تركيا بين دورها الإقليميّ المُتعاظم ومشكلتها الكرديّة المُستعصية
بدرخان علي
تتحرّك تركيا في الإقليم الشرق الأوسطيّ كما لو أنها قائد فعليّ لدوله ولنظامه المتداعي، أو كمبادرة لحلّ أزماته المتفاقمة على شتّى الصُعد لا سيما ما خصّ مشكلاتٍ كبيرة ومزمنة كالتوسّط والإشراف على المفاوضات السوريّة – الإسرائيليّة والملفّ النوويّ الإيرانيّ، فضلاً عن تدخّلها المتواصل، بلا انقطاع، في العراق الذي تعتبره تركيا بمثابة مجالها الحيويّ المباشر ومن ضمن جغرافيتها السياسيّة إنْ لم تكن الطبيعيّة.
ما تتمتع به تركيا في هذه الفترة من مقدرة فائقة على لعب دورٍ إقليميّ، لم يأتِ في غفلةٍ من الزمن ولا من جيرانها. فبمقدار ما كانت تركيا تتقدّم نحو استقرار حياتها السياسية الداخلية، كانت دول الجوار تنحدر إلى مزيدٍ من الاستنقاع والفساد والتآكل والـحروب الأهـــليّة. كما أنّ هاجس الفاعليّة التركيّة الإقليمية لم ينفكّ أن يكون تكـــوينيّاً في السياسة التركيّة والمؤسّسة، وقـــــام في جانـــب كبير منه على نزعة قومية وطنية ونزوعٍ إمبراطوريّ وجد في الماضي غير البعيد ذريعة وحافزاً، على نحوٍ يداني اللاواقعية السياسية أحياناً.
ويبدو أن صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة منذ العام 2002، بما يمثّل من قوّة اجتماعيّة وسياسيّة ناهضة في المجتمع التركيّ نتيجة تصلب النخب العلمانية والقومية المتشدّدة التي تناوبت على حكم البلاد طويلاً وعدم قدرتها على مجاراة التحوّلات المجتمعيّة في الواقع التركيّ وتصدّع الكماليّة كهويّة مطلقة وناجزة للدولة والمجتمع، له الدور الأكبر في استثمار إمكانات تركيا الكبيرة وموقعها الجغرافيّ المهم والمستجدّات الإقليمية والدولية نحو تنمية اقتصادية في الداخل وسياسات إقليمية في الخارج تنتقل تركيا عبرها من «دولة طرف إلى دولة مركز» في النظام الإقليميّ الشرق أوسطي، ومن «قوة إقليمية إلى قوة عالمية» على المستوى العالمي.
ومن التجليّات المباشرة لهذا التحول تحسّن المؤشّرات الاقتصادية إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. فبعد أن كانت الأوضاع الاقتصادية في تركيا لا توصف إلاّ بـ «الأزمة والانهيار والزلزال» لعقود طويلة، غدا الاقتصاد التركيّ اليوم في تمام عافيته وصعوده، وهو يعتبر واحداً من الاقتصاديات العشرة الصاعدة في العالم إلى جانب الصين والبرازيل وروسيا والهند والمكسيك والأرجنتين وإندونيسيا وتايلاند وباكستان.
وقد أصبح الاقتصاد السابع عشر في العالم وسادس أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي.
وبينما كانت الأوضاع السياسية تقترب من حافّة الفوضى والاضطراب مجدداً، جرّاء رغبة النخبة القومية والعسكرية في إزاحة حزب العدالة والتنمية الحاكم، استقرّت الأوضاع حول حال التفاهم الضمنيّ بين النخبة السياسية من جهة والمؤسسة العسكرية أو «الدولة العميقة» من جهة أخرى (وعمادها العسكر والقضاء إلى جانب المؤسسات السياسية والثقافية حارسة القيم الكمالية المتشدّدة).
اضطرت النخبة العلمانية السياسية والعسكرية المتصلّبة، أخيراً، إلى تبني براغماتية نسبية في التعامل مع الوضع الناشئ، لجهة الإقرار بالقوة المجتمعية والسياسية والاقتصادية المنبعثة. وفي الأثناء انتهج حكام تركيا الجدد، الحزب «الإسلامي» الديموقراطي المعتدل الحاكم منذ العام 2002، سياسة تجنب الصدام مع القوى القومية التقليدية.
والواقع أنّ العنصر الدينيّ – الإيديولوجيّ شبهُ ضامرٍ في سياسة الحزب «الإسلامي» وسلوكه وتوجهاته، ما يمنحه مرونة فائقة في المجالين الداخليّ والخارجيّ كلاعبٍ سياسيّ يتصرّف بوحي من المصالح الاقتصادية والسياسية لتركيا. والإسلام في حالة الحزب هذا، ونخبته وناخبيه، لا يعدو كونه انتماء رمزياً ومعنوياً وفضاء ثقافياً، يتّصل جزئيّاً بنمط التديّن التركيّ – العثمانيّ – التصوفيّ – التقليدي، لكن الموصول بالنظام العلمانيّ نفسه، من غير أن يَحمل كلّ قيمه. وفي مطلق الأحوال ليس لنمط التديّن هذا، وفي الشروط التركيّة المشار إليها، أي علاقة بالإسلام السياسيّ المتفشي في المنطقة. وقد تكوّنت نخبةُ الحزب في شبكة العلاقات البورجوازية المدينية المحافظة واقتصاد السوق الحرّ، الأمر الذي ينسجم مع توجه عامّ في السياسة العالميّة لدعم «إسلاميين معتدلين» في المنطقة.
ما تقدم يمنح حكام تركيا مرونة في التعامل مع محيطهم العربيّ والإسلاميّ، ويمكّنهم تالياً من احتلال مساحة جيوسياسية واسعة لملء الفراغ الحاصل في المنظومة الإقليمية بعد احتلال العراق، وامتداد الطموح الإيرانيّ الإقليميّ والقوميّ إلى حدّ المواجهة مع دول المنطقة وكبرى دول العالم، ما يستدعي قوّة وازِنة في المنطقة لصدّ الجموح الإيرانيّ، وليس هناك أفضل من تركيا للقيام بهذا الدور انطلاقاً من مصالحها الجيوسياسية المتقاطعة في الآن ذاته مع مصالح عربية ودولية في العراق والخليج ولبنان.
وعلى رغم أنّ الوضع الداخليّ في تركيا تعتملُ فيه عوامل اضطