صفحات ثقافية

الوصية

null
أمجد ناصر
الآن، صار القصر المتواري، قرونا، عن الانظار تحت حدقات فضولية وكاميرات تبثُّ على مدار الساعة. كان في برّية بعيدة عن جلبة المدن وعوادم السيارات وعلب السجائر والتشيبس والبيبسي كولا. لكنه لم يعد كذلك. شقت بالقرب منه طريق تجارية ذات اتجاهين عريضين تعبرهما، بلا توقف تقريبا، تريلات طويلة في طريقها من الحدود الدولية وإليها. هناك تقع الصحراء العظيمة التي تفصلنا عن المدن الحديثة التي نهضت، فجأة، على جوانب آبار الزيت الأسود. من قبل لم تكن هذه الطريق الدولية موجودة. لم يكن بالقرب من هذا القصر تجمعات سكنية تطير نفاياتها مع الريح الى محيطه المتلفع بصمت دهور مدحورة. ترددت على القصر كثيرا في السنين الأخيرة، طالبا في معهد الآثار الملكي وباحثا في الأوبد الصحراوية، وأخيرا كممسوس وقع في غرام المستحمات، أو بالأحرى، في واحدة بعينها.
عرفت القصر الذي يقع بالقرب من مضاربنا، أنا الذي ينتمي الى سلالة من البدو انقرضت بفعل الاستيطان والتمدين، قبل أن تتقاطر أفواج السياح الأجانب للوقوف على معجزته المتوارية عن الانظار نحو ثلاثة عشر قرنا من الزمان. والدي، توفي في سن تقارب سني الآن. وهذا نذير سوء، لأنني سمعت مرة من يقول إن الأشخاص يموتون كما يموت ذووهم. لكن أبي لم يكن عالم آثار ولا دارسا للتاريخ بيد أنه عرف القصر قبلي، فقد كان له شرف العمل، بيديه المعروقتين وعينيه المحدقتين بفضول عجيب، مع البروفيسور مارتين ألماغرو وفهم منه، بلغة لا تحتاج الى كلمات، كثيرا من أسرار هذا القصر. ربما يتوجب عليَّ القول (لأن هذا التفصيل مهم) ان والدي لم ينل حظا يُذكر من القراءة والكتابة. هذا ما اعتقدته حتى فترة متأخرة. لكنه كان راوي حكايات لم أعرف إن كانت حقيقية أم مختلقة. لا أسيء الى ذكراه إن قلت إنه كان مشوشا. لا يخلو من المزاعم التي لم يكن في محيطه من يؤيدها. كما أنه، حسب ظني، لم يعرف الاطمئنان الذي كان يلوح على أقرانه المكتفين بما هم عليه. كان يبدو لي أنه أراد أن يكون ما لم يستطع أن يكونه: رحالة، مثلا، أو حارس فنار. عائلته المتكاثرة قيدته في أرض لم يبرحها، وليس عندنا بحر ليكون حارس فنار. هكذا كانت حكاياته عن القصر وغيره من أوابد، لم أتحقق من وجودها، ونساء يطلعن من زبد البحر وزرقته، خيالات أو أحلاما طالما أثارت امتعاض أمي. لم أقل له هذا يوما. فقد كان يمتلك حساسية شاعر ومزاج فنان محبط. بين سبعة اخوة واخوات كنت ابنه الأثير. لأنني، ببساطة، كنت مستمعه الوحيد تقريبا. قد يكون هناك سبب آخر لم أدركه إلاَّ متأخرا: شبهي به. قدرتي على السرحان والعيش في مكانين في وقت واحد.
جلت في ردهات القصر ـ الحمام كثيرا. أمعنت النظر طويلا في ما رأته عينا ‘الأمير’ الذي ينسب إليه القصر. تلمست بتمهل واستغراق مواقع استرخاء نسائه الروميات بيضاوات في خدر الضحى (وهذا اقتباس من شاعر غارب). درت، مفتونا، في متاهته التي يضاعفها في خيالي ‘فريسكو الطراد’ والولائم الباخوسية والنسوة الطالعات من بخار حمامات تفوح بعطر الخزامى أو ماء الزهر. كنت أمشي. مسرنما أمشي. ألعب مع نفسي لعبة ‘الغميضة’. أضيعني وأجدني. القصر صغير، لكن تشابه ردهاته وكثافة رسوماته الباقي منها أو تلك التي يعيد خيالي رسمها مرة أخرى، تجعله لا نهائيا، أبديا، ليست له بداية ولا نهاية. الدائرة أبدية أيضا، وهذا القصر دائري، الرأس دائري، وما في داخله دائري. الجوع، الظمأ، الرغبة، النهارات، الليالي، القمر، نجمة الصبح، الأب والابن.
بالصدفة وجدت تلك الورقة. في واحدة من ترنحاتي المسهبة وجدتها. لم تكن من البردى. ولا هي جلد غزال. إنها ورقة مُسطَّرة، مجعَّدة، تنتمي الى زمننا المسطّر والمجعّد. في شقٍّ يكاد لا يُرى، تحت تلك العارية ما فوق الجذع، تلك التي لها نهدان كرمان جلعاد في تشرين، التي تنظر اليَّ بعينين مدورتين. كانت الورقة مدسوسة بحرص. الورقة التي سيستعير حكايتها المدورة شاعر سمعها مني ذات مساء في مقهى يتفوح برائحة شاي منعنع وينسبها، بلا وجل، لنفسه. قلت إن أبي لم ينل حظا من العلم. وكنت أقصد أنه لم يكن يقرأ أو يكتب. لكن ذلك لم يكن صحيحا، في الأقل، بعد أن وقعت تلك الورقة في يدي. الورقة ـ الرسالة موجهة إلي. لا بدَّ أن تكون كذلك. فسائر اخوتي انشغلوا في أمور ملموسة ونجحوا فيها، فيما ظللت أغالب ميلا الى الأحلام والسرحان لم يفرح بهما أبي، أول الأمر، ثم ما لبث أن استسلم، على ما يبدو، لفكرة توارث القسمات والطول والحلاقة من الخد الأيسر والأرق. بسبب كثافتها بدت لي الرسالة كقصيدة أو كنبوءة مشؤومة. لم أكن أنا فقط من تتراءى له المستحمة العارية فوق الجذع. من تتدلى أمام فمه وأنفه رمانتان كرمان جلعاد في تشرين. كان يحدث ذلك لأبي. كانت تنزل، في ليالي أرقه الطويلة، من الجدار وتخطر أمامه برائحة الخزامى مرة، برائحة ماء الزهر مرة أخرى، عارية، بالضبط، فوق الجذع، يستر نصفها الأسفل نسيج موصلي مُهفهف. لن أسترسل في ذكر محتوى الورقة ـ الرسالة. فقد تجدونها، إن شاقتكم الحكاية، في مدونة ذلك الشاعر المنتحل، لكن خلاصتها المرة، خلاصتها التي أظهرت ما مرَّ من حياتي وما سيأتي، يمكن إجمالها في هاتين الجملتين، أو البيتين اللذين لا يتبعان وزناً معلوماً: سيكون لك ما كان لي، ستمشي الخطى التي كُتِبَتْ عليَّ ولن تصل!
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى