صفحات سورية

روسيا – والواقعية الديمقراطية الجديدة

null
فرانسيس فوكوياما
هنالك فكرة لن تسمعها أبدا من باراك اوباما او جون مكين خلال سباقهما الرئاسي الحالي. الفكرة هي ان احدى مهام السياسة الخارجية الامريكية الرئيسية للادارة القادمة ستكون التعامل الحصيف مع توازن قوي دولي يميل في غير صالح الولايات المتحدة ومع نفوذ امريكي متضائل الى حد كبير. هذا ليس موضوعا افتراضيا او نظريا، ولكنه شيء محسوس وواقعي يحدق في وجوهنا هذه الايام.
لقد بدأ الفشل في ادراك هذا التحول في موازين القوى شديدا في وضوحه خلال الاحداث التي سبقت وأدت الى التدخل الروسي في جورجيا. فمنذ ايام يلتسين كان لدى الولايات المتحدة سلسلة من الاختلافات في السياسات والمواقف مع الروس شملت توسيع حلف الناتو والبلقان والدفاع الصاروخي والموقف تجاه ايران وحقوق الانسان في روسيا نفسها. وكان المسار الدبلوماسي (الامريكي) يمضى في اتجاه اقناع روسيا بقبول كل النقاط المدرجة في قائمة اهتماماتنا وابلاغ الروس ان مخاوفهم لا اساس لها. ولم تنظر الولايات المتحدة ابدا الى تلك العلاقة (بينها وبين روسيا) كوضع تساومي تقوم فيه بالتخلي عن اشياء تريدها مقابل اشياء يريدها الروس. وكان حالنا كحال ذلك الرجل الانجليزي (الذي خلّده المثل) حين يتحدث الى اجنبي. فقد ظننا اننا سنجعلهم يفهموننا بتكرار ما نقوله لهم بصوت اعلى. لقد عكس ذلك الموقف الذي اتخذته ادارة بوش توازن القوى الذي كان موجودا في التسعينات عندما كانت روسيا ضعيفة وتملك القليل من اوراق اللعب. ولكن ذلك الوضع تغير. ان المقارنة بين تدخل روسيا في الشيشان في عام 1994 وفي جورجيا في عام 2008 يكشف عن تحول درامي. فعدم رضى الولايات المتحدة وقتها عن التصرف الروسي بسحق الحركة الانفصالية الشيشانية كان يتوازي مع انعدام الكفاءة المهنية في ادارة العملية الروسية العسكرية مما بدا وكأنها ستكون سابقة لن تتكرر كثيرا. اما اليوم فإن كل الافكار تدور حول المكان التالي (بعد جورجيا) الذي ستستخدم فيه القوة الروسية. واذا كان في قدرتنا اعادة مؤشرات الساعة الى الوراء قبل فبراير الماضي عندما اعلنت كوسوفو الاستقلال بدعم من الولايات المتحدة سنرى انه كانت تتوفر وقتها عناصر للمساومة. فقضيتا الدفاع الصاروخي البلاستي ودعم استقلال كوسوفو كانتا جزءا مما يمكن للولايات المتحدة التخلي عنه كمقابل (في مساومتها مع روسيا). القضية الاولى كانت تشكل مصدر ازعاج لا معنى له للروس الذين لم يصدقوا ابدا الرواية الامريكية القائلة بأن الدرع الصاروخية هي استجابة أو رد على تهديد من ايران. كما ان استقلال كوسوفو لا يحسّن من الوضع الامني للكوسوفيين ولكنه يشكل سابقة غير سعيدة لاضفاء الشرعية على نزعة الانفصال. وذلك ما يفسر لماذا عضو في حلف الناتو مثل اسبانيا لم تؤيد انفصال كوسوفو. غير أن قضية عضوية جورجيا واوكرانيا في الناتو كان يصعب التخلي عنها في سياق مثل هذه المساومة. فهذان البلدان الديمقراطيان يستحقان دعما امريكيا قويا. ولكن المستشارة الالمانية انجيلا ميركل محقة في الاعتقاد بان ما يشكل جوهر حلف الناتو هو ذلك الضمان الوارد في البند الخامس من ميثاقه والذي ينص على ان شن هجوم على احد اعضائه يجب ان يعتبر هجوما على جميع الاعضاء. وهذا يعني ان على الولايات المتحدة الاستعداد لوضع قوات على اساس دائم للدفاع عن اي عضو في الحلف يتعرض للتهديد كما فعلت ذلك على الحدود الفاصلة بين الالمانيتين خلال الحرب الباردة. ان عضوية الناتو ليست طلسما يوفر الحماية بطريقة سحرية. انها( اي الحماية) تتطلب تخطيطا عملياتيا والتزامات دفاعية مكلفة.ان ادارة بوش لم تكن ولا كان بمقدورها ان تكون جادة بشأن منح عضوية الناتو لجورجيا او اوكرانيا بالمعنى الذي تعنيه (هذه العضوية). وذلك ليس فقط بتقديم الاسلحة والمستشارين ولكن ايضا بتوفر ضمانات امنية حقيقية تتمثل في وجود قوات امريكية. وبهذا المعنى فإن قيامنا بدفع الجورجيين الى الاعتقاد بأننا سندخلهم الى نادي العضوية عما قريب كان خطأ جسيما. ان تفاهما كان في الامكان التوصل اليه قبل عام (بين الولايات المتحدة وروسيا) قد لا يمكن التوصل اليه الان. لقد حولت ادارة بوش كلا من استقلال كوسوفو ودرع الدفاع الصاروخي في بولندا الى امر واقع ومنجز مما ادى الى جعلهما غير قابلين للاستخدام كأداتي مساومة. كما ان الاندفاع لترضية موسكو في الوقت الذي لا تزال فيه القوات الروسية تحتل اجزاء من جورجيا الاصلية كان شيئا لا يمكن التفكير فيه. واذ اقول ما اقول فإنني لا أود ان ينظر الى كملتمس أعذارا لسلوك موسكو. لا يوجد مبرر لروسيا في التمسك بأراض جورجية او محاولة قلب نظام منتخب ديمقراطيا. ان حديث بوتين حول (إبادة) جورجية ومؤامرات امريكية يذكر على نحو مقلق بما كان قد اصطلح على وصفه بـ(الكذبة الكبرى) ايام الاتحاد السوفييتي السابق. وكوننا نتفهم احاسيس الاستياء التي تستشعرها روسيا لا يعني ان تلك الاحاسيس صحيحة اخلاقيا. وكما اشار كيشور محبوباني وهو اكاديمي من الجامعة القومية بسنغافورة على هذه الصحيفة من قبل فان احد الاسباب الرئيسية التي ادت الى تضاؤل القوة الامريكية في هذا العقد يكمن في تدهور صدقيتها الاخلاقية. فبعد التدخل الروسي اكد المسؤولون الامريكيون ان «قوى القرن الواحد والعشرين لا تنتهك سيادة البلدان الاخرى لقلب الانظمة.» ان تقييد الدلالة المكانية لهذا الانتهاك باضافة عبارة «في اوروبا» لهذا الاقتباس لا يمنع من الشعور بالسخرية تجاه ما قاله هؤلاء المسؤولون. لقد تلطخ مفهوم الترويج للديمقراطية وهو مفهوم جيد بارتباطه بحرب العراق والمصالح الامنية للولايات المتحدة. ان الادارتين الامريكيتين السابقتين يمكنهما افتراض تحقق الهيمنة الامريكية في كل من الاقتصاد والامن. ولكن الادارة القادمة لا يمكنها ذلك. وسينتظرها انجاز مهمة حرجة تتمثل في الموازنة على نحو افضل بين ما نريده وما يمكننا تحقيقه في الواقع. وهذا لا يعني التخلي عن الاهداف المثالية مثل الترويج للديمقراطية. ولكن الرئيس القادم عليه ازالة السموم التي تشرّب بها مفهوم الترويج للديمقراطية نفسه عليه ازالتها على النحو الذي ذكره توم كاروثرز من مؤسسة كارنيجي. علينا ان نفكر في وسائل لدعم جورجيا واوكرانيا بخلاف اعلان التزامات تحالفية جديدة. ويلزمنا التخطيط بطريقة ملموسة لكيفية الدفاع عن اعضاء الناتو الحاليين خصوصا بولندا ودول البلطيق من دولة روسية غاضبة وناهضة.
(الكاتب فوكوياما استاذ الاقتصاد السياسي الدولي بمدرسة جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة ومؤخرا مؤلف كتاب » ما بعد المحافظين الجدد«)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى