* الدستور السوري.. وآلهة الذين كفروا!!
الدساتير هي منارات الشعوب ومشاعل ثقافتها، وتوافقات أبنائها، وموازين الفصل بين الحاكمين والمحكومين فيها، وهي العقد الإجتماعي الناظم للحياة على أرضها!! هي وثيقة الوطن الأولى لشعب ما وعلمه ونشيده الوطني وحدوده ومياهه ولغته التي يتلاسن بها مواطنوه. والفيصل في القضاء، والمرجع في مسائل الحرب والسلام، وجميع أشكال العلاقات بين شعب وشعب آخر! والدستور اختزال لثقافة شعب وحضارته وسيرته التاريخية! لاشيئ قبله ولا شيئ بعده! وهو عنوان قيامة الدولة، ونشوء العقد الإجتماعي، ومبدأ فصل السلطات والفيصل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الوطن والدولة!!
ورغم كل ما حوته هذه العبارات من الإشارة إلى مفاصل وحدود ومسارات ومسائل الشعوب، إلا أن الأمر في سورية مختلف…ببساطة لأن النواميس في سورية مختلفة، عما يماثلها لدى الشعوب الأخرى!
كيف ولماذا..؟
إنني هنا ألجأ إلى الدستور السوري المؤقت لعام 1973كمرجعية استلهم منه موضوعي لهذه الحلقة! إنني هنا أتصدى لمناقشة عابرة لمسائل الحريات والحقوق والواجبات العامة، ثم أطرح مقاربات بسيطة عن مدى دستورية القوانين، والمؤسسات، والإجراءات المطبقة عموما، وفي الحريات العامة خصوصا! وأسأل إن كان هناك خروق دستورية تقوم بها الأطراف التي تستظل بالدستور وتطلق على كل مكوناتها ألقاباً دستورية! وهل هناك أيضا قوانين بديلة، أدى تطبيقها إلى الإبتعاد عن روح الدستور. فجمدت مفاعيله ودلالاته نصاً وروحاً؟!
المادة – 25
(فقرة 1) من الدستور تنص” على أن الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية، وتحافظ على كرامتهم وأمتهم“!!
فقرة (2) “سيادة القانون مبدأ أساسي في المجتمع والدولة“
فقرة (4) “تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين“
وهنا فأنا لاأحاول مناقشة المسائل في مستواها الفلسفي أو الأكاديمي، بل أريد ببساطة أن أطرح أسئلة، وأن أبحث عن تطابقات، وأن أجد توافقات أو مفارقات، لاأكثر! وأنا أفترض أن المرجعية في إطلاق دلالات قدسية على الحرية بما يمكن مقاربتها بمادتي الدستور التاليتين:
المادة 27
ففي هذه المادة فإن الحريات هنا هي حريات مقننة،مقيده! فالنص الدستوري يستنسخ بالتكييفات التي ينشأها القانون، والتي وضع لوائحها التطبيقية وصاغ لها قوانيناً لتطبيقها، مما يؤكد أن هناك صيغة مبدأية للحرية، وهناك صيغة تطبيقية أخرى نقيضة لآليات الحرية، تتناقضان في المدلول والمنشأ والتطبيق! والإشكالية هي: هل استلهم واضعوا القانون روح الدستور عند وضع آليات القانون وتطبيقاته!
في المادة 28
ونصها: فقرة (11) “كل متهم بريئ حتى يدان بحكم قضائي مبرم“!
(2) “لايجوز تحري أحد أو توقيفه إلا وفقاً للقانون “!
(3) “لايجوز تعذيب أحد جسدياً أو معنوياً “!
(4) “حق التقاضي وسلوك الطعن والدفاع أمام القضاء مصون بالقانون“
وهنا تتوارد الأسئلة الكبيرة تباعاً، عندما يقرأ المرء نص الفقرة الأولى، فيسأل؟ إذا كان الدستور ينص على براءة المتهمين حتى يدانوا! فلماذا أدين المتهمون أولاً..ثم حوكموا؟ ومن قام برصد التهم وإصدار القرارات وإطلاقها! ومن أمر بسجن المتهمين قبل المحاكمات ومن ثم قام بارتهانهم في الأصفاد!! وعندما لجأ إلى القضاء، فلماذا لم يكن القضاء مدنياً، ولماذا كان القضاء عرفياً؟! وهل القضاء العرفي حالة نقيضة للدستور أم لا؟ ثم أليست المحاكم الإستثنائية محنة العدالة في سورية ومآلها الفاجع؟! عندما لم يسمح لسجين واحد بالمرافعة الشفهية، أو بالمقارعة الكلامية مع قضاة الإدعاء! وهل يكون الطرف الذي قام بذلك قد طبق الدستور متراساً (على نقيض الدستور) ومن هو المجرم الجاني سوى السلطة العرفية. التي استباحت الدستور، فأدانت الناس أولاً ثم حاكمتهم وحكمت عليهم بما أدانتهم به قبل المحكمة!! ثم ألم تكن المحاكم التي قدم إليها سجناء الرأي، والسجناء السياسيين، وكوادر الأحزاب وغيرهم، محاكم لاتقبل قراراتها الطعن بالإستئناف أو النقض،وإن كان لها ذلك،فأين يكون مآل الطعن أو الإستئناف؟! ثم ألم تكن محاكمتهم جميعاً وهم مرتهنون في أقبية الأمن نقيضاً صارخاً للفقرة الرابعة من المادة28 من الدستور والتي نصت على سلوك سبل الطعن بالنقض، ونصت الفقرة الثانية من نفس المادة على عدم جواز “تحري أحد أو توقيفه”!! فمن هو ذاك الذي خرق الدستور، ووجب أن يحاكم بتهمة خرقه، قبل أن يحاكم أحد آخرعلى خلفية التهمة!؟!
أليسوا هم الذين وضعوا الدستورثم أعادوا استنساخه بقرارات سياسية جسدت حكم الحزب الواحد ومصالحه واستمراره!وأخضعت قرارات هذه المحاكم لنهجها العرفي وأوحت بالمحاكمات الصورية وفبركة التهم وحددت العقوبات وشكليات التحقيق وحيثيات التقاضي!
المادة 32 من الدستور،
تنص على مايلي:
“سرية المراسلات البريدية والإتصالات السلكية مكفولة…”والسؤال هو من الذي يجري عمليات التنصت، وتسجيل المكالمات والرسائل، ويضع المفارز الأمنية في كل مديرية للهاتف ويعطل المراسلات متى شاء، والمواقع الألكترونية وغيرها! أليست المخابرات! أليسوا هم من يحرقون الدستور؟!حيث وصل الأمر إلى حظر أكثر من (200) موقع أليكتروني!! فضلاً عما رافقها من حظر السفر، وحضور المؤتمرات والحجر والتجريد للمحكومين طيلة حياتهم، بعد خروجهم، وانقضاء فترة العقوبات!!
أما المادة 38
من الدستور السوري المؤقت لعام 1973 فهي صريحة وسافرة وتنص على أن “لكل مواطن الحق في أن يعرب عن رأيه بحرية وعلنية بالقول والكتابة وكل وسائل التعبير الأخرى، وأن يسهم في الرقابة والنقد والبناء…وتكفل الدولة حرية الصحافة والطباعة والنشر (وفقاً للقانون)”! وهذه الدولةالتي تتحدث عن الكفالات) هي التي لاتملك سوى ثلاث صحف رسمية تصدر منذ أربعين عاماً، وتقوم بإقصاء كل الشرائح المعارضة التي تقدمت بقراءات للعقد الإجتماعي، والمشاركة في النقد والبناء والرقابة، وتمادت في توجيه تهم العمالة لهم، وزجت بالكثير بالسجون ومنعت كل أشكال التجمع والتأطير والمطلبية!! في حين أن الدولة “دخلت نظام السوق” وأجازت المصارف الأجنبية!بينما بقي مسار حرية الصحافة والطباعة والنشر والتعبير مساراً مغلقاً بتشريعات وآليات أمنية وعرفية … في إطار عملية شديدة الغباء؛ إذ لايمكن الإقلاع بآليات اقتصاد السوق، والتفاعل مع ثورة الإعلام العالمي المعولم،رفضاً أو تكاملاً، مقاومة أو مواجهة، دون إعلام حر متعدد، متحرر من القيود والتشريعات العرفية! وما يحزن، ويدفع على الدهشة أن جوهر هذه المادة وروحها لم تستلهم عند وضع قانون المطبوعات البائس، والذي شكل إصداره امتهاناً للدستور وخرقاً فاضحاً له! إذ عندما نعتمر الدستور والتطبيقات الدستورية كي نحتمي وراء عبارة …”وفق القانون” نكون قد نسخنا الدستور ولم نستلهمه، وتكون هذه القوانين، بكل تكييفاتها، وتطبيقاتها خرقاً للدستور مادامت لاتستلهم روحه، ومبادئه، ودلالاته الوطنية والإنسانية والمواطنية المفترضة!!
أما المادة “39”فتنص “للمواطنين حق الإجتماع والتظاهر سلمياً في إطار مبادئ الدستور…وينظم القانون ممارسة هذا الحق…” أليس حريا ومنطقيا ومبدأيا ووطنيا أن تستوقفنا عبارة “في إطار مبادئ الدستور” التي تؤكد استطراداتها على ترابط مواد الدستور والقانون وتكاملها، بحيث لاتنص مادة في الدستور على مبدأ التظاهر، ثم تنص مادة في القانون على نقيض ذلك!! ثم ألا يطرح كل ما جرى السؤال الكبير أيضا: لماذا قمعت جميع أشكال التجمعات السياسية والمطلبية بقوة العصا، وليس بروح الدستور، ومنها الإعتصامات نصرةً لحقوق التعبير وإطلاق سجناء الرأي والضمير، واعتصامات اليوم العالمي لحقوق الإنسان وحتى انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق (1\12\2007 ) وقد كانت كلها اعتصامات سلمية لاتحمل سوى سلاح الإنخراط في الشأن الوطني؟ فماذا يسمى الذين قمعوها!! أهم السلطة الدستورية؟!! أم هم السلطة النقيضة؟!!!
ولنناقش المادة 46 (الفقرة 1)
ونصها “تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالات الطوارئ والمرض والعجز واليتم والشيخوخة“!
كم فقيرا وعاجزا أو مشردا ويتيما وشيخا مسنا. تعيل الدولة عبر مؤسسات أقيمت لهذه الغاية، بحسب الدستور!! هل نأخذ من أموال شركات توظيف الأموال، وشركات الخليوي، التي فاقت بمواردها شركات مايكروسوفت وميتسوبيشي وسامسونغ ونوكيا وجنرال موتورز، وبوينغ، وفق مساحة صغيرة من مساحة هذا العالم، هي مساحة الساحة السورية!
هل تصون الدولة حصة الفقراء واليتامى والشيوخ من شركات النفط والنقل البري والبحري ومزارع الرفاق العتاق! في إطار ماأطلقته وأعلنته نظاماً إقتصادياً للدولة وسمّته “اقتصاد السوق الإجتماعي”!! وما هي إجراءاتها ضد التهرب الضريبي وخاصة الرقابة على مداخيل شبيحة القطاع العام وآل كبوني القطاع الخاص، ورفاق المرافئ والحدود “غير” الشرعية!
ولا أذكر سوى رقم واحد، لاسواه، في هذا السياق عندما أعادها عدنان محمود رئيس فرع “التحقيق السياسي” في العدوي وهو مجرد \133\ مليون ل.س قيمة محال تجارية كان قد”نالها” مكافأة على وفاءه “الأمني والسلطوي ” في ضاحية العدوي عندما أوجع سجناءه ضرباً وتحقيراً! واستخدم سلطاته العرفية لجمع الأموال، كما استخدمها في تحقير سجناء الرأي المزروعين في سجن كان يقوم على إدارته! هذا مجرد مثل في السياق، وحسن السيرة والسلوك! والرواية على ذمة اللواء المتقاعد سليمان الخطيب الذي أنجز التحقيق مع العميد رئيس فرع التحقيق، يومها! ولاأستطرد في سيرة سليمان هذا، والأرهاط وأحبار النظام الآخرين!
وأعود سريعاً إلى منطلقات حزب البعث الذي أظنه لايحكم ولايقود اليوم مسيرة العمل الوطني السوري، بل أضحى حسباً ونسباً لمسيرة تائهة معّومة، وآفاق مسدودة ضائعة!! حيث ورد في المبدأ الثاني في باب “شخصية الأمة ” يتناسب انبعاث الأمة دوماً مع نمو حرية الفرد …ولهذا فإن حزب البعث العربي الإشتراكي يعتبر “إن حرية الكلام والإجتماع والإعتقاد والتعبير مقدسة لايمكن لسلطة أن تنتقصها”!ويتضح من إطلاق هذا النص أنه لاسقف لتطبيقه أو استلهامه عند وضع أي تشريع!!
وفي مقدمة الدستور (الفقرة 4) و”حرية الوطن لا يصونها إلا المواطنون الأحرار”، و”لا تكتمل حرية المواطن إلا بتحرره الإقتصادي والإجتماعي”! وورد في المادة (1) فقرة (2) من الدستور “السيادة للشعب ويمارسها على الوجه المبين في الدستور“!!
فلماذا لم يمارس الشعب سيادته وفقاً للدستور في انتخابات تعددية حرة مباشرة مع التأكيد على ارتباط التعددية بحق التعبير والتشكل التي نص عليها الدستور! فلاتعددية إلا بإطلاق حرية التعبير! فالتعددية تبدع صناعة الحريات!والشمولية تإدها، ولا اجتهاد في ذلك!! ومن هنا ضرورة الحوار مع المعارضة، لإصدار قانون جديد للأحزاب، وقبل أن تضع المخابرات بصماتها وتكييفاتها عليه. حتى لايخرج هجيناً كقانون المطبوعات، وقانون الجبهة “الوطنية” والقوانين المفسرة للدستور، التي ذكرتنا بحقبة أسدل الستار عليها منذ ربيع براغ وسقوط جدار برلين،وهزيمة حزيران،واحتلال بيروت وبغداد!! فلماذا لاتحاكم المخابرات طبقاً لنصوص الدستور،وتشكيلها حاضنة وقابضا لحالة الطوارئ،والمحاكم الاستثنائيه،نقيضا للدستور!! ولماذا يكون في سورية ناموسان، واحد عرفي خاص بالقمع، وآخر متراسا ورديفا وحجة على الآخرين!!
لماذا ننشأ دساتيراً، فلا نطبقها، بل نقوم بتعديلها، طبقاً للمقام والمقال!! أليست هذه هي سيرة قريش وآلهة “الذين كفروا”، عندما كانت تصنع أربابها من تموز الجزيرة العربية في الصيف، لتعود وتأكلها في الشتاء!!
موقع إيلاف – الأحد 13 كانون الثاني/ يناير 2008