صفحات ثقافية

وباء المسلسلات على أنواعها يفشو في الشاشات، طمأنة الوجدان التاريخي على قيمه الحاراتية… والحداثة على سطحيتها وركاكتها

null
وضاح شرارة
في ابتداء الجزء الثاني من مسلسل “باب الحارة”، السوري “التراثي” على ما يسميه بعضهم أو “الأصيل” على قول مخرجه بسام الملا، عمد كتّاب ومعلقون متفرقون الى مناقشة حلقات الجزء المبتدئة في ضوء حلقات الجزء الأول، في تشرين الأول 2006، وأوائل الجزء الثاني، في أيلول وتشرين الأول 2007. فكتب هوشنك أوسي (“الحياة”، 27 أيلول 2007 يصل “باب الحارة” الثاني بالأول: فالأول كان ابتداؤه مقتل حارس باب الحارة، أبو سمعو، جزاء تحريه عن سارق بيت أبو ابراهيم، وبلوغ تقصيه غايته. وكان مقتل أبو سمير الصالحاني خاتمة الجزء. فمجرى هذا بين قتلين أو موتين. وتتردد في الجزء الثاني أصداء مقتل أبو سمير الصالحاني. ويختمه مقتل زعيم الحارة. وغداة أسبوع على ملاحظة أوسي، يكتب ايلي عيدو (الصحيفة نفسها)، في 3 تشرين الأول 2007 ملاحظاً على “المجتمع” الذي يصوره “باب الحارة” في جزءيه، وتقوم منه حوادث القتل مقام العلامات أو المنعطفات الزمنية والدرامية الفارقة.
فهو مجتمع يحكمه “الزعيم”، ويعاونه على حكمه وجهاء الحارة وتجارها وشيخها. وتستجيب العامة، “الناس”، حكم “الثالوث” وسطوته وسيطرته، فتقدم فروض الطاعة والخضوع. والسطوة والطاعة هاتان لا تقتصران على الحارة، أو على جمعها ومجتمعها “الخارجيين” والقائمين بنفسهما. فركن السطوة والطاعة “الأول”، إذا جاز في هذا المعرض ترتيب زمني (غير جائز على ما أزعم)، هو مراتب الأسرة الداخلية. فيها بالأبناء، وهم آباء أسر وأزواج، الوالد، وينصاعون لرأيه وأمره من غير تردد ولا مناقشة. والرجال، الذكور، آباء وأبناء وأولاداً، يعلون النساء، الإناث، جدات وأمهات وحفيدات، رتبة ودالة وكينونة.
والذكور هم عمدة الحوادث، والمبادرون الى الفعل. والفعل هو المنافحة عن الحارة، أرضاً أو ديرة (أي حارة و “حدوداً”) وأهلاً. والأهل هم الرجال. والرجال هم “كرامتهم”. و “كرامة” رجال الحارة هي امتناع “أرض” الحارة، ما أقاموا بها، من دخول الأجنبي الغريب وانتهاكه ودوسه وعدوانه. وهي منعة النساء من رؤيتهن، والنظر إليهن، وإخراجهن من عصمة أزواجهن، واختلاطهن، وتزويجهن الأجانب في نهاية الأمر ووقوع الطامة. وتلخص أحكام السلطان والحكم والإدارة السياسية المسألة بقول موجز وجامع. فتشترط في ولي الأمر “الذب عن الحياض (جمع مجتمع الماء و “شيء” آخر) وصون البيضة (الفرادة والسلاح والأصل والوسط والساحة والجماعة والمجتمع والمستقر والحوزة).
الصدق والحقيقة والأصالة
وفي الحارة، على قول إيلي عبدو كذلك، يسابق الناس بعضهم بعضاً على مد يد العون، وتشد بينهم أواصر الإلفة والمحبة والأخوة (= الأخوة والتنسيق والتعاون؟). فهم واحد، أو يد واحدة، على العدو، والعدو “خارجي” على الدوام. ويعلل الكاتب رواج المسلسل المتلفز وولادة جزء رمضاني ثاني من الأول، بثبات “الجوهر” الاجتماعي والتاريخي المروي، والمعروض على الأعين والأفهام، على مر الزمن، واقتصار ما مضى وطوي على “الشكل”. فيذهب الى ان “الحارة” لم تبق الحارة، بأعيانها المرئية والملموسة والمسموعة، أي بلباس أهلها وبيوتهم وأعمالهم وأسلحتهم ومركباتهم، أو باب حارتهم، على ما لاحظت سمر يزبك من بعد (“الحياة”، 11 كانون الثاني 2008). فالاحتلال الفرنسي، يومها “انتزع” الأبواب، وهي عنوان الحارات وآيات كياناتها المنفصلة والمستقلة، وفتح بين الحارات على غير وجه الفتح “بيننا وبين قومنا بالحق” (التنزيل). وهو (الاحتلال) أراد تثبيت الجماعات في أجسام سياسية منفصلة، على ما روى مسلسل سوري آخر، “أسمهان”، على نحو تفصيلي.
ويعقب أحمد مغربي (“الحياة”، 18 تشرين الأول 2007) على رواج المسلسل، فينكر عليه، وعلى جمهوره، الميل الى “قيم نمطية أحادية”، والى “انسجام” ينفي الصراع الاجتماعي. ويعمى الانسجامُ والأحادية والإفراط في تصوير الماضي في صورة زاهية، تعمى هذه مجتمعة عن ملاحظة دبيب المعاصرة والحداثة في أحشاء المدينة. ففي ذروة صراع “الأبوات” الوطني أو القومي، على قول بعثي سوري، أي الأهلي والعصبي، كان “المجتمع” السوري (على معنى “الحياض”) يستقبل من غير تألف ولا رضا الخلاف بين التقليد والتجديد في حلة قاطعة وغير معهودة. وكان يستقبل، على رغمه ومضطراً، آلات النقل السريعة والجماهيرية، من الترام الى السكة الحديد، وآلات الإضاءة، وأجهزة توزيع الماء على الأراضي والمنازل، وآلات الطباعة، والسلع المصنعة والرخيصة، وتدوين ملك الأرض، والانتداب الى مجلس إدارة الولاية وبلديتها.
ويعود معظم هذه الى عقود قبل 1919 العتيد لا تقل عن ثمانية عقود. وتغفل وقائع المسلسل المروية، وحوادثه وصوره، عن الحوادث والوقائع هذه. فلا يقع أحمد مغربي على أثر لمدارس أو تدريس في مشاهد المسلسل الطويل وصوره. ولا يرى بنتاً من بنات “التكنولوجيا” (وفي لغة العصر كان يقال: “بنات الحديد”)، أو فكرة من أفكار “الحداثة الفكرية”. وأما النزاع “السياسي” فهو شقاق أهلي لا يقر بصفته أو سعته، ويقتصر على مروق خائن واحد، “من لا مكان ولا ناس” على قول الكاتب، وعلى “غوايته”، بحسب بيت شعر قديم يستشهده عباس النوري، أحد أبطال المسلسل البارزين والسابقين، ويرفعه علماً على “المشهد الثقافي العربي” المعاصر (في كلامه الى ابراهيم حاج عبدي، “الحياة”، 2 كانون الثاني 2008). ويرد مغربي، ضمناً، على مقالة المروق والخيانة، أي على من يزعمون ان الخلاف على “المقاومة” هو خيانة وحسب، بمقالة “السيد” حسن نصر الله، وإقراره بأن “لا إجماع على المقاومة”. فإذا كان “السيد” يقول هذا، فما بال المسلسل لا يقر ولا يعترف؟ ولماذا يغفل عن الحال؟ يقول الكاتب في سره معجباً ومنكراً…
ولا تتأخر الردود على التشكيك في أمانة “باب الحارة” للوقائع، فتواترت سريعاً. والأرجح ان التشكيك هذا لم يقتصر على “المثقفين”، على ما يسميهم أصحاب الردود، وعلى بعض الصحافيين والكتاب، فطاول مشاهدين وأجزاء من جمهورهم العريض. وعَرْضُ الجمهور، أو عدده الغفير، ليس نافلة من النوافل، ولا تفصيلاً زائداً وثانوياً. فالعدد العظيم أو الكبير حجة من حجج “أصحاب” المسلسل، أي صنّاعه، من المؤلف والمنتجين والمخرج والفنيين والممثلين والموزعين الى “آخر” متفرج سناً إن لم يكن حالاً. وهو قرينة على “صدق” المسلسل و “حقيقته” و “أصالته”، بحسب عبارة المخرج بسام الملا الى ابراهيم حاج عبدي، فإذا تناول التشكيك، على ما مر للتو، قصور الرواية والمشاهد عن نقل وقائع بارزة وفارقة، أو يخالها المشككون بارزة وفارقة، وتدوينها، وعن ترديد صداها واقتفائه، رد اهل المسلسل وأنصاره واحتجوا له بـ “جماهيريته”.
فإذا أقبل الناس على الرواية والصور و “الأبطال” إقبالهم المشهود ـ وهذا الإقبال قال فيه عزمي بشارة (المناضل العروبي الفلسطيني، وصديق حافظ الأسد وحسن نصر الله و “الجزيرة” معاً، وطريد اسرائيل): “باب الحارة استطاع ان يكهرب المشاهد من المحيط الى الخليج” (نقلاً عن عباس النوري نفسه) ـ فإقبالهم آية وجدانهم العميق، ومرآة ما يقبلون عليه، أي المسلسل. وهذا دور يدور. فالناس، أو جمهورهم، هم مستودع الصدق والحقيقة والأصالة. وهذا ما “يقوله” المسلسل، وما يفترض في المثقفين والكتّاب و “الفرد” على قول منار ديب (“الأخبار”، 13 ايلول 2008)، الإقرار والصدوع به. فشأن من “يخرج” على المسلسل هو شأن من يخرج على الناس، ومنهم، وهم ما هم: فيشبه الخارج أو الناقد أو الفرد، وهو لم يكن ولد يومها ولم يولد بعد، على القول المتقدم نفسه،”خائن” المسلسل المولود من عدمٍ ذكرٍ وأنثى معاً.
فيحمل أدهم أسامة سكيك (“الحياة”، 22 تشرين الأول 2007) رواج المسلسل، في دوره الثاني بعد دوره الأول، على تصويره واستحضاره، ملء العين والأذن والفهم، “ما نفتقد إليه من نبل وشهامة في زمن عزا فيه”. فعلى هذا، ليست رواية الحلقات الرمضانية الحولية (السنوية)، وصورها ومقالاتها أو حواراتها، مرآة وقائع وأحوال وحوادث راهنة أو ماضية ومنصرمة، ولا هي مرآة معانيها. وليس المتفرج عيناً، أو بصراً وفهماً يعقلان ويعللان ويؤلفان، ويترجحان بين الماضي وبين الحاضر. فيؤولان الواحد في ضوء الآخر، ويريان رأيهما وربما آراءهما الكثيرة في ثمرات هذه (العقل والتعليل والتأليف…). فالرواية والعين معاً تصدران عن “شهوات” سوية هي من طبائع النفس وجبلتها. فالحلقات التراثية والرمضانية السورية أو الدمشقية تمثِّل على طاعة الأبناء الآباء “على ما يشتهي الآباء اليوم”، على ما يكتب أدهم أسامة سكيكي. ويخاف الآباء على أبنائهم، ويحرصون عليهم وعلى عفتهم، “على ما يشتهي الأبناء”. وتلم الأم الأسرة “على ما تشتهي الأسرة”. و “الإناث” عفيفات “على ما يشتهي الشباب”، أي الذكور على الأرجح.
وتتضافر “الشهوات” هذه ـ وينبغي حمل اللفظة على معناها في طبيعيات أرسطو: يشتهي الجسم مستقره حين يُرمى ويسقط بموضع ـ على استواء الكون الاجتماعي نظاماً، أو على نظام. والنظام وهيئته، وبديع نظمه، دليل الخلق والحكمة، وآية الخالق الحكيم. وهي، النظام والهيئة والنظم، ميزان الصدق والحقيقة والأصالة. وليس ميزانَها، على خلاف زعم بعض الكتّاب والمثقفين والأفراد، “كُتّاب” (صف الدرس البائد على شيخ يستحسن أعمى وطويل العصا) من هنا، وجريدة، “جورنال” على ما يحب “الأستاذ” الجورنالجي محمد حسنين هيكل القول، من هناك، ولمبة وموتور من هنالك. فإقبال الجمهور على الحارة وأهلها يجهر فقداً ونعياً وطعناً. وهذه، بدورها، تحيي قران أو وحدة ما تفرق وتشعث: فتبعث الرجولة في “ذكور من غير رجولة”، وتنفخ العدل والشجاعة والإقدام في حكام عروا منها (وهذا ما لا يجهره الكاتب، فيقول موارباً بعض الشيء: أبو شهاب حاكم عادل وشجاع ومقدام)، وأبو العز “يرفض ان تداس كرامته ويغار على عرضه وأهله”.
النكوص والإحياء
وعلى هذا، يقترح المسلسل، شأن المنامات وأحلام اليقظة والأهومة، ما يسميه بعضهم نكوصاً أو ارتكاساً الى عالم اجتماعي وتاريخي، طفلي رحمي وسحري. فـ “تحقق” روايته، أي أخباره وقصصه، في صور تترجح بين النوم واليقظة، وفي ضوء يتوسط عتمة الليل والضوء المخنوق، “تحقق” العوم في نُوام يجمع الإدراك الى الغيبوبة. فيدعو الجمهور، وكتلته الذائبة والرخوة، الى التلاشي الداخلي، والاقتصار على مشاعر وأحاسيس وأفكار تتناولها النفس المنطوية على نفسها وطويتها من غير الخروج منهما. وقد تكون المشاعر والأحاسيس والأفكار هذه من صنف تخلفه “الحمامات” المتفرقة في السينما (“حمام الملاطيلي” و “السقامات”) والتلفزيون (“حمام القيشاني”) والعوامات القصصية (“ثرثرة فوق النيل”). ولكن الإقرار بالنكوص أو الارتكاس في شأن تاريخي واجتماعي عام ومعياري، وفي “مجتمع” (جماعات أهلية) لا يرضى بهوية لا ينتزعها من عدو وجودي وكياني استئصالي، متعذر بل ممتنع ومحال.
فيُقلب الارتكاس إحياء وبعثاً وتجديداً، على منطق المنامات والرؤى المراوغ. ولا ريب في صدق ملاحظة سمر يزبك (“الحياة”، 11 كانون الثاني “(2008 اكتفاءَ الحارة بنفسها عن السلطة”، وتمتعها بـ “أمان الجزيرة”، حيث السيد والسجان واحد، وعودة عصر الحريم. ولكن صدق الملاحظة “التام” يفترض اقتصار المسلسل على الارتكاس، وقبوله وجمهوره حمل الماضي على الماضي، وفصل الحاضر والآتي منه. والحق ان “باب الحارة”، والأدب التلفزيوني “التراثي” والحديث جملة، يكذب الحمل والفصل هذين. فلا تحصى المقالات والمراسلات التي تحتفل بـ “القرية الشامية”، وهي مجمع المجسمات التي يصور المنتجون والمخرجون السوريون مسلسلاتهم “التراثية” و “التاريخية” فيه (في المجمع). فينوه وزير السياحة السوري بالمهن التقليدية، وقلعة صلاح الدين، والمسرح الروماني، وقصر العظم، وتجسيدها “الحي والواقعي” “لأنماط الحياة الشامية من عشرينات القرن الماضي”، على ما ينقل نور الدين الأعثر عن الوزير (“الحياة”، 18 آب 2008). ويجمع الموظف الرسمي السياح وأهل البلد في باب واحد، وغرض واحد هو “تعريفهم بالتراث الشعبي الدمشقي”. والتقاء السائح وابن البلد على تناول “التراث الحي” على معنى مشترك قرينة على عموم المعنى، ودمجه بين دفتيه أصالة البلد ومعاصرة الغربي. (وتواردُ هذا مع “برنامج” محمد عابد الجابري تحقيق “المعاصرتين”، ومع استظهار قصاصين وشعراء عرب بنقل بعض قصصهم وأعمالهم الى لغات أوروبية واحتجاجهم به على مرتبتها، هذا التوارد غير خفي).
فيعزو مخرج “الباب” المثلث، بسام الملا، ما يسميه متواضعاً “الاهتمام” الذي يبديه الجمهور، وهو يقول “المزاج الشعبي” مترفعاً، بمسلسلات مسلسله، الى “ملامسته قضايا سياسية واجتماعية لها علاقة بتوقيت العرض” (في 2006 و2007) وبـ “المزاج الشعبي” العتيد. ويلمح المخرج السوري من غير تورط الى ما يسميه “خبير” ومحلل سياسي سوري آخر، وسفير مرتقب (الى لبنان!) “المقاومات” العربية (والإسلامية، ولكن هذه يحسن السكوت عنها في كلام الجهر) التي تساندها دمشق الأسدية حين لا تنشئها أو تصنعها وتنفخ فيها حياة مريضة ومميتة. ويخرج المخرج من مغمغته الظرفية والسياسية الى التصريح حين يتناول (“يلامس”؟) الأعماق القيمية، فيقول بالفم الملآن: “العمل تجسيد لقيم بيئة أصيلة ونبيلة لامست وجدان (الشعب أو مزاجه) ببساطة وصدق”.
وعلى هذا، يقص الملاّ المخرج على مسمعه، على نفسه، وعلى مسمع الجمهور، حكاية لا رد ولا راد عليها، شأن حكايات أو فتاوى المجتهدين العلماء في بعض الملل والنِّحل، لأنه لا يرد “على الله”، والحكايات من “فيضه” وإلهامه. وتفترض المناقشة، وهي السبيل الى الرد، اختباراً أو تحقيقاً، على معنى الحمل على حقيقة الوقائع وصدقها. ويحتمل كلا الاختبار والتحقيق التكذيب. ويشترطان الاحتكام إلى خارج يقاس عليه. والحكاية الملاّوية لا خارج لها، ولا تقاس على غير، ولا يمتحنها غير. فهي تصدر عن أصالة ونبل ووجدان. وغير هذه أو خلافها وأضدادها هي دخالة (على الضد من أصالة) وخساسة وكذب أو افتعال واصطناع. والحق ان لا ضد لوجدان. فالوجدان جوهر وليس صفة، و “ضده”، وليس نقيضه، جوهر آخر. وحمل الجوهر الآخر على نقيض وليس على ضد هو باب على حرب وجودية لا نهاية لها، على شاكلة تلك التي يراها أحمدي نجاد في مناماته ويقظته، ويراها معه شركاؤه في مناماته. وتتوجه الحكاية هذه على نظيرها وقرينها وشبيهها، أي على (جمهور) أصيل ونبيل ووجداني، مثلها ومثل مصدرها. وقد لا يكون ثمة مسوغ لصدورها، أي خروجها من نفسها، و “فيضها” صوراً وأقوالاً وحوادث. والمسألة هذه، مسوغ الصدور، عويصة اعتياص تسويغ الخلق نفسه على ما تنبّه السهروردي والإشراقيون عموماً.
الأمة جمهوراً تلفزيونياً
ومهما كان من أمر علل الخلق والإخراج والحكاية، فـ “العمل”، على قول بسام الملا متواضعاً، صدر حقاً عن وجدان اصيل ونبيل. والأعظم انه صدر عما لا مناقشة فيه وهو قيم الوجدان هذا. وهذه، القيم، لا خيرة فيها. فإما صدوع وامتثال وإما إنكار وشقاق، أي انحياز الى “وجدان” آخر. والوجدان والجماعة (الأمة) واحد. و “الوجدان الآخر” خلف في القول. ولا معنى له إلا السعي في محو الوجدان السوي والواحد، وقتله وموته، على ما ذهب إليه الأمير شكيب ارسلان في ثلاثينات القرن الماضي، وعلى ما لا ينفك يقول، صبيحة كل يوم أو ظهره، “المرجع” محمد حسين فضل الله من حارة (ما هذه المصادفة؟) حريك، بين ضاحيتي الغبيرة وبرج البراجنة. وما صدر عن وجدان أصيل ونبيل، هو وجدان الأمة ـ وهذه صارت جمهوراً تلفزيونياً ومصلياً على معنى لا يفترق كثيراً ـ تجزيه الأمة المتلفزة خيراً وإقبالاً وفرجة وتقليداً.
فالمسلسل أو “العمل” ليس وسيطاً بين الأمة المتلفزة وبين وجدان الأمة، وقيمها الثابتة والعميقة، إلا ظاهراً وشكلاً وعَرَضاً. فهو وجدان الأمة متلفزاً. وهذا على شاكلة الاضطرار الى سلك العلماء الفقهاء في البلاغ عن رسالة هي مرآة الفطرة، أو الاحتياج الى الحزب و “اللادولة” في حكم الأمةِ نفسَها، او حكم الشعب نفسَه، وعلى شاكلة التوسل بمجلس الشعب والانتخابات الى تثبيت الحزب القائد في قيادة الشعب العميق بالمجتمع،
بحسب المادة الثامنة من الدستور (السوري). والمنطق الشعبي الأمي والوجداني هو في قرارته، على ما يعلم أصحابه، منطق ديني البنية أو المبنى. والصدور عن غيب خفي، والتحدر من الغيب الخفي هذا، والقيام في الشاهد والظاهر قرينة على حقيقة الغيب المقيم على الخفاء والاحتجاب، هي رسم المبنى الديني وآيته. ولا يماري بسام الملا، على خطى ميشال عفلق، “ابي البعث” رضي أبناؤه أو أنكروا، وربما عزمي بشارة و “الجزيرة” القطرية وغيرهما من المفكرين، في هذا. فيقر بأن “بنية مجتمع دمشق الحقيقية هي انه مجتمع محافظ، وجزء كبير من تقاليد حياته له مرجعية دينية، وهذه حقيقة تاريخية ربما لا تعجب بعض المثقفين”.
وهذا جواب من نعوا على “باب الحارة” بعثه “الحرملك”، على قول هاني الروماني في برنامج تلفزيوني دمشقي (عن أحمد عمر، “الحياة”، 20071029)، أو “عصر الحريم”، على قول سمر يزبك وإيلي عبدو وموسى برهومة (“المستقبل”، 20071010)، وغيرهم كثير. ونسبة الطعن، أو الملاحظة المتحفظة والآسفة، الى “المثقفين” أو “بعضهم” تكرر تقليداً بروليتارياً وشعبياً، شيوعياً ونازياً معاً، وأصولياً خمينياً ونجادياً منذ بعض الوقت. ويخرج التقليد هذا “المثقفين” ـ وهم على أنحاء مختلفة ومعقدة “يهود” هذه الأمة ومنشأ الفُرقة والكلام و “التشيع” ـ من الأمة، ويلفظهم من مزاجها الأصيل والفكري. ولكن المخرج السعيد يرد على “بعض المثقفين” رداً ثانياً مراوغاً. فهم يعتدّون من التراث الشعبي، على ما ينبغي لهم، بعناصره “الاجتماعية” والمهنية والاقتصادية. فينوه الرجل بـ “التنظيمات الاجتماعية” التي لازمت الحارات الشامية، والمجتمعات المشرقية السلجوقية والمملوكية والعثمانية، وكانت من رسومها (الدخيلة)، ويمدح “مجلس اعضاواتها” التحكيمي و”القضائي”، وأصناف المهن وتعريفها شيخ الكار وكفاءته وجدارته. فما على “بعض المثقفين”المتحفظين إلا العودة عن تحفظهم. فهو، المخرج، لا ينكر العامل الاجتماعي، شأن المتحفظين تماماً. ولكنه يأتي بأحسن من تنظيماتهم الاجتماعية حين يسندها الى أعراف الشعب وتراثه واحتفالاته وأفراحه وأحزانه ورمضانه وحجه وحكواتيه، ولا ينسى حلاقه ومزينه القديم وحجامته وتوليه زفة العريس ليلة عرسه، على ما لاحظت بيسان البني (الحياة 2008717).
ويرد عباس النوري نصلَ التحفظ عن عزوف “باب الحارة” التاريخي، وعن التاريخ (“غير معني بالتاريخ”، على قول منار ديب)، الى نحر المتحفظين. وينوه الممثل، وصاحب الدور البارز، أبو عصام، في “فريق” التمثيل و “روحه الجماعية” (موسى برهومة)، بالسابقة الأميركية التي احتذى عليها “باب الحارة” وهي مسلسل “دالاس” الأشهر في سبعينات القرن الماضي، وبانكباب الحكومة الإسرائيلية على دراسة الظاهرة (وهو تنويه قريب من مديح حسن نصر الله نفسه ومقاتليه وفنهم العسكري). وهذا، أي مضارعة العدو الأعظم من وجه وصنع ما يدعوه الى الدراسة ويستدرج انتباهه وينكيه من وجه آخر، ما يعجز عنه نقاد “الحارة” وبابها وأهلها. وإذا حمل بسام الملا المخرج الحكاية وحلقاتها على “مرجعية دينية” لا تزال مرجعاً قائماً وفاعلاً، فعباس النوري يحملها على مرجع قبلي، أو على “نظام القبيلة”. والمرجعان كلّيان وشاملان وجامعان. فنظام القبيلة “يتحكم في مختلف تفاصيل حياتنا”.
فهو عمران وسياسة وجمال ومعتقد وثقافة وتاريخ ومشاعر وقيم ومراتب وسبل معاش. ولا ضير في الكلية، أو الكليانية القبلية هذه. فهي بيئة “ود وصفاء وسط علاقات تنطوي على الرحمة والصدق والاحترام المتبادل”. وتسودها، على قول موسى برهومة راداً على التشكيك الذي خلفه المسلسل الثاني، “اجواء البساطة ورفعة القيم وحيوية الموروث الشامي القائم على التعاضد والنخوة والتآزر ومقاومة المحتل”. وينصب الممثل الشامي وربيب حي القيمرية الذي خص “لياليه” بمسلسل نافس المسلسل الذي خرج منه أو أخرج، ينصب “الباب” بإزاء العولمة نفسها. فهذه “فككت جمالية العلاقات التي كانت سائدة”، وأخلاقيتها أو مناقبيتها من غير شك. و “باب الحارة” أحيا العلاقات “المفككة”، ونفخ الروح في صورها. فبعثت تسعى في نفوس الجمهور ومهجه وعقوله وإراداته. فـ “عودة الروح” هي المثال التاريخي والثقافي، العربي ـ الإسلامي، المزمن والمقيم. ويخطئ، على زعمي، من يحمل آراء النوري والملا ومروان قاووق (المؤلف) وبرهومة وعبدو وسكيك والبني وبادي وبشارة و “الجزيرة”، وعشرات غيرهم، على المبالغة والتبجح وحدهما. فالصحف والفضائيات تترى بـ “أخبار” المسلسل. وهذه باب إعلامي على حدة. فذهب مراسل صحيفة “لمستقبل” اللبنانية بغزة، على شهادة عشرات من أهلها المنكوبين، الى ان المسلسل أخرج أحاديث الأهل من السياسة، وخلافاتها ومشاداتها، ووضعها على حوادثه ووقائعه (1 تشرين الأول 2007). فكان جمع الأقارب ينفض، ويفرقهم الخلاف على “فتح” و”حماس”. فخلفت المناقشة الهادئة التدافع والتنابذ. فلما اجتمع شمل حارة أبو النار وحارة أبو شهاب، وهما اجتمع شملهما على الاستعمار بديهة، بكى كثيرون “دموعاً غزيرة”، على وصف ميسرة شعبان (“المستقبل”، 15 تشرين الأول). فتوحيد “الفصيلين”، أو الحارتين والكيانين والغرضيتين والقبيلين على بعض لغات العرب، أعزهما، وقواهما على الاحتلال، ونصرهما عليه.
حجرة الأصداء
وفلسطين، او المعاني الفلسطينية، على نحو ما تحضر التخييل والصور والمقالات والخطابة العربية، حجرة أصداء عظيمة تترجم عن احاسيس الجمهور “العربي” وأحكامه وآرائه. فهي مصدر شطر راجح من المثالات الخطابية والمقالات السائرة. ومعظم هذه وضع عليها. فمن اليسير على الفلسطينيين الغزاويين، وربما على سواهم، أن “يترجموا” منازعاتهم، ويقرأوها في ضوء حرب الأهل في الحارتين. فالخلاف الفتحاوي ـ الحمساوي، على قول الفلسطينيين، يشق الأهل الواحد، أي الجسم القبلي. وهذه ليست حال اللبنانيين، ولا حال الأردنيين او المصريين او العراقيين او السوريين. فهؤلاء جميعاً يعانون آفة التركيب. واضطروا، منذ انحسار الاستعمار وظله وعلى رغم النفخ في “عودته” المفترضة وفي طيف الإمبريالية المخيم ودمجها في الصهيونية، الى الإقرار بالكثرة وسريانها في مجتمعاتهم. والأرجح ان الحال هذه تقيد بعض الشيء استقبال المسلسل. فمعظم الملاحظات في الصحف (اللبنانية) على رواج “الأبواب” مصدرها فلسطين.
فتروي بديعة زيدان (“الحياة”، 30 نيسان 2008) ان الجزء الثاني من المسلسل دعا عشرات المحال التجارية والمطاعم والمكتبات الى اقتباس اسمائها من المسلسل وأسماء أبطاله، وعلى رأسهم ابو عصام وأبو شهاب والزعيم. وعشرات الفلسطينيين الآباء يسمون أولادهم معتز أو عصام. والسلع الغذائية المحلية تسمى بأسماء أهل الحارة وأبطالها ورجالها (من دون نسائها على ما يبدو). وتقدر الكاتبة أن معتز (يؤدي الدور وائل شرف) يحظى بإعجاب “جارف” في أوساط اليافعين والأطفال. ويتربع عباس النوري (أبو عصام) في الصدارة، لا تختلف عليه “فئة” من “فئات الشعب الفلسطيني”. ويقاسم “العكيد” (العقيد) أبو شهاب (سامر المصري) النوري بعض الصدارة هذه. وأخرج ايمن نحاس، الفلسطيني، مسرحية باسم “باب الحارة” (“الحياة”، 2008129). ودعاه الى هذا أثر المسلسل في “حياة الناس الاجتماعية والأعراس والمناسبات”. فهم “أحبوا الأشياء القديمة التي راحت منا وأضعناها”. فما كان من نحاس، ومن فريق الممثلين معه، إلا ان “أدخلوا” أبطال المسلسل الى “عالم” الفلسطينيين. فاعتقل الجيش الإسرائيلي أبو عصام ومعتز وأبو شهاب، وحررهم الشبان الفلسطينيون. وتحرروا معهم من غير شك في اثناء الوقت الذي تدومه المسرحية المنقولة عن مسرح عن “وقائع” ممسرحة.
ويؤوِّل الجمهور خارج فلسطين “باب الحارة”، ومشاهده وأبطاله، على أهوائه وأحواله. فأطفال سوريا، اليوم، يهتفون: “أنا الزعيم، أنا ابو النار، أنا أبو شهاب، أنا العكيد”، ويؤدون مشهد سحب الخناجر والسكاكين بعضهم في وجه بعض، على ما يروي هوشنك أوسي (“الحياة”، 27 ايلول 2007 فهم أولاد الحارة. والحارة تثوي في قرارتهم، وهم جبلوا منها، على ما لا ينفك يخبر أصحاب المسلسل وبعض مشاهديه المتحمسين. وأما الخناجر والسكاكين في الوجوه فبعض من سنن القبيلة و “مشهدها الثقافي” والسياسي، كانت “مرجعية” المشهد العتيد دينية أم قومية، أم دينية ـ قومية (وهذه أجمع وأشمل). وعبارة “لَضَرَب بعضكم وجوه بعض بالسيوف” من العبارات المتواترة في كتب الآثار والأخبار معاً.
وأما اللبنانيون فأخذوا من المسلسل اسماً لحمام، “حمام باب الحارة” في ضاحية بيروت الجنوبية (عبدالله ذبيان، “الحياة”، 18 كانون الثاني 2008). وسموا “خيمة أبو شهاب” مطعماً أو صالة في أحد فنادق وسط بيروت الفخمة (كلوديا مرشليان، “دليل” صحيفة “النهار”، 26 ايلول 2008). فعلقت سيوف عربية و “طبنجات” وأسلحة قديمة على جدران الحمام. وصُمدت خيزرانة القبضاي معتز في مكان بارز. ونصب ميزان عربة خضار قديم عند منعطف. وألبس الخدم لباساً عربياً، ودعي المستحمون الى لبسه. وعتق الخشب، ودليت ثريات قديمة من الأسقف. فإحياء رسوم الماضي في الحاضر، ورجوع اهل الحاضر الى الماضي، ينبغي ان يكونا تامين ومتفقين على مثال اتفاق الوجدان أو 7-7-المزاج7-7- الشعبي في الوقتين، وفي الأوقات كلها، وأن يطاولا “أدق التفاصيل”، على ما مر.
ويتحدر “باب الحارة” من تقليد تلفزيوني وقصصي حكائي “قديم” يرقى الى فوق العقد ونصف العقد (1992 فكانت “ايام شامية” الحبة الأولى من السبحة السورية، “الدرامية”. وبلغ عدد المسلسلات اقل من 60 بقليل، في 2006، سنة المسلسل الأولى. ومني الإنتاج السوري بـ “نكسة” في 2007 (خليل صويلح، “الأخبار”، 29/12/2007، فنقص عدد المسلسلات الى 36. وفي الأعوام هذه تناولت صناعة الصور موضوعات “تاريخية”، قديمة وحديثة ومعاصرة على حد واحد. فسبق “عنترة بن شداد”، وقتاً، “خالد بن الوليد”. ومهد “صقر قريش”، الفصل الأول من الملحمة الأندلسية، للفصول التالي من مداولة الدول بين الناس: “ربيع قرطبة” فـ “ملوك الطوائف” فالفصل الأخير، “سقوط غرناطة”. وتتناول المسلسلات، في طريقها الى التاريخ المعاصر، “محمد علي” الأرناؤوطي الألباني وخديوي مصر الأول وباني “نهضتها” و “باعث الوحدة العربية”. في اوائل القرن الأسبق، على ما يحسب ويقول كثر. ويختم “الملك فاروق”، المصري، الفصول الخديوية هذه.
وتحظى الأخبار الفلسطينية بشطر وافر من المشاغل الدرامية، آيته “التغريبة الفلسطينية” و “اجتياح” وغيرهما. وأدى عباس النوري في المسلسلات هذه أدواراً استمالت إليه الجمهور الفلسطيني وألسنته الجهورية، على ما تقدم، واستمالته الى فلسطين وقضيتها وأهلها، على مثال الدور الذي يدور. وتعرج المسلسلات “التراثية” السورية، في طريقها الى الأخبار الفلسطينية المعاصرة، على فصول سورية، محلية وبلدانية. فيتناول “أيام ساروجة” ريف القرن التاسع عشر السوري، ويروي حوادثه. ويخص “الحوت” صيادي الساحل في عشرينات القرن الماضي بالعناية. ويقص “ليس سراباً” اخبار الحب بين سوريين وسوريات من مذاهب وأقوام على شاكلة “الموزاييك” السوري (منار ديب، “الأخبار”، 30 كانون الثاني 2008). ويمر “صراع على الرمال” بالبدو، و “كوم الحجر” بحلب. ويدور “أسمهان” على المغنية، الأميرة الدرزية والشامية المهاجرة الى القاهرة، وعلى بعض الحوادث الانتدابية. ويتنقل “مطر الربيع”، و “يوم ممطر آخر”، بين دمشق والجزيرة (الشامية) في خمسينات القرن العشرين. ويمدح معلقون صحافيون “هجرة القلوب الى القلوب” و “خان الحرير” و “الثريا” و”رسائل الحب والحرب” و “ظل امرأة” وغيرها. ويذم بعضهم “حمام القيشاني” و “الخوافي” و “أيام شامية”.
وهذا غيض من فيض، ومن الفيض هذا المسلسلات المصرية الكثيرة والمتجددة، والمسلسلات التركية. وهذه يتصدرها “نور”، الأشهر وذو الـ170 حلقة. وهو واحد من 18 مسلسلاً تركياً تستضيفها تلفزيونات شمال افريقيا وإيران ومصر والإمارات وسوريا والعراق والأردن ولبنان (“السفير” 15 ايلول 2008). وتزعم رولا عبد الله (“المستقبل”، 7 آب 2008) أن صوت “نور” يعلو صوت المعركة وطائرات الاستطلاع الإسرائيلية في سماء فلسطين، ويجمع شتات العائلات مساء الى المائدة، ويصرف حراس ليل بيروت (!) في إجازة. وأحصى احد محركات البحث على الشبكة، على ما قرأت سمر يزبك، 312 ألف كرة تناولت المسلسل التركي الذائع الصيت” (الحياة”، 22 حزيران 2008). فشخصت الكاتبة “حقبة تركية” تلفزيونية، في أعقاب “الحقبة المكسيكية”. واستفتت بيسان البني بدمشق مشاهدين رأيهم في “نور”. (“الحياة”، حزيران 19 حزيران 2008) فجاءت آراؤهم فردية أو شخصية و”عاطفية” خالصة.
فاحتسبت السيدة الأربعينية لمهند رده بعض الحب الى “قلوب متحجرة” كثيرة، تأمل ان يكون منها قلب من تود ان يُبعث الحب فيه. وترى المراهقة الفتية مهند “جميلاً جداً كالخيال”، وهي تخزن صورة في “موبايلها”. وتدعو أزياءُ نور، أو “ستايلها”، صديقة الصبية الى الفرجة، والإقامة عليها. ويقبل المراهق الفتى مسروراً باجتماع العائلة، أولاً، ومتمتعاً بمشهد “الأجساد (النسائية) المثيرة”، ثانياً. وتنتظر الفتاة الصغيرة، ابنة والدين منفصلين، أطوار بنت في المسلسل مثلها، انفصل والداها، فتقارن بين حالها وحال مثيلتها وقرينتها. وتراوت الصحف ووكالات الأنباء خبر المرأة الجزائرية التي طلقها زوجها جزاء جهرها رغبتها في قضاء “ليلة” مع كيفانش تاتلينوغ، على نحو ما تناقلت زيادة عدد السياح العرب الخليجيين الى تركيا، والقصر الأسطنبولي الذي تنزله عائلة مهند، من 41 ألفاً الى 100 ألف، من 2007 الى 2008. ولم يفت صاحب “الاتجاه المعاكس”، على “الجزيرة”، الدكتور فيصل القاسم، خطر المسلسل ومكانته. فخصه بحلقة من البرنامج الجدلي والفكري “الإشكالي” والذائع الصيت.
اختلاط الهوى
وعلى خلاف الآراء السياسية أو الاجتماعية او الثقافية الجماعية، أي الأهلية والقومية، في “باب الحارة” ومعتزه وأبو عصامه وأبو شهابه وأبو ناره، وتقتصر الآراء، وخصوصاً المشاعر، على الحاضر، وعلى النفس. ويعج المسلسل التركي بالآلات المعاصرة. ويتناول مسائل اجتماعية كثيرة ومتفرقة انتُقد المسلسل العربي السوري على سكوته عنها وإغفالها. فمكانة المرأة هي في القلب من حوادث “نور”: في الأسرة النواتية فالأوسع، وفي قلب الزوج وفراشه وماله وميراثه وماضيه. ولعل مكانتها هذه، والمسائل “الشرعية” التي تكتنفها، هي السبب في حملة فقهية توجهت على “نور” ولم تنل منه. والتفاوت الاجتماعي ماثل، ولو على صورة الفرق بين السادة وبين الخدم. والعصابات تسرح وتمرح. والصحافة والموضة وقوانين الأحوال الشخصية والجريمة موضوعات تتخلل حوادث كثيرة، وأحاديث أكثر. فهل معنى الإقبال على “نور”، أو على “سنوات الضياع” و “إكليل الورد” التركيين كذلك، أن الجمهور “العربي”، أو شطراً منه غير قليل، ينأى بنفسه عن “تراثية” الحارات، واجتماعها التقليدي، وذاكرتها ومحافظتها؟ أم هو قرينة على انقسام الجمهور العتيد قبيلين وحزبين، واحداً يميل الى المحافظة “الستاتيكية” وآخر ينزع الى المعاصرة “الديناميكية”، على ما رأى جاك بيرك قبل نصف قرن؟ أم ان الجمهور ـ وهو جماهير لا تعلم الصحافة على وجه الدقة على أي مقادير وأهواء تتجمهر وتتكأكأ ـ يجمع على شاشته الواحدة رَكْبي حبه، أو ركائبه أنّى توجهت، على قول الشيخ الأكبر (ابن عربي)؟ فلا يدفع الركب الشرقي الركب الغربي، في حلته التركية، بل يؤلف بينهما في ركب شرقي ـ غربي مختلط اختلاط ثقافات العامة وثقافات الخاصة الطليعية وما بعد الحداثوية؟
ويستأنف هذا، على وجوهه الثلاثة، سيرة وسنناً ثقافية وسياسية واجتماعية لم يطوها القرن المنصرم، ولا طوتها المجتمعات العربية (­الإسلامية) وجماعاتها وأجهزة الحكم فيها. ففي أوائل القرن العشرين، وأواخر سابقه، عمد القصاصون العرب الى التواريخ العربية ـ الإسلامية والأخبار، فرووها في حلة قصصية و “عامية” لا يزال جرجي زيدان علماً عليها. وعلى شاكلة المسلسلات التلفزيونية التاريخية، وحلقاتها ومادتها ونفسانياتها (أو بسيكولوجيتها) وتشخيصها وحكايات عشقها وعواطفها، قص زيدان ـ وقبله وبعده عدد غفير من الحكواتية تصدرهم لبنانيون مسيحيون ليس كرم ملحم كرم، أو أحد آل الأشقر من بيت شباب ـ عين عار، أقلهم شأناً وجزالة عربية ـ حلقات الفتوح العربية منذ اجتياز خط تبوك الى ضواحي شبه جزيرة العرب القريبة والغسانية، فالمغرب الأقصى والأندلس، فأرجاء آسيا الوسطى (فرغانة)، في عهود الأسر الحاكمة وأجنادها ومقاتليها ووزرائها. فصاغ زيدان منشئ “الهلال” قبل نحو نيف وقرن، مادة “تاريخ التمدن الإسلامي”، وسم كتابه التاريخي “العلمي” أو الخبري، في حلة بطولية وشخصية. فأخرج من إغفال التاريخ والتمدن والدين أفراداً سماهم، ووسمهم مياسم وسمات وميولاً ورغبات وأحزاناً ولواعج حمّلهم وحملها حوادث التاريخ المعروفة والكبيرة.
وهو جرى في فعله هذا على مثال أصحاب المقالات النهضوية التاريخية. فحمل الهوية التاريخية القومية (والدينية) المعاصرة على جماع الحوادث الماضية وجملتها. وحسب ان قوة تعريف الهوية، اليوم، هي ثمرة من ثمرات سعتها وعرضها، وثمرة امتلاء الوجدان او الوعي بها ومنها. وخلفت وزارات “المعارف”، على ما سميت وزارات التعليم والتربية الى وقت غير بعيد، وبرامج تدريس التاريخ التي أقرتها، جرجي زيدان ورهطه على ملء الهوية القومية ـ الدينية، المفترضة واحدة وجامعة وثابتة، بأخبار الفتوح والبطولات والانتصارات والخيل والسيوف والخطب. ويخلف التلفزيون، بعد السينما، التدريس والقصص على تدبّر التاريخ، وتدبيره وصوغه وتقريبه. ودعت الخلافة التلفزيونية، على ما يقتضي الوسيط الإعلامي وتقتضي بنيته، القص والحكاية، في عصر الوطنيات والمحليات الملزم على رغم الآفاق القومية ـ الدينية المترامية، دعتهما الى الإلمام بخصوصيات كانت منكرة الى أمس قريب، ولا تزال منكرة إذا تجاوزت القص والحكاية الى السياسة وعمومها. ويتولى القص والحكاية التلفزيونيان إرساء مشروعية “المزاج الشعبي”، التلفزيوني العربي، وإرساء مشاعره وأخلاقيته الخطابية ومقاومته العصابية وإنكاره التاريخ والعولمة، على ركن مكين هو ركن الصورة وما يتبعها. فيمدح التلفزيون نفسه على تناوله التاريخ والاجتماع والناس، ويمدحه الجمهور على تناول هذه، ويجزيه فرجة ومشاهدة كثيفتين. ويجمع ابطال الماضي إلى أبطال الحاضر حين لا يلد أبطالَ الحاضر، على شاكلة ولادته مسلحي الفقه والحرب الصاروخية.
وقد تنبه المسلسلات الحاراتية التراثية على وجه بارز من التواريخ العربية الحديثة، وثوراتها وانتفاضاتها ومقاوماتها، هو نباتها في تربة أهلية اولاً، وفي أحيان كثيرة آخراً، وعسر شيوعها في أرض مختلطة ومركبة مديدة نطلق عليها صفة الوطنية تشبهاً بالمثالات التي نحسب اننا نعرفها. فالثورات التي نؤرخ بها الاستقلالات الحديثة، وبناء أجهزة الإدارة والحكم، والإسهام في الصراعات السياسية الكبيرة، الإقليمية والدولية ـ من الثورة العربية الأولى (جبل العرب أو جبل الدروز) فالثورة العربية الكبرى (الفلسطينية في النصف الثاني من الثلاثينات) فالثورة العربية السورية، فحركة التحرير الوطني الجزائرية، فالحركات الناصرية الكثيرة، فالحركات الفلسطينية، الى الحركة الشيعية المسلحة في لبنان وحركة المقاومة الإسلامية بغزة ـ هذه الثورات والحركات والمقاومات والانتفاضات معاقلها أهلية وحاراتية أولاً، ومشاربها ومنازعها وحروبها أهلية وحاراتية كذلك. والحارة، على معنى الأهل وحلفهم وعصبيتهم، هي مصدر قوة الحركات هذه قبل انهيارها وتصدعها العاجلين أو الآجلين، ثم تجددها وانبعاثها بموضع آخر.
وعلى الترتيب هذا، لا تعدو الحداثة، على وجوهها كلها تقريباً، كونها عَرَضاً طارئاً لا يغير شيئاً حقيقياً في “المرجعيات”، على قول بسام الملا وغيره، أو “الثوابت”، او الهوية، كيفما صيغت هذه كلها. وتتقلب أشياء الحداثة بين ظهراني الهوية، أو تتقلب الهوية بين أظهر الحداثة، من غير حرج ولا منازعة ولا مشادة. والتقلب المزدوج هذا مسرحه الأسرة أو العائلة، أصولها وفروعها، ومداره على المشروعية النَّسَبية، على رغم الصيغة الفردية وآلات العمران. وانكفاء النفس العميقة وقيمها على نفسها، أو على حارتها الحميمة حيث هي جماعة وتراث، يعلق العالم في الفراغ “النفسي”، على نحو ما يحمي النفس من امتحان العوالم وحوادثها وتواريخها، ومن محنتها الممضة والأليمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى