ياسين
رستم محمود
أيا تكن درجة فطنتك، سيصعب عليك حين ترى الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، أن صاحب هذه الابتسامة هو نفسه الشخص الذي كانه ياسين الحاج صالح، في سنواته الخمس والأربعين الماضية، فعليك أن تصدق أن الرجل ذا الشعر الأشهب والدم البدوي الفواح والابتسامة الصباحية الدائمة، هو هو، نفسه الذي أعتقل في سنوات صباه الأولى، بداية الثمانينات من القرن المنصرم لأسباب تتعلق بآرائه السياسية، حينما كان طالبا في السنة الثالثة بكلية الطب البشري، ولم يطلق سراحه إلا بعد ستة عشر عاما ونصف من ذلك الزمن، فكل تلك السنين الطويلة التي أجبرته على التنقل بين معتقل سياسي وآخر، على طول البلاد وعرضها، وأبعدته عن بيئته الاجتماعية الأم، في أهم مراحل تكونه الإنساني، كل تلك السنين لم تستطع أن تأكل من روحه العالية، أو حتى أن تنخر في مواضع منها، فالابتسامة الهادئة، هي هي، قبل تلك السنين وبعدها، هي نفسها حينما كانت لطفل من ريف الجزيرة السورية، حيث كان الحصول على حذاء بمثابة حلم له، مثل باقي أقرانه من الأطفال الريفيين السوريين، وهو نفسه اليافع الذي سجل من ذلك الريف أعلى الدرجات في سنوات دراسته الإعدادية والثانوية على مستوى محافظته الرقة، وهي نفسها ابتسامة السجين والطبيب والكاتب والمحلل السياسي الأشهر في سوريا.
لكن ما أهمية حضور كاتب كياسين الحاج صالح في الحياة الثقافية والسياسية والشأن العام في سوريا، بالنسبة للجيل الراهن من الشباب السوريين؟
أولا: بالرغم من الانتماء الفردي الخاص لشخص ياسين إلى تلك المجموعات الشبابية التي اعتقلت لسنوات طويلة في عقدي الثمانينات والتسعينات في سوريا، الا أنه أبعد ما يكون في كتاباته عن روح “الكاتب الصارخ” والذي يتبنى قاعدة ذهنية قائمة على منطق “أنا مظلوم اذا أنا على حق”، حيث تميل كتابات السجناء السياسيين بالعموم إلى تلك النبرات النضالية المتخلية عن الروح التفكيكية لأية ظاهرة اجتماعية أو سياسية يريد معالجتها، وترتاح في منطقها الأيديولوجي لنعت الأشياء بمنطق ـ الصح أو الخطأ ـ لا بمنطق ـ لماذا يحدث ما يحدث ـ، فلا تتضمن كتابات ياسين الحاج صالح، إلا في مواضع نادرة تحتاج إلى ذلك بالفعل، روحا مواقفية، مستندة لفكرة الأهلي والزمالك، بقدر اندراجها في آلية فك عناصر الظاهرة الغامضة، أيا كانت، وإعادة ترتيبها بشكل يكون أسهل وصولا وأسرع هضما لذهن القارئ المبتغى، وهي المهمة المعرفية للمثقف بامتياز.
ثانيا: على المستوى الشخصي والكتابي أبعد ما يكون ياسين الحاج صالح عن أي تخندق أو انتماء ضيق لطائفة أو دين أو قومية، فهو متزوج من غير طائفته الأم، وهو العربي الذي يعتبر المترجم الكردي السوري بكر صدقي من أعز أصدقائه، كما أنه صاحب الرؤية العلمانية الذي يرفض اعتبار العلمانية كتابا منزلا، غير خاضعة للتطورات التاريخية لجغرافية حضورها، أو اعتبارها عقيدة جهادية متخندقة ضد الدين أو المتدينين، وهو العروبي الذي يعتبر الهوية القومية العربية بشكلها السياسي الحاد تعبيرا مباشرا عن إقصاء باقي المواطنين السوريين من كرد وسريان وآشوريين، وهو الليبرالي الثقافي الذي يرفض تلك الدعوات التي تخفي وراء أكمة الليبرالية جبال الاستغلال الطبقي بحق المستضعفين، وهو اليساري المقارع لكل أشكال الشمولية السياسية… الخ، فهو يجمع تلك المحددات، يعتبر الكاتب المدافع عن قيم المواطنة والإنسنة كمحددين أوليّين للفرد، الأول كمحدد أولي سياسي والثاني كمحدد أولي ثقافي، حيث رصد فعل الكتابة من جهة، والممارسة الشخصية الفعلية المباشرة من جهة أخرى لذلك المحددين يشكلان جوهر مهمة المثقف العضوي، في بلد غير متصالح ومتسق فيما بينه، ومحدد بديموغرافية كالتي لمجتمع الدولة السورية الحديثة، حيث يغدو السؤال الأهم والأسبق في الفعل الثقافي لذلك النوع من الكتاب : كيف يغدو بلد ما وطنا لكل ساكنيه بالتساوي؟
ثالثا: أهم في كتابة ياسين الحاج صالح بالنسبة للأجيال الأصغر، هو محاولة عتق تلك الأجيال من نير الضجر والملل والإحباط، حيث تبدو لعبة الأفعوانة في السيرك أكثر راحة لعين المتابع من حالنا الساكنة والمشتبكة، كما وصفنا بتعبير بليغ يوما يوشكا فيجر وزير الخارجية الألماني الأسبق، فكتابة الحاج صالح غير مرتهنة لرغبة أن يكون الغد أفضل من اليوم، وإلا فالإحباط، بل يرى في الكتابة فعلا مستمرا في فضح كل استغلال وهيمنة يمارسها طرف ضد آخر، فعل يمارس وجوده الدائم من خلال الكشف عما هو مخفي، حيث تعمل الحقيقة بمجرد ظهورها إلى ايجاد آليات انتصارها بنفسها، حيث الحقيقة ثورة كما قال ماركس يوما.
نحن الذين ننتمي إلى جيل ما بعد النظريات الكبرى، حيث انحسرت الرؤية الكونية الرومانسية من أطروحات العالم، فلم نعد نرى مثلا أطفالا بأسماء لولومبا أو كيفارا أو هوشمين…. الخ بسبب خسوف الأفكار الكونية التي كانت حاملة لتلك القيم الرومانسية البائدة، وباتت الساحة مستباحة للغرق في لولب الطائفية والحارتية والمناطقية والمذهبية… الخ، وهو الأمر وإن كان واقعا، تبدو الكثير من الذوات أكثر جدارة بما هو أفسح منها.
يشكل ياسين الحاج الصالح واحدا من آخر تلك النماذج الفسيحة والجديرة بالاقتداء، بالنسبة للشباب السوري الذي بدأ رويدا رويدا يشكك بالمقولة التي قالها يوما سعد الله ونوس:… نحن محكومون بالأمل”.
المستقبل