البحث عن المغامرة
جان ماري غوستاف لوكليزيو
ترجمة: د. محمد قصيبات
يسقط الليل، ومعه تستيقظ ذكرى الرجال الرّحل، ذكرى أناس الصَحراء وأناس البحر. إنّ تلك الذكريات تطارد الفتاة في الزمنِ الذي فيه تدخل إلى الحياة، الحياة التي هي عندها مثل جنيّة مجهولة الشكلِ والعوالم.
لعل الفتاة تحمل في داخلها ـ دون أن تدري ـ ذكريات رامبو وكرواك، أو حلمَ جاك لندن، أو ربما وجهَ جان جينيه، أو ربّما حياة مول فلاندرز، أو نظرات ناجدا الشاردة في شوارع باريس.
الدخول في عالم الكبار هو هكذا، صعبٌ ومرٌّ، حيث تحملها الطرقات جميعها إلى المكان ذاته والحدود ذاتها، وحيث تبدو السّماءُ في مثل تلك المسافات وتصبح الأشجارُ عمياء بلا عيون، وحيث تتغطى الأنهارُ الواسعة بطبقاتٍ من الإسفلتِ الرّماديّ، وحيث تتوقف الحيوانات عن الكلام ويفقد الناسُ لغة الإشارة.
الفتاة، في عامها الخامس عشر، تصعد في بطء الطريق التي تنقلها كلّ يوم إلى المدرسة، الطريق التي تتلوىّ بين أجراف المباني، إنها تمشي وسط صخب الشّاحنات والعربات التي تذهب في كل الاتجاهات.
هذه الفتاة تفكر: ربّما اليوم، سوف أصل إلى القمّة ثمّ إلى الجانب الآخر، وفجأة سوف لن يكون ثمّة شيء، لا شيء غير حفرة هائلة في اتّساع الأرض.
في الظّهيرة، تمشي الفتاة في الزّحام، تمشي وكأنها تركت المدرسة ساعات، ساعات سرقتها من مدرّس الرياضيّات العجوز، ومن مدرّس العلوم الطبيعيّة، ومن مدرّس التّاريخ والجغرافيا، أو كأنها قطار كبير غطّاه الصدأ قفزت منه ذات صباح لتنزل إلى نهايةِ الأرض، هناك في البعيد، في هافر أو روتردام، أو ربّما في يوكوهاما.
إنها تمشي، وتبحث في العيون الّتي تلتقي بنظراتها عن شيء لا تعرفه، لعلّه إثارة النفس، لعلّه ومضة جديدة، مثل تلك التي تجيء في لحظات ما قبل الابتسام والكلام، اللحظات التي يحملنها إلى حياة أخرى. أو ربّما في منتصف الليل، وهي تلبس معطفها الجلدي الذي كُتبَ عليه بحروفٍ من نار. الليلة الباردة تبعث القشعريرة في جلدِها، فيومض الليلُ مثل السبج في عينيها، وينمل بالأضواء والنجوم وإشارات المرور الحمراء، وبالأسماء المكتوبة على النيون، وبأسماء تبعث الخطر، أسماء تحمرّ في أعماق الحياة وتقول:
CHANGE Maccari & Franco
HASARD
LOCUST
SOLEDAD
في الليل، تمشي الفتاةُ وحيدة وينبض قلبُها في نظم الكلمات القادمة من البعيد … رغبات مجنونة … إنها تبحث عن صورةٍ، عن ومضةٍ أو انعكاس.
الفراغُ في أعماقها فيه نافذةٌ تدق، وفيه تهبّ ريح.
في أعماقها، يتحسّس خفّاش طريقه، وفيه ينبض قلبُها …ينبض …وينبض..
هي لا تعرف عمّا تبحث، ولا لماذا الموج ينفطر على ظهر المدينة، ليفتح الأفق أبوابه اللامتناهية إلى ما هو أبعد من الطّرقات التي تلفّ المدينة وإلى ما هو أبعد من السّاحات.
ترى ماذا هناك في الجانب الآخر؟ هل نحن خالدون في ذلك المكان؟
ولكن الصّبيّة تذكر أن أزمنة الترحال هي أقوى من كلّ شيء، وفي كلّ مساء، تجعل هذه الأزمنة قلب الصبيّة ينبض، تجوع، إنها ذكرى أزمنة أراباه والشّايين ولاكوتا وتكساس.
إذن ليس ثمّة جدار، ولا أسماء، ولا أرقام.
ليس ثمّة حاجة للرّخصة، ولا لملفّات الشّرطة، ولا لكتيّب العائلة، ولا لمحرّري العقود، ولا لطوابع الدّمغة، ولا للصّور، ولا للبصمات في مراكز الشّرطة، ولا للسّوار الذي نعلّقه في رسغ المواليد وفي أقدام الموتى.
