانت تشكل الموضوعات المفضلة عنده، والتي أصابت بدورها الجمهور العريض.
ولد لوكليزيو في ١٣ نيسان من العام ١٩٤٠ في نيس من عائلة بروتونية (ويعني اسمه باللغة البروتونية »الأرض المسورة«) هاجرت إلى جزر موريشيوس في القرن الثامن عشر، وقد عاش في نيجيريا فترة بدأت في العام ،١٩٤٨ يقول كثيرون إنها كانت »انتقالية«. والده، »ذو أصول انكليزية« (أي ذو أصول بروتونية)، كان طبيباً أما أمه ففرنسية. بعد أن حاز إجازته في الآداب عمل في جامعة بريستول ومن ثم لندن، حيث أعد رسالة الدكتوراه عن الشاعر هنري ميشو. في السبعينيات، سافر إلى المكسيك وباناما، حيث أقام عدة سنوات بالقرب من الهنود، (ما بين ١٩٧٠ و١٩٧٤) حول هذه الفترة قال: »لقد بدلت هذه التجربة حياتي بأسرها كما أفكاري عن عالم الفن، كذلك طريقتي في التعامل مع الآخرين وطريقة أكلي وسيري وكيف أنام وأحب وحتى بدلت أحلامي«.
قيل عن رواياته بأنها روايات »ميتافيزيقية ـ متخيلة«، لكنها تعتمد على الكلاسيكية والشفافية، لهذا تتراءى أحياناً بأنها بسيطة، لكنها بساطة خادعة، من هنا كان يعيد فيها طرح السؤال حول أسس الأدب التقليدي من دون أن يلجأ إلى السطحي والظاهري، لكن برغبة أن »أبحث في أكثر الأشياء مأساوية، في أكثر الأشياء صدقاً، كي أجد اللغة التي تمزق والتي تحمل الأحاسيس والتي يمكن لها، ربما أن تحول الظلال إلى ليل«. ويضيف: »أشعر بأنني شيء صغير على هذا الكوكب ويساعدني الأدب على التعبير عن ذلك، فلو لجأت إلى فلسفة ذلك لقالوا عني إني واحد من أتباع روسو لم يفقه شيئاً«.
منذ العام ٢٠٠٢ اختير لوكليزيو ليكون عضواً في هيئة تحكيم جائزة »رونودو« (وهي من الجوائز الأدبية الخمس الكبيرة في فرنسا)، وكان فاز بهذه الجائزة وهو بعد في الثالثة والعشرين من عمره (العام ١٩٦٦) عن كتابه الأول »المحضر الرسمي«، بعد أن خسر »غونكور« بفارق صوت واحد. روايته هذه كانت السبب في إدخاله ـ وبصخب ـ إلى عالم الأدب. وقد تبعتها »الحمى«، »الطوفان«، »الانخطاف المادي«، »الأرض المعشوقة«، »كتاب الهروب«، »الحرب«، »رحلات إلى الجانب الآخر«، »صحراء«، »الباحث عن الذهب«، »رحلات إلى رودريغ«، »أونيتشا«، »نجمة هاربة« (عن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي)، »ديييغو وفريدا«، »السمكة الذهبية«، »ثورات«، »أورانيا«، وكتابه الأخير الذي صدر منذ أيام »لازمة الجوع«.
كتب تتوزع على مختلف الأنواع الأدبية، إذ تتضمن روايات وحكايات وأبحاثاً وقصصاً قصيرة وترجمات للأساطير الهندية القديمة، وكذلك نصوصاً مرافقة لكتب صور فوتوغرافية…
في العام ١٩٦٧ خدم لوكليزيو عسكريته في تايلاند، لكنه سرعان ما طرد من هناك بعد أن فضح ما كان يرتكب بحق الأطفال من دفعهم إلى ممارسة الدعارة، ليرسل إلى المكسيك لإتمامها. وهناك، تعرف إلى حضارة الهنود التي سحرته طيلة عمره.
في العام ١٩٩٤ اختارته مجلة »لير« الشهيرة، أكبر كاتب فرنسي حيّ، وقبل جوليان غراك. وحينما سئل عن ذلك قال إنه »يعتبر جوليان غراك أكبر كاتب فرنسي حي«. ربما بعد رحيل غراك من فترة قليلة، لا بد أن نعتبر لوكليزيو واحداً من كبار كتاب فرنسا بحق.
السفير