في العلمانية والديمقراطية والدولة
ياسين الحاج صالح
إن بفعل تكوينها كهيكل سياسي جامع ومقر حصري للسيادة، أو بتأثير الملابسات التاريخية لنشوئها على نسق الدولة- الأمة الغربية (وعلى يديها غالبا)، فإن الدولة العربية الحديثة “علمانية” من حيث المبدأ. قد تكون العربية السعودية استثناء جزئيا لهذا الحكم، أما الدول الأخرى فتنسخ بنية الدولة الحديثة في الغرب، دولة تطل على مجتمع من سكان متنوعين، تخاطبهم كمواطنين، وعلى مجتمع الدول العالمي، العلماني.
على أن علمانية الدولة العربية كانت موضوعية واضطرارية، تحصلت من العيش في عصر وعالم علمانيين، وليست ذاتية ومختارة، وهي تاليا غير متسقة أو واعية بذاتها. هذا يصح حتى على “الحقبة القومية” التي زودت بعض الدول العربية بعقيدة تعبوية، مكنتها من تعزيز دوليّتها، جوهرها الدولوي، وبالتبعية علمانيتها. غير أن هذه ظلت علمانية تحصيلية، إن صح التعبير، هشة وضعيفة الشخصية. ورغم أن “الدولة القومية” تلك أبرزت انتسابا جديدا للأمة وللفرد، متميزا عن الانتساب الديني والمذهبي، إلا أنه بقي انتسابا إيديولوجيا، لم يتأسس على استقلال ناجز عن الأمة الدينية والروابط الأهلية. بل إن موقف الدولة هذه، المتحفظ حيال الحرية الفكرية والنقد السياسي والاجتماعي والديني، وكل أشكال الاستقلال والتنظيم الاجتماعي، حرم العلمنة الموضوعية من تطوير وعي ذاتي محتمل، وأبقاها رهينة دولة كانت ترتد قدما إلى سلطة جهازية خاصة.
تاريخ هذه الدولة في العقود الثلاث الماضية، في سورية ومصر والعراق والجزائر..، هو تاريخ تآكل العلمنة الاجتماعية والثقافية والقانونية من وجه، وتاريخ ترسخ الطابع الجهازي (غير المؤسسي) لسلطتها من وجه آخر. في مثل هذه الشرط، ما يبقى من العلمانية محمولا على ما بقي في السلطة الجهازية من مبدأ الدولة، هو آثار “العلمانية الموضوعية”، الهشة وضعيفة الشخصية أصلا كما قلنا، والعاجزة من ثم عن وعي ذاتها والدفاع عن ذاتها.
ونريد أن نبني على ذلك أنه كلما كانت الدولة قوية في العالم العربي، أعني أنها مقر حصري للسيادة، مستقل حيال الداخل (المجتمع الأهلي والدين..) والخارج، كانت أكثر علمانية؛ وكلما ضعفت وتدهورت “دوليتها” واستقلالها تدنى مستوى علمانيتها. فالدولة هي حامل العلمانية، أو وسيط العلمنة الأساسي، إن في التعليم أو الإعلام أو الإدارة أو الجيش أو الاقتصاد… فإذا ضعفت خف وزن ما تحمل من علمانية، وانطلقت سيرورة موضوعية معاكسة لنزع العلمنة واصطباغ الدولة والحياة العامة بالصبغة الدينية والتبعثر الأهلي. وهذا ليس صحيحا عندنا وحدنا، بل هو صحيح في كل مكان في تقديرنا. وهو منبثق من كون الدولة مقر السيادة العليا، العامة والمستقلة، أي من نزعها السيادة من الأجهزة الدينية، وتعاليها على الجماعات المحلية والأهلية.
ولعله يمكن منذ الآن أن نبني على هذا التقدير خطة سياسية تستند على فكرة أن تعزيز فرص العلمانية في بلداننا تقتضي تعزيز الدولة وتقويتها. فمن شأن دولة ضعيفة، تعاني من قصور سيادي، أن تستنفر الدين كمصدر لشرعية واعتبار تفتقدهما، مع ما هو معلوم من أن الدين الإسلامي يحمل مطامح سيادية معلنة. وهو ما يدخل الدولة في دوامة: قصورها السيادي يدفعها إلى الاستناد إلى الدين الطامع في احتكار السيادة لنفسه، فتزداد ضعفا وقصورا سياديا. فيما من شأن دولة قوية، أي أرسخ سيادة، أن تطور مقاربة أكثر استقلالية عن الدين، وأن تعرف نفسها على أرضية السياسة وحدها.
غير أننا نفهم تقوية الدولة بأنها تدعيمها في آن ضد المجتمع الأهلي وضد السلطة المحض التي آلت إليها الدولة في أكثر البلدان العربية. وفي هذا نفترق عن الطبعة العلمانية الرائجة عربيا، التي يقودها تثبتها حول تعريف العلمانية بدلالة الدين حصرا إلى مواقع قريبة من نظم الحكم، حتى الأكثر جهازية وفئوية منها. وهو ما يتعارض فيما نرى مع التزام المثقف الجوهري، قبل أي تحديد إيديولوجي له.
والواقع أن ارتداد الدولة إلى سلطة، أي تسخير جهاز الدولة لخدمة طرف اجتماعي بعينه، قد سار جنبا إلى جنب مع أهلنة مجتمعاتنا، أو تثبيت صفة أهلية انقسامية متأصلة فيها. من جهة، احتكار السياسة بحد ذاته يدفع إلى انتظام المجتمعات المحكومة أهليا كاستراتيجية للاستحواذ غير المباشر على السياسة المحرّمة؛ ومن جهة أخرى، قد تندفع أطقم السلطة المستبدة ذاتها إلى الاستناد إلى عصب أهلية من أهل ثقتها كاستراتيجية للسيطرة السياسية وتأمين النظام، فتشكل الأطقم هذه “الطبيعة الطابعة” التي يتشكل المجتمع المحكوم على صورتها ومثالها. وهكذا تتشكل حلقة مفرغة. مزيد من تراجع الطابع العام لسلطة الدولة يفضي إلى تطييف المجتمع، وهذا يضمن البيئة الانقسامية المناسبة لمزيد من احتكار الدولة.
بالعكس، من شأن تقوية شخصية الدولة، وتاليا امتناعها على “الشخصنة” واستقلالها عن نخبة الحكم، أن تدعم طابعها العام، فتقلل من دواعي انتظام المجتمع أهليا. من شأنها كذلك أن تتيح مناخا أنسب ليتشكل المجتمع المحكوم على صورة جديدة، أكثر تفاعلا وعمومية ومدنية. هذا دون أن نتكلم على جهد قصدي، لا غني عنه، تقوم به الدولة العمومية لنزع وتغريم وضرب التشكلات الطائفية؛ وهو جهد يقتضيه مفهومها ذاته. فالدولة القوية لا تمتنع فقط عن الارتداد إلى سلطة جهازية فئوية، وإنما لها دور تدخلي يمنع التشكل الطائفي ويطور ما يجدي من سياسات تعليمية وإدارية واقتصادية وإعلامية للجمها.
لكن هل تتوافق خطة تقوية الدولة مع الديمقراطية؟
في فهمها الدارج في بلداننا، الديمقراطية شيء أقرب إلى إخضاع الدولة للمجتمع أو انتظام الدولة كمرآة عاكسة للمجتمع. هذا ضال وسيء جدا، يرد الديمقراطية إلى التمثيل السلبي للمجتمع. والتمثيل سيعني تشكل الدولة على صورة المجتمع. ولما كان هذا متعددا أهليا ومنقسما فسوف تتشكل الدولة متعددة ومنقسمة، كما هو الحال في لبنان. وهنا ينتقل منطق المجتمع الأهلي إلى الدولة، ومنطق السياسة التعددي والاختلافي والنزاعي إلى مقام السيادة الواحد والموحد تعريفا. وبدلا من أن تتمكن الدولة من معالجة وحل المنازعات الاجتماعية، تغدو هي ذاتها موضع تجاذب ونزاع، يفضيان إلى شللها.
والحال إن جذع الديمقراطية هو السيادة الشعبية، والشعب ليس “المجتمع” ولا “السكان” ولا مجموع العصبيات أو المجتمع الأهلي، بل هو الجماعة الموحدة قانونيا وسياسيا، والمكونة من مواطنين متساويين. ولكي يكون الشعب سيدا يتعين “صنعه” أولا، أو بلغة أخرى “بناء الأمة”.
والشيء الذي نحتاج إلى إدراكه، الديمقراطيون قبل الجميع، هو أن الشعب “يصنع”، وليس معطى طبيعيا أو خاما. وهو يصنع بأدوات السياسة والقانون والاقتصاد والتعليم، لكن أيضا بأدوات القوة. ولصناعة الشعب اسم معروف: الجمهورية. ووجه الجمهورية الخارجي، إن جاز التعبير، هو الفكرة القومية التي توحد وتدمج والمقترنة تاريخيا مع الدولة القوية.
لن ندخل في نقاش حول مبدئي الجمهورية والقومية. حسبنا أن نقول إن تقوية الدولة تتعارض مع الديمقراطية بالمفهوم التمثيلي السلبي للديمقراطي، لكنها شرط للديمقراطية حين تعني هذه صنع الشعب أو الجمهورية. وبهذا المعنى، أي عبر صنع الشعب (الجمهورية) وتقوية الدولة (القومية)، تسير العلمانية والديمقراطية معا. وبهذا المعنى فقط تعني دولة أكثر علمانية أكثر.
ويتيح لنا هذا التحليل أن ندرك أيضا أن العلمانية من إنجازات المرحلة القومية التي تتجاوز الانتماءات الدينية لمصلحة انتماءات أحدث عابرة للأديان. وهما معا (القومية والعلمانية) مقترنتان بالدولة القوية، إن لم نقل بعبادة الدولة. ولا تتأسس ديمقراطية أكثر إلا على دولة أكثر (مقر حصري للسيادة) وعلمانية أكثر (هوية جديدة لا دينية)، أي على القومية (سنخصص تناولا مستقلا لمسألة القومية: عربية أو محلية..).
ولا يتعارض هذا التصور مع النموذج اللبناني لدولة مرآة للمجتمع الأهلي، بل كذلك مع النموذج السوري لدولة مردودة إلى سلطة جهازية. والمجتمعان السوري واللبناني متماثلان من حيث أنهمت غير متماسكين ذاتيا على حد سواء، لكن أحدهما غير متماسك والدولة أضعف من أن تمسكه، والثاني غير متماسك بدوره لكنه ممسوك من خارجه بسلطة قسرية، تمر إعادة إنتاجها حتما بإعادة إنتاج لا تماسكه الذاتي. في سورية الدولة في صيغة السلطة الجهازية المتمركزة حول ذاتها لا تعمل من أجل الاندماج الوطني (أو “القومي”)، بقدرما هي ترهن استمرارها بضعف هذا الاندماج الذي يتيح لها مساحة مناورة واسعة وتخويف قطاعات من المجتمع من قطاعات أخرى. ودون اندماج وتكون هوية وطنية فوق دينية (سورية أو عربية) تبقى العلمانية إيديولوجية بلا سند “قومي”. في لبنان الأمر لا يختلف جوهريا: إعادة إنتاج النظام السياسي تمر بإعادة إنتاج الانقسام الأهلي وتثبيته. لا هوية فوق دينية، ولا علمانية تاليا. ولا ديمقراطية إلا في صيغة “توافقية” تلغي الشعب اللبناني. الجمهورية ملغاة في الحالين على حد سواء.
لكن ثمة فرق بين النموذجين. في لبنان ينتقل منطق السياسة التنازعي والتعددي، كما قلنا، إلى مجال السيادة الواحدي تعريفا. أي يجري تطييف الدولة بدل أن تتولى الدولة نزع الطائفية من المجتمع. في سورية بالعكس، ينقل منطق السيادة الواحدي إلى المجتمع الأهلي، فينكر التعدد حتى في المجتمع، ويعتبر أي اختلاف سياسي خيانة وطنية، وأية معارضة للنظام عدوانا على الوطن. حالة الطوارئ المعمرة في سورية تتكفل بتعميم منطق السيادة العليا إلى الحياة الاحتماعية والسياسية للسكان في سورية، ما يفضي إلى نزوع سيادتهم واستقلالهم. في سورية، إذن، المشكلة انفلات الدولة من السيطرة الاجتماعية وانقلابها إلى سلطة مطلقة. في لبنان، بالعكس، المشكلة ضعف الدولة واكتساح الطائفية لها بالذات.
غير أن الطور الراهن لتطور جدلية الدولة والمجتمع في البلدين يعرض تقابلا مثيرا. في سورية السلطة المطلقة تطور غريزة بقاء نامية تدفعها إلى التعايش مع التعدد الاجتماعي في صيغته الأهلية (الدينية والمذهبية والإثنية) لا في صيغته المدنية الحاملة للتعدد السياسي الخطر على بقائها. في لبنان أفضى تطييف المجال العام وضعف الدولة إلى ظهور احتمال تضمره الصيغة الطائفية: ظهور طائفة أقوى من الدولة عسكريا وقادرة على احتواء الدولة و”احتضانها”. بعبارة أخرى، يقود التمركز المفرط حول السلطة (لا حول الأمة أو البناء القومي) في سورية إلى التطييف العام أو المللية، فيما يقود تطييف النظام السياسي في لبنان إلى إنتاج “دولة داخل الدولة” أقوى من الدولة، دون أن تكون قومية أو حاملة لمشروع عام.
ما نريد الخلوص إليه من هذا الاستطراد هو إظهار التعارض بين تقوية الدولة وبين نموذج الضعف اللبناني كما مع نموذج “القوة” السوري. وكذلك القول إن النموذجين متعارضان على حد سواء مع البناء الوطني (أو “القومي”) العلماني من تلقاء نفسه لكونه يطور هوية فوق دينية.
استئناف مسار العلمنة في البلدان العربية يمر، إذ صح تحليلنا، بإحياء معنيي الجمهورية والقومية لا بدفنهما، على أن نفهمهما، تكرارا، كوجهين داخلي وخارجي لصنع الشعب انطلاقا من مواد أهلية، دينية وإثنية ومذهبية.
والديمقراطية؟ تتناسب فرصها طردا مع الاندماج الوطني، وعكسا مع تدنيه. دون اندماج ربما تتاح للمجتمع حريات عالية كما هو الحال في لبنان، لكن الدولة تبقى معرضة لأعاب البيئة الإقليمية والدولية والانهيار تحت تأثيرها بين حين وآخر.
يبقى السؤال عن الآليات المحتملة لبناء دولة قومية قوية، توحد المجتمع وتحتكر السيادة، متروكا لتناول مستقل.