أرتفع القمرُ عالياً فوق الجبال، عواءُ الذئب يدفعه، كانت عيون السّماء برّاقة والقمر بارداً وكبيراً.
تمشي الصّبيّة في عامها الخامس عشر إلى مفارق الطّرقات …تحسّ بالليل على صدغيها، وعلى وجنتيها، وتلصق بيديها الباردتين فوق عينيها، وتسمع خطواتها التي تدوّي في الجسد. إنها لا تعرف عمّا تبحث ولا تدرى ما يأخذها. ربّما ثمّة أحد في إثرها، ربما ذئب أو حيّة أو عفريت، هناك وسط الظلمة، أو في زاوية الأبواب، أو في الممرّات.
في البعيد، ينسحب بساطُ الطّرقات الحمراء مثل الحمم، تتداخل موجات الصّوت وينطح بعضها بعضا …عواء ذئاب مسعورة، وصدى الكلمات القادمة من البعيد، من جسد الأزمنة الغابرة، ثمّة من يدفع الصّبيّة إلى الطريق، ملصقاً يديه خلف كتفيها …يدفعها، وهي تجهل أين أبواب الليل.
يحلم الأطفالُ ملتفّين مثل قنافذ شتويّة. إنهم يسمعون الوحوش تزأر والذئاب تعوي، إنهم يتذكرون.
ألا يوجد في أقبية المباني عصابات العالم السّفلي مثلما في قديم الزّمان ؟
ألا ترى هي الأرانب البرّية التي تأكل الموتى؟
ألا تسمع وسط الممرّات المظلمة ضربات أقدام البرابرة الذين يأكلون الخيل ؟
ألا ترى سيوفهم التي تتلألأ في نور القمر ورماحهم التي ترقى إلى نجم السّماء؟
أنها تحسّ بأنفاسهم فوق وجهها وببرودة نظراتهم، وتحسّ في قلبها بضربات خيولهم، خيولهم الليليّة، مثلما تحسّ بلمس الأعشاب في وجه الرّيح.
لكي ترى هذا، ولكي تسمع هذا، تخرج الصبيّة من غرفتها آناء الليل، تلبس “جينها” الأزرق ومعطفها الجلديّ اللذين هما درع لها، تخرج الصّبيّة عبر المزاريب وتهرب من ثنايا طفولتها المخمليّة، ومن عشّها الورديّ، ومن وساداتها المزركشة … تترك خلفها رائحة الطفولة، وألبوم الصّور، وصدف البحار على الشّواطىء المبلّلة بالمطر، إنها تهرب من النعاس الذي يقترب نحوها مثل شبكة من الأنهار الهادئة.
إنها تذهب لأنّ أمامها، هناك في نهاية الطّريق، حفرة في أتّساع الأرض تناديها، ثمّ هناك الأسماء التي أمام عينيها :
Emporio MARB LE MEMO
Anvers-sur-Oise
RIVE Arthur
Saturne
تظهر أمامها الكلماتُ وكأنّ لكلّ كلمة منها سرّاً… سرّاً ملفوفاً في ثناياها، يتحرّر بين اللّحظة والأخرى رافعاً رأسه مثل أفعى … مثل برق.
الليلةُ الباردةُ تبعث بقشعريرة في جلدها، الليل لباسٌ لها، والسّماء تلتصق على وجه الأرض، ويقطع المقصّ عقدة القماش وخيوط الأحذية وحلقات الحزام.
الليلة عارية، لقد سقطت الأقنعة وذابت العلامات وتمزّقت الأعلام، وسقطت كتبُ القانون… يطويها الليل الآن ويمحوها، وتنكسّر المدينة مثل موجة تتحطّم على الصّخور، وتتجرّد جذور المباني من أغطيتها، نرى أمعاءها وبطونها، ثمّ يحطّم الصمتُ عقارب الساعات، تدخلها البرودة. تحسّ الصّبيّة بالليل فوق وجهها، وفوق جلدها، وفوق صدرها، تصبح مسام جلدها عيونا، فتحسّ كلّ تلك النجوم، وكلّ هذه الكلمات، وكلّ النظرات التي في انتظارها، إنها تمشي وسط كفّيها فتسمع قلبها يقفز في وسط المكان، وفي حلقها، وعقلها، وفي حبلها السّريّ، إنّها تحسّ بتدفّق الدم الّذي يرقى في داخلها.
في غابةِ الليلِ، لم تكن تعرف أنّ الذئبَ كان في انتظار …عند البوّابة أمتدّ ظلٌّ طويلٌ، أخذت تجرى، تقطّعت أنفاسها، لحقها، احترقت الأشجارُ، أرتفع العواءُ، حملته الرّيحُ إلى البعيد، أرتفع القمرُ، ها هو القمر يركب فوق الأشجار، ها هو الآن فوق أكتاف المباني الزّجاجيّة والنيون.
إنها لا تعرف معني الذاكرة، فليس خلفها شيء، ولا في اسمها شيء، ولا في لعابها شيء، يغطّي الليلُ جلدها، ويسكن بصمات أصابعها.
هي لا تعرف من يتبعها، ولا ما سوف يتبعها، لعلّ ما تسمع هو موسيقا قادمة من البعيد، أو لعلّه صراخ زنجيّة قادم من الغسق …يتمزّق جوفها، وتسقط على التّراب طفلة مصبوغة بدم السّنين، تتألّق مثل نجمة، يسيل اللّبن ويرسم طريقه في السّموات نهراً… نهراً أبيض من فم الصّغيرة ! تطول السّاعات حتى يتفجّر النهار، وتستيقظ الشّمسُ الحارقةُ، تنطلق القافلةُ من جديد …وجوه الرّجال مشدودة. كبر الأطفالُ، يتأوّه الشيوخُ مثل الصغار، في السماءِ ثمّة طيور في انتظار الفريسة، الثّعالب حول المشيمة التي أخرجت من التّراب.
إنها تمشي آناء الليل في لباسها الضيّق، عيناها قاسيتان.
تنشقّ المدينةُ مثل موجة تتكسّر على الصخور : الشرّ في كلّ مكان، في ممرّات النزل الرّخيصة، وفي قصور العاج والزّجاج، أجساد النساء العاريات على الجدار، أعين الرّجال مفتوحة باتّساع القمر، ” اقتلوا، اسرقوا، انهبوا، تمتّعوا !”، أقدامهم الآن في الجحيم، من جهةِ المدينةِ تخرج المقاطع اللفظيّة واحدة واحدة، تمتمات، تأخذ طريقها إلى الضواحي، تجري كالبهيمة، تعوي وتنزب مثل حيوان المجازر.
في الليل، تخاف الفتاة ذات الخامسة عشر عاماً. إنها تسمع خطواتها، وتحسّ بالرّيح فوق الجسد، لكنّها تتقدم دون أن تعرف عمّا تبحث، ولا من يبحث عنها، ترى هل تبحث عن اسمٍ، عن يدٍ تحملها، عن صوتٍ يتموّج فيها حتّى الأعماق؟
القمرُ مضيءٌ يكاد يكون مصباحا، يتلألأ الليل فوق الجليد، لقد تجمّد عواء الذئب، هاهو معلّق في أنيابه مثل لعاب تجمّد من فرط البرد.
من المكان الذي هي فيه، تستطيع الصّبيّة أن ترى قلب المدينة المحمرّ، لكنّها لا ترى السّماء، ولا ترى الشّياطين ولا الموتى الأحياء، إنها لا ترى سوى القتلة والمدمنين.
لم يتغيّر شيء، مازال الرّحل في مكانهم، أناس صحراء التّراب وصحراء البحر، ويرسم الناس تحت السّحب التّائهة آثارهم بدوائر من الأحجار، وبقطرات من النحاس فوق جلودهم … خرج الذين يلبسون أقنعة الظباء وأجنحة الفراشات من حلمهم.
على الصّبيّة أن تدخل الحياة بعد أن تترك غرفتها، إنها تعرف ذلك، تراهم، تسمعهم، هم في داخلها، يخرجون من نظراتها، هي صنعتهم، وهي لا تعلم شيئاً، لا تتذكّر شيئاً، جسدها قاس مثل الليل، عيناها، صدرها، كتفاها، شعرها أنهارٌ من الفحم، تسيل هي إلى الخارج في أبيات رامبو، تخرج أمام الذين ينظرون إليها، وتذهب إلى من ينادي، يكبر في أحشائها الجوع … الجوع إلى الحياة بخيرها وشرّها. في الليل تسمع صوت الماجورانا والمالاقينا، الآلات التي تغني باسمها، مرة ومرّات، إنّها هي، تعود إلى شعبها في صحارى البحر والتّراب، إلى شعب الكهوف والوديان والغابات والأنهار، إنها تتسلّل إلى الليل، ها هي الآن في نهايةِ الطريق، في حفرةٍ باتّساع الأرض والسماء … إنّها الآن مثل طائر طليق..
الترجمة نشرت في “منتديات اتحاد كتاب الانترنت العرب”