الكاتب المغامر يخوض كابوس الحرب الثانية في روايته الجديدة «لازمة الجوع»
بشير مفتي
لعل أهم ما يتسم به أدب لو كليزيو هو أنه أدب خارج التصنيفات السائدة. لقد مثل وحده مجموعة من التيارات المتعددة في الرواية الفرنسية منذ «المحضر» عام 1963 التي نالت جائزة رينودو والتي ظهرت فيها تأثيرات الرواية الجديدة، ليتغير هذا المسار مع التحولات التي عرفها لاحقاً هذا الروائي الشغوف بالبحث، والسفر والترحال ليس بغاية السياحة كما يفعل الكثير من الكتّاب الأوروبيين، بل للبحث عن معرفة عميقة بالآخر، معرفة جعلته في النهاية يتحاور مع مختلف الجغرافيات في المعنى الطبيعي والثقافي. وأصبحت الإضافة النوعية له هي هذا التنقيب الجمالي في جماليات الآخر، وثقافاته المحلية وصيغ تعبيره الشعبية ودمج كل ذلك في كتابة روائية ظلت دائماً محل سحر وجاذبية للقراء في مختلف انحاء العالم.
رواية لو كليزيو هي رواية اليوتوبيا الموجودة على الأرض ولكن اليوتوبيا التي لا نريد العيش فيها ولا نرغب، لأن العصر يفرض علينا نمط حياة متوهماً على الحياة الحقيقية التي تنشدها اليوتوبيا المهملة، والتي يعمل لوكليزيو على إعطائها صورة ومشهداً، مثلما هو الشأن في رواية «أورانيا» حيث الحياة في «كامبوس» مختلفة عن الحياة في أي مكان آخر. ولعلها دفاع عن طفولة بريئة لا يزيفها عالم الكبار ولا يحشرون أنفهم في تصرفات الصغار. تعكس كامبوس مدينة الفردوس المفقود، عالم البراءة قبل ان يتلوث، وجود الكون على فطرته الأساسية، الحياة المحلومة للبشرية قبل ان تعصف بها أطماع التحولات العصرية. إنها الإدانة المستمرة للقوة الرأسمالية التي شوهت حضارات عريقة وثقافات متجذرة في عمق التاريخ والحضارة الإنسانية مثلما هو الأمر مع «سمكة من ذهب»، أو «صحراء» أو «ثورات». إنها رواية الحلم البشري الأولى في أنصع صوره بخاصة عندما نقرأه بلغة لو كليزيو الساحرة وبأسلوبه الشعري الجميل.
لو كليزيو وباختصار، روائي كبير وشاعر متميز وكاتب مقال مختلف وراء كبير يستحق نوبل منذ زمن بعيد.
رواية جديدة
في مستهل روايته «لازمة الجوع» الصادرة حديثاً عن دار غاليمار، يقتبس لوكليزيو قصيدة للشاعر رامبو تحمل عنوان «بهجة الجوع»، وهي شهيرة بلازمتها الرنانة «إن كنت أشتهي، فوالله ليس التربة والصخرة بل أكثر (…) ارقص يا جوع حواسي، ارقص». الجوع… إنها لحقيقة راسخة، شبه شهوانية، تحفر في أعماق الجسد وتنتشر حتى التهام الإدراك. فتسود الحقيقة، وتصبح الكلمة مجازية. الجوع هو جوع إلى العدل إذاً.
تنبت «لازمة الجوع» من بين فصليْن يروي الكاتب فيهما سيرته الذاتية باختصار. في البداية يستعيد ذكرى التحرير – فهو أبصر النور عام 1940، ذكرى الشعور بالجوع الذي انتابه وتمكن من إشباعه أخيراً بفضل ذلك الرغيف «ولبه الناصع البياض، كبياض الورق الذي أخط عليه كلماتي هذه»، كما يقول مضيفاً: «إنّ ذلك الجوع متغلغل في داخلي. يستحيل أن أنساه. يضفي نوراً ساطعاً على طفولتي، نوراً حاداً يمنعني من نسيان تلك الفترة التي ربما كانت لتمحوها ذاكرتي لولاه…» وفي النهاية، لازمة أخرى يذكرها لوكليزيو – توازي لازمة رامبو رهبةً: قطعة «لو بوليرو» من تأليف الموسيقار رافيل. كانت والدة الكاتب، على قوله، والراقصة ايدا روبينشتاين من بين الجمهور الذي حضر العرض الأول. ومع انتهائها على أنغام العنف، يخطف السكوت الرهيب أنفاس الناجين». الزمان: 1928، المكان: باريس… أعوام قبل ولادته.
وما بين «التحذير» والخاتمة تلك حيث تنبش الذاكرة كل زواياها الفارغة، تبقى القصة، رواية ايثل. لا أحد يمكنه أن ينفي أنها من روائع اللوحات الأدبية التي خطها لوكليزيو، المرتجف والهش… لوكليزيو الذي لم ينغلق على نفسه ولم يُجسّد يوماً في تمثال رخيص ولم يكبَّل يوماً بين مطرقة الحقائق المعنوية الثقيلة وسندانها. وبالعودة إلى القسم الذي يتناول السيرة الذاتية، فهو يُختصر طوعاً على بساطة في التعبير. لا مكان للغموض والاعترافات إذاً، بل هو إشارة بسيطة في اتجاه الخصوصية. والمطلوب ليس إسكات تلك الخصوصية، ولا المغالاة في طرحها أيضاً. فوحدها الرواية ووحده الراوي قادران على امتلاك الواقع، ومعاودة نسجه… إنّ هذه المهمة تُقتصر عليهما من دون أحد آخر.
ذهبت إيثل لزيارة معرض الاستيطان في غابة فينسين، متمسكة بذراع خالها السيد سليمان، بكل ما أوتيت فتاة في العاشرة من قوة. نحن إذاً في العام 1931. ليس على حد قول الكاتب – فهو بالكاد يتوقف عند التواريخ. عام 1934 يرحل السيد سليمان عن الدنيا. هنا، التاريخ واضح. في تلك الحقبة، يمر العالم في حالة من الانهيار، وتنسحب أحلام الرجل المسن ليحل الكابوس مكانها. فتمسي أحاديث الزوار الذين يجتمعون في منزل أبويْ إيثل، ألكسندر وجولي، الكامن في شارع كوتانتان، باريس المقاطعة 15، صدىً لها… في البدء كان خافتاً ومن ثم بعيداً. «في تلك الفترة تقريباً، تناهى اسم هتلر إلى مسامع إيثل للمرة الأولى…».
لم يعد الزمن زمن ضحك ولهو، لكن الناس واصلوا الضحك واللهو، كانوا يدافعون عن آرائهم ويقاتلون من أجل أفكارٍ مسبقة يجهلون مدى تداعياتها. فظهرت معاداة السامية التي لطالما كانت مخفية في نفوس الفرنسيين، إلى العيان مجدداً، بكل براءة، وسرعان ما رسخها نظام «فيشي» والقوانين التي فرضها ضد اليهود. على بعد مسافة قصيرة من شارع كوتانتان، في ميدان الدراجات «فيل ديف»، يستعد عناصر الشرطة لتوقيف المواطنين اليهود. وبلمح البصر، يزداد الخطر، ويحوم الرعب حول الساحة، حتى يصبح حقيقة، وتتجرد الكلمات من كل براءتها… «إيثل، الابنة الوحيدة لأبوين محارَبيْن ومحارِبيْن، إيثل ابنة البيت المهدد، كانت تفتقر إلى روح الدعابة، هكذا كان ألكسندر ليصفها. فأبسط الأمور كان يكفي لإثارة سخطها». في مدلهمات اللاوعي واللا مبالاة، في ضباب الأوهام، دخلت اليافعة سن الرشد، وإدراك مجريات الأحداث يسكنها. عمرها الجديد هو أيضاً عمر العالم الجديد.
يسافر ألكسندر بران، ذلك الرجل المرح الذي تعوزه اللباقة والحنكة في التجارة، من جزيرة موريس إلى فرنسا. وفي صالون منزله البورجوازي يستضيف العمات المسنات بولين وويللمين وميلو. هناك كنّ يلتقين مع عدد من أشخاص تلك الحقبة، التي تربطهم علاقة مبهمة بسيد المنزل. «إنها قبيلة آل بران، هؤلاء الموريسيون المعرفون بأصواتهم التي تعلو المكان على الدوام، وبقدرتهم على نشر الضحك أينما كانوا، وبدعابتهم الممزوجة باللؤم… يستطيعون مجاراة أي خطيب، أيّاً يكن، لا تهمهم حتى أصالته الباريسية». في المقابل، أي من جانب جوستين، «تقف قبيلة سليمان، بأقليتها العددية وتخلفها الطبقي التام» عن آل بران. ولكن يوماً ما تبلغ إيثل الثامنة عشرة من عمرها. وعن ذلك اليوم، يروي لوكليزيو: «لم تعش أية تجربة، لكنها كانت ملمة بكل ما يدور من حولها وتفهم كل شيء، في حين كان ألكسندر وجوستين أشبه بطفليْن. بل مراهقيْن أنانييْن ومزاجييْن». عندما كانت في الثامنة من عمرها، استمعت هي أيضاً إلى معزوفة «بوليرو». وحضورها ذاك كان أشبه بإحساس دفين، بل بنوع من «التكهن»، يخبئ الكثير وينبئ بالقليل. لكننا أدركنا الأمر بعد ذاك، وفهمناه…
لم يصبُ لوكليزيو يوماً إلى تجسيد شخصياته في تماثيل، ولا حتى إلى رسم لوحة عنها يحدد التاريخ معالمها. فإلى جانب إيثل، التي تتملك لمحتها الخلابة «لازمة الجوع» تلك، تعكس جميع الأشخاص جزءاً كبيراً من الواقع، بكل ما للكلمة من معنى. وتقوم الرواية حقاً عليهم، كما تدور أحداثها حولهم فعلاً. فبين كزينيا وإيثل مثلاً، صداقة طفولة. أبعدتهما كمائن الحرب ودخانها بعضهما عن بعض قبل أن تجتمعا مجدداً، في عالم لم يتنشق الحرية إلا بعد أن انبعث من الركام والحطام.
لا يأتي الكاتب بأية عبرة. ففنه الحذق والمتدفق، فنه المتقن إلى أعلى درجة – ما ينعكس من خلال تركيبة النص والشهادات – ينبض بالتعاطف وبالثورة أيضاً. نادراً ما يمكن التعمق في أحاسيس الشخصيات الروائية بكل تلك العاطفة. لا سيّما بأحاسيس إيثل، التي تبقى ملامحها راسخةً راسخة…
الحياة – 10/10/08