أنطونيــو تابوكــي: الأمــوات لا يثرثــرون أبــداً
اسكندر حبش
»صلاة لراحة الموتى« هي الرواية الأولى التي كتبها الروائي الإيطالي انطونيو تابوكي باللغة البرتغالية مباشرة، وهي تستعيد بدورها جزءا من سيرة الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا، حيث يتخيل لقاء معه، في… قبره، بعد موته. لكن الرواية لا تتوقف هنا، بل هي أيضا قصيدة حب في البرتغال، إذ كما نعرف يفرد تابوكي في أدبه مساحة كبيرة لهذه الثقافة ولهذه اللغة، اللتين يعشقهما.
الرواية تصدر قريبا بترجمة عربية للزميل اسكندر حبش، هنا الفصل الثاني منها.
أن أسف، قال سائق سيارة الأجرة، لا أعرف شارع »بيدراش نيغراش«، هل يستطيع السيد أن يعطيني بعض الإشارات الإضافية؟ ابتسم لي ابتسامة عريضة مليئة بالأسنان البيضاء وأردف: اعذرني، أنا من »ساو تومي«، وأعمل في لشبونة منذ شهر، لا أعرف الشوارع، في وطني كنت مهندسا، لكن ما من مواد، هناك، للهندسة، فها أنا هنا في لشبونة سائق سيارة أجرة حتى من دون أن أعرف الشوارع، أعرف المدينة جيدا، هذا صحيح، لا أتوه أبدا، لكن ببساطة، لا أعرف أسماء الشوارع. أوه، أجبته، إنه شارع كنت أتردد عليه منذ ٢٥ سنة، ولم أعد أذكر البتة الطريق كي أذهب إليه، إنه موجود في ناحية ما بالقرب من القصر. حسنا، لنذهب إلى هناك، قال السائق مبتسما، وأقلع بسيارته.
حينذاك، لاحظت فقط أنني كنت أنضح عرقا. كان قميصي مبللا بالعرق، ويلتصق على ظهري وصدري. خلعت سترتي، إلا أن ذلك لم يمنعني من الاستمرار في التعرّق. اسمع، طلبت منه، ربما تستطيع أن تقدم لي خدمة، قميصي مبلل بالكامل، وعليّ شراء واحد آخر، هل تستطيع أن تدلني إلى مكان؟ أوقف السائق سيارته ونظر إليّ. هل في الأمر سوء؟ سألني بنبرة مرتابة. أبدا، أجبته، أعتقد أن الأمر على ما يرام، لا أعرف، ربما كانت الحرارة، الحرارة ومن ثم نوبة قلق، يحدث أن يجعلك العرق تتعرق، أحتاج إلى وضع قميص نظيف. أشعل الرجل سيجارة وفكر. اليوم هو الأحد، قال، جميع المحال مقفلة. حاولت خفض زجاج النافذة من جهتي، بيد أن المقبض كان مكسورا. زاد ذلك في كربي، شعرت بالعرق يطوف من جبهتي وتسقط بعض النقاط على ركبتي. كان السائق ينظر إليّ نظرة محزونة. اسمع، قال لي عندئذ، طرأت على خاطري فكرة مدهشة، سأعطيك قميصي، هل يرغب السيد في وضع قميصي؟ من غير الممكن ذلك، أجبته، لا تستطيع أن تقود وجذعك عار. أرتدي تحته ثوب سباحة، أستطيع أن أقود كذلك فعلا. لكن، أجبته، لا بدّ أن نجد مكانا في لشبونة نستطيع أن نشتري منه قميصا، لا أعرف، ربما مركزا تجاريا، سوقا. كاركافيلوس، صرخ السائق بوجه مشرق، أعتقد أن ثمة سوقا، نهار الأحد، في كاركافيلوس. هناك حيث أسكن، تذهب زوجتي للتسوق أيام الآحاد في كاركافيلوس، هذا إن لم تكن تفعل ذلك نهار الخميس. لا أعرفه، قلت، بيد أن الفكرة لا تبدو حسنة، إذ إن كاركافيلوس، هو شاطئ بحر، واليوم هو الأحد، وسيكون مليئا بالناس، سيكون الأمر رهيبا، وهنا، في المدينة، ألا تعرف مكانا ما؟ ضرب الرجل جبهته. الغجر، صرخ، لماذا لم أعد أفكر بهم. ابتسم مرة جديدة تلك الابتسامة البريئة وأضاف: اسمع يا صديقي، كن مطمئنا، ستحصل على قميصك، لقد جاءتني فكرة الغجر، إنهم أيام الآحاد يبيعون العديد من الأشياء عند بوابة مقبرة دوش برازيريبش، يبيعون كل شيء، أحذية، جوارب، قمصاناً، كنزات، لنذهب إلى عند الغجر، المشكلة الوحيدة هي أني لا أعرف كيف أذهب، بالأحرى أعرف بشكل مبهم أين تقع مقبرة دوش برازيريش، بيد أنني لا أعرف الطريق المؤدي إليها، وأنت يا صديقي، هل تظن أنك تستطيع مساعدتي؟ لنرَ قليلا، أجبته، أنا أيضا لا أعرف تحديد الاتجاه جيدا، لندرس الوضع، أين نحن الآن؟ على رصيف سودريه، قال السائق، على الجادة الممتددة طول النهر، تقريبا أمام محطة سكة الحديد. حسنا، قلت، أعتقد أنني أعرف الطريق، لكن لنبدأ بالتوجه إلى شارع دو »أليكريم«، عليّ أن أمر على مقهى »برازيلييرا« كي أشتري زجاجة خمر. استدار السائق حول الساحة وبدأ بالصعود نحو شارع »دو أليكريم«، أدار الراديو، وصوب نظرته عليّ، بطريقة غير مباشرة، هل أنت متأكد أن السيد لا يشعر بالتوعك؟ سألني. طمأنته وأسندت ظهري على المقعد. أعوم حاليا في حمام حقيقي من العرق. فككت أول أزرار قميصي، رفعت أكمامي. سأنتظر السيد هنا تاركا المحرك شاغلا، قال الرجل وهو يتوقف عند زاوية ساحة »كامويش«، لكن أسرع من فظلك لأنه إن مر شرطي سيجبرني على الرحيل. نزلت من السيارة، كانت ساحة »دو كيادو« فارغة، ثمة امرأة ترتدي ثيابا سوداء، تحمل حقيبة بلاستيكية صغيرة، جالسة عند كعب تمثال الشاعر أنطونيو ريبيرو كيادو، دخلت مقهى »برازيلييرا«، فنظر إلي النادل من خلف المشرب، بنظرة ساخرة، هل وقع السيد في نهر التاج؟ الأمر أسوأ من ذلك أجبته، في داخلي نهر، هل لديكم شمبانيا فرنسية؟ من نوع »لوران ـ بيرييه« و»فوف ـ كوكليكو« أجابني، والاثنان بالسعر نفسه، ومثلجة جيدا. بماذا تنصحني؟ سألته. اسمع، قال بمظهر العارف بمهنته، إن »فوف ـ كوكليكو« (أرملة شقائق النعمان)، هي شمبانيا ذات تراث كبير، حتى إنه يقال إنها الأفضل في العالم، لكن من جهتي، تعرف الأرامل، لا يعجبنني، لم يعجبنني يوماً، باختصار، لو كنت مكانك لاخترت لوران ـ بيرييه، وما عدا السوق انهما بالسعر ذاته، كما قلت لك. حسن، قلت، سأطلب لوران بيرييه. فتح الساقي البراد، لف الزجاجة، وضعها في كيس بلاستيكي تستطيع أن تقرأ عليه بأحرف حمراء: »برازيلييرا دوكيادو، أقدم مقهى في لشبونة«. دفعت ثمنها وخرجت، في عز الشمس، متعرقاً بشكل مرعب، وصعدت مجددا إلى سيارة الأجرة. عال جدا، قال السائق، عليك الآن أن تدلني على الطريق. أمر سهل، قلت، عليك أن تستدير حول ساحة »كامويش«، وهنا، أمام محل مجوهرات »سيلفا«، تأخذ الطريق الذي يهبط، فتجد نفسك في »كاسادا دو كومبرو«، من ثم، كالسادا دا أستريلا«، وعندما تصبح أمام كاتدرائية دو أستريلا، تسلك طريق »دومينيغوش سكويرا« حتى »كامبو دو أوريك«، هناك عليك أن تبحث على اليسار، عن شارع »ساراييفا دو كارفالو« الذي يقودنا بشكل مستقيم إلى مدافن »دوش برازيريش«. سيدي، عليك أن تدلني على الشوارع تباعا، قال لي السائق وهو ينطلق، آسف على إخضاعك للأمر. أرجوك، أجبته، لم أعد أحتمل، اسمع، من السهل تذكيرك بذلك: كالسادا دو كومبو، كالسادا دا أستريلا، الكاتدرائية، شارع دومينيغوش سكويرا، كامبو دو أوريك، ما إن تصل إلى هناك، سأدلك.
نجحت أخيرا في فتح النافذة، إلا أن الهواء الذي كان يتسرب منها، كان حارقا. أغلقت عيني وفكرت بشيء آخر، بطفولتي، تذكرت فصول الصيف تلك، حين كنت أذهب على دراجتي للبحث عن المياه العذبة في »كارولين« مع زجاجة وسلة من القش. جعلني كبح الفرامل، فجأة أفتح عيني. كان الرجل قد نزل من السيارة وبدأ ينظر حوله نظرة مذعورة. لقد أخطأت الطريق، انظر، إننا في كامبو دو أوريك، لقد سكت فعلا الشارع إلى اليسار، كما قلت لي، يا سيدي، لكنه لم يكن شارع سارايفا دو كارفاليو، فسلكت شارعا آخر، بيد أنه في الاتجاه المعاكس، انظر، كل السيارات متوقفة بالاتجاه المخالف، لقد سلكت طريقا ممنوعا. لا بأس، أردفت، المهم أنك استدرت فعلا إلى اليسار، لنتابع السير في هذا الشارع ذي الاتجاه المعاكس وسنصل إلى ساحة »دوش برازيريش«. وضع السائق يده على قلبه، وقال لي بنبرة واثقة: لا أستطيع ذلك، يا سيدي، اعذرني، لا أستطيع القيام بذلك، إذ إن إجازتي في السواقة ليست وفق الأصول، لو وصل أي شرطي فسيفرض علي غرامة مالية كبيرة، ماذا أفعل حينذاك؟ عليّ أن أعود إلى سان تومي، ليس لدي خيار آخر، اعذرني يا سيدي، لكنني لا أستطيع فعل ذلك. اسمع، قلت له، لشبونة اليوم قاحلة بالكامل، على كل حال، لا تهتم بالأمر. لو ظهر أي شرطي فسأكلمه، سأدفع أنا الغرامة، سأتحمل بنفسي المسؤوليات كلها، أضمن لك ذلك، أرجوك، ألا ترى أنني أسبح في العرق؟ يلزمني قميص، ربما اثنان، هيا لا تتركني أصاب بالإعياء في هذه الزاوية التائهة من »كامبو دو أوريك«، أليس كذلك؟
لم أرغب في أن يبدو على صوتي أي نبرة تهديد، كنت أتكلم بجدية مطلقة فقط، إلا أنه اعتقد، طبعا، أن هناك تهديدا من جانبي إذ استعجل الصعود إلى السيارة وانطلق بدون احتجاج. كما يرغب السيد، قال بصوت منقاد، لا أريد أن يصاب الأستاذ في سيارتي، إن أوراقي غير قانونية، هل تفهمني؟ ستكون الكارثة بالنسبة إليّ.
اجتزنا في الاتجاه المعاكس، طول الشارع الذي كان ـ ربما ـ شارع ساريغ دو كارفاليو. لا أعرف بالضبط، لكننا وصلنا في النهاية إلى ساحة دوش برازيريش. كان الغجر واقفين بالضبط عند مدخل المدفن، وقد ركزوا سوقا صغيرا مع منصات خشبية وشراشف مفرودة، على الأرض. نزلت من السيارة، وطلبت من السائق أن ينتظرني. كانت الساحة مقفرة، والغجر نياماً، ممددين على الأرض. اقتربت مني غجرية عجوز ترتدي ثيابا سوداء، وخمارا أصفر على رأسها. بين بضاعتها المعروضة، كانت هناك كمية كبيرة من قمصان »لاكوست«، لا تشوبها شائبة، سوى أنها ينقصها التمساح. اسمعي، قلت لها، أريد أن أشتري شيئا. ما بك يا صغيري؟ سألتني الغجرية العجوز وهي تنظر إلى قميصي، هل حرارتك مرتفعة أم ماذا؟ لا أعرف ما بي أيتها الغجرية، أجبت، لقد تعرقت كثيرا، أنا بحاجة إلى قميص نظيف، أو حتى لاثنين. سأقول لك في ما بعد ما بك، أجابت العجوز، سأقول لك في ما بعد. الآن، اشترِ قمصانك يا صغيري، لا تستطيع أن تبقى على هذه الحالة، فلو جف عرقك على ظهرك، لوقعت مريضا. بماذا تنصحينني، سألتها، بقميص أم بفلانيلة؟ بدت العجوز الغجرية للحظة وكأنها تفكر. بالأحرى، أنصحك بقميص لاكوست، قالت، إنها أكثر طراوة، إن أردت قميصا مزورة، فثمنها ٥٠٠ اسكودوس، أما الحقيقية، فخمسمئة وعشرون. تباً! تعجبت، قميص لاكوست بـ ٥٠٠ اسكودوس، لا بأس بذلك، لكن ما الفرق بين المزور والحقيقي؟ لتحصل على قميص لاكوست حقيقي، الأمر بسيط جدا، أجابت الغجرية العجوز، عليك أن تبدأ بشراء واحد مزور، ثمنه ٥٠٠ اسكودوس، ومن ثم تشتري التمساح، وثمنه عشرون اسكودوس، إنه يلتصق بنفسه، تضع التمساح في مكانه، فتجد نفسك مع قميص لاكوست حقيقي.
أظهرت لي جرابا صغيرا مليئا بالتماسيح الصغيرة. من ثم، وبعشرين اسكودوس، أعطيك أربعة تماسيح يا صغيري، هكذا، سيكون عندك ثلاثة على سبيل الاحتياط، لأن هذه اللاصقات لا تساوي شيئا، إنها تقع دائما. يبدو لي عرضك منطقيا جدا، أجبت، سأشتري منك قميصين حقيقيين، أي لون تنصحينني به؟ أنا أحب كثيرا الأسود والأحمر، إنها ألوان الغجر، قالت لي، لكن مع هذه الشمس، فإن اللون الأسود ليس مثاليا، إذ إن صحتك سريعة العطب، أما الأحمر، فهو لون صاخب جدا، لم تعد بعمر يسمح لك بارتداء لون كهذا. لكنني لست عجوزا إلى هذا الحد، احتججت بالقول، أستطيع ارتداء لون فرح. إذاً أنصحك بالأزرق، قالت لي الغجرية العجوز، يبدو لي الأزرق وكأنه صنع خصيصاً لك؟ والآن يا صغيري سأقول لك ما بك ولماذا تتعرق إلى درجة تثير الشفقة، اسمع، سأقول لك كل شيء، إن دفعت مئتي اسكودوس، سأقول لك ما تفعل هنا، ومن تنتظر في هذا الأحد الحار المميت، أتريد معرفة مصيرك؟ أمسكت العجوز الغجرية يدي اليسرى، وبدأت بتفحصها بانتباه. يبدو لي الأمر معقداً جدا يا صغيري، قالت العجوز، لتجلس إذاً على هذا المقعد. جلست لكنها لم تترك يدي مع ذلك. اسمع، قالت لي، مستحيل، لا تستطيع أن تعيش في الجانبين في الوقت عينه، من جهة الحلم ومن جهة الواقع، سيسبب لك ذلك الهلوسة، إنك مثل المسرنم الذي يجتاز مكانا وذراعاه ممدودتان، وكل ما تلمسه يصبح جزءا من حلمك، وحتى أنا، أنا العجوز والسمينة، إذ أزن ٨٠ كلغ، أشعر أنني أذوب في الهواء ما إن ألمس يدك، كما لو أنني أصبح بدوري جزءا من حلمك. ما عليّ أن أفعل؟ سألتها، قولي لي أيتها الغجرية العجوز. حاليا، لا تستطيع أن تفعل شيئا، ان اليوم ينتظرك ولا تستطيع أن تنقذ نفسك ولا أن تهرب من مصيرك؛ سيكون يومك يوم محنِ ولكنه أيضا يوم تطهّر، وربما ستكون، بعد ذلك كله، بسلام مع نفسك، يا صغيري، في كل الأحوال هذا ما أتمناه لك. أشعلت الغجرية العجوز سيجارا وابتلعت الدخان. أعطني الآن يدك اليمنى، قالت لي، كي أستطيع تكملة تفحصي. نظرت إليها بإمعان وداعبت راحتي بأصابعها القاسية. أرى أن عليك زيارة أحدهم، لكن المنزل الذي تبحث عنه غير موجود إلا في ذاكرتك أو في حلمك، تستطع أن تقول للسائق الذي ينتظرك، أن يتركك هنا، الشخص الذي تريد أن تراه موجود هنا بالذات، خلف هذه البوابة. أشارت إلى القبر وأضافت: اذهب، يا صغيري، اذهب إلى موعدك الذي ينتظرك. شكرتها وذهبت بحثاً عن سائق سيارة الأجرة.
سأبقى هنا، قلت له بعدما أخرجت محفظتي كي أدفع له، شكرا جزيلا، لقد كنت محباً حقا. هذه القمصان رائعة، قال وهو ينظر إلى اللاكوست، التي كانت ما تزال مطوية والتي أحملها تحت ذراعي، يا صديقي، إنها عملية شرائية جيدة. دفعت للسائق حسابه، أخذت سترتي وزجاجة الشمبانيا. شد السائق على يدي بحيوية وأعطاني بطاقته. إنه رقم هاتفي، قال لي، إذا احتاج الأستاذ إلى خدمة سيارة أجرة، فليس عليك سوى الاتصال بي، ستأخذ زوجتي القومسيون، حتى أن الأستاذ يستطيع أن يحجز قبل ليلة. أقلعت السيارة لتتوقف بعد عدة أمتار ولتعود على عقبيها. هل يشعر سيدي بالتحسن الآن؟ سألني عبر النافذة. نعم، أنا أفضل حالا، شكرا. ابتسم السائق واختفت السيارة عند زاوية الشارع.
اجتزت عتبة الباب ودخلت. لم يكن هناك أحد في المقبرة، سوى قطة كانت تتنزه بين المدافن، إلى يمين المدخل، بالقرب من الباب، ثمة بيت صغير بابه مفتوح. عفواً، سألت، هل تأذنون لي بالدخول؟ أغلقت عيني كي أعتاد الظلمة، إذ كانت الغرفة غارقة في الظلام. نجحت في تمييز التوابيت الموضوعة بعضها فوق بعض، أصص بورود جافة، طاولة يستند إليها شاهد قبر. ادخل، قال صوت، وشاهدت انه في عمق الغرفة، وبالقرب من خزانة كبيرة، هناك رجل صغير، يضع نظارتين ويرتدي قميصا رماديا، وعلى رأسه قلنسوة ذات مقدمة بلاستيكية، تشبه قلنسوة مراقبي خطوط السكة الحديد. عمّ تبحث؟ سألني، المدفن مغلق، سيفتح عما قليل، إنها ساعة الغداء الآن، أنا الحارس. حينذاك فقط لاحظت أنه كان يتناول طعامه. كان يأكل من قدر صغيرة من الألمنيوم، وقد أبقى الملعقة في الهواء. اعذرني، لا أرغب في إزعاجك، استمر. هل تناولت طعامك؟ سألني الحارس بينما كان يستمر في الأكل. شكرا، أجبته، أتمنى لك شهية طيبة، لكن إن لم يزعجك الأمر، فسأنتظر هنا حتى تنتهي من طعامك وإن لا فسأنتظر في الخارج.
»فييجودا«، حدد حارس المقبرة كما لو أنه لم يسمع، »فييجودا« كل يوم، لا تجيد زوجتي طهي أي شيء آخر. ثم أردف متابعا: لا مجال للبحث، تبقى هنا في الظل، لن تنتظر في الخارج، الحرارة لا تطاق، اجلس. آه حسنا، قلت، بما أنك لطيف للغاية، أرغب في أن أطلب منك شيئا، هل تسمح لي بإبدال قميصي، أنا مبلل بالعرق وقد اشتريت قميصين من الغجر. وضعت زجاجة الشمبانيا على أحد التوابيت، نزعت قميصي وارتديت اللاكوست الأصلي. شعرت بالتحسن لقد توقفت عن التعرق، وكانت الغرفة ندية حقا. بدأت العمل هنا حين كنت شابا صغيرا، قال لي حارس المقبرة، ها قد مضت خمسون سنة على ذلك، أمضيت حياتي كلها في حراسة الأموات. فهمت، أجبته. عاد الصمت بيننا. كان الرجل يأكل بطمأنينة صحن الفاصولياء، ومن وقت إلى آخر كان ينزع نظارته ليعود ويضعها مجددا. لا أرى شيئا بلا نظارات، وحين أضعها، لا أشاهد أي شيء أيضا، قال، لا أرى سوى الضباب إنها »الكِمادة« (الكاتابلاسم). إنها الساد (= تكثف في عدسة العين تمنع الإبصار) أجبت. اسمه الساد. ساد أو كمادة، الأمر سيّان قال الحارس، إنها قذارة. رفع قلنسوته وحك رأسه. أي فكرة عبثية طرأت على بالك، في المجيء إلى المقبرة في مثل هذه الساعة، في مثل هذه الحرارة، فكرة لن تخطر على بال شخص. هذا لأن أحد أصدقائي موجود هنا. أجبته، لقد قالت لي الغجرية ذلك، تلك التي تبيع القمصان في الساحة، قالت لي إن عليّ البحث هنا، إنه صديق قديم، لقد أمضينا وقتا كبيرا معا، كأننا أخوان، أحب أن أزوره وأن أطرح عليه سؤالا. وهل تعتقد أنه سيجيبك، قال لي حارس المقبرة، الأموات، كما تعرف، لا يثرثرون أبدا، صدقني، أعرفهم جيدا. سأحاول ذلك دائما، قلت، أحب أن أفهم شيئا لم أفهمه يوما، لقد مات من دون أن يشرح لي شيئا. هل هي قصة نساء؟ استفهم الحارس. لم أجب، فتابع، هناك دائما امرأة في مثل هذه الحالات. لا أعرف عن الأمر كثيرا، قلت، ربما كان الأمر يعود أيضا إلى الخبث، لا أعرف كيف أشرح ذلك، أريد أن أفهم هذا الخبث، هذا إذا كان الخبث موجودا، لا أفقه شيئا. ما كان اسمه؟ سأل حارس المقبرة. كان يدعى تادوش، أجبت، تادوش فاكلاف. أي اسم هو هذا! تعجب حارس المقبرة. كان والداه بولنديين، قلت، لكن ليس هو، لقد كان برتغالياً حقاً، حتى إنه اختار لقباً برتغالياً. وماذا كان يعمل في الحياة؟ حسن، قلت، كان يعمل، إلا أنه كان كاتبا بخاصة، كتب صفحات جميلة في البرتغالية، قد لا تكون كلمة جميلة هي الكلمة الصائبة، لأنها كانت صفحات مريرة، كان رجلا مليئا بالعواطف وبالمرارة. أبعد حارس المقبرة القدر ونهض متوجهاً نحو الخزانة العملاقة واستل منها دفترا كبيرا مثل دفاتر الأساتذة في المدارس الثانوية. ما كان اسم عائلته؟ سألني. سلوواكي، قلت، تادوش فاكلاف سلوواكي. هل دفن تحت اسمه الحقيقي أم تحت لقبه؟ لاحظ حارس المقبرة بالقول، بحق، لا أعرف، أجبته مضطرباً، بيد أنني أعتقد أنه دفن باسمه الحقيقي إذ يبدو لي الأمر منطقيا. سيلفا، سيلفا، سيلفا، سيلفا…. سلوواكي، قال حارس المقبرة أخيرا، ها هو، سلوواكي تادوش فاكلاف، الممر الأول إلى اليمين، الرقم .٤٦٦٤ رفع حارس المقبرة نظارته وابتسم. نستطيع أن نقرأ هذا الرقم بشكل عكسي، هل كان صديقك يحب الدعابات؟ كثيرا، أجبت، أمضى حياته وهو يطلق النكات، حتى انه كان ينكت على نفسه، سأسجل هذا الرقم، قال حارس المقبرة، أحب الأرقام المماثلة، سألعب عليه في سحب اليانصيب، الأشياء الغريبة قد تدر عليك الجائزة الكبرى.
شكرت الرجل واستأذنته. استعدت زجاجة الشمبانيا وخرجت إلى الحرارة الشديدة. بحثت عن أول ممر إلى اليمين وبدأت باجتيازه بخطوات مرتبكة. عدت لأصاب بقلق كبير، وبدأ قلبي يخفق بشدة. كان قبرا متواضعا، فقط رخامة قبر بمستوى الأرض. كان يرقد هنا باسمه البولندي، وفوق اسمه هناك صورة فوتوغرافية، تعرفت عليها بسرعة. كانت تظهره بأكمله، إذ كان يرتدي قميصا ذا أكمام مشمرة. يستند إلى باخرة، وخلفه يبدو البحر. أنا الذي التقطت له هذه الصورة في العام ،١٩٦٥ كنا على شاطئ كاباريكا، في شهر أيلول، كنا سعيدين، إذ كان قد خرج من السجن قبلها بأسبوع، من جراء ضغط الرأي العام في الخارج، إذ كانت صحيفة فرنسية قد أعلنت: »على نظام سالازار أن يطلق سراح المثقفين«، وكان هنا، مستنداً إلى باخرة، والصحيفة الفرنسية بيده، اقتربت لأرى إن كنت أستطيع قراءة عنوان الصحيفة، بيد أن القراءة لم تكن واضحة، الصورة زائغة، كم أن الزمن يمضي، قلت لنفسي، لقد التهم الزمن كل شيء، ومن ثم قلت بصوت عال: »مرحبا يا تادوش، ها أنا هنا، عدت لأراك. وأعدت جملتي بصوت أعلى: مرحبا يا تادوش، ها أنا هنا، عدت لأراك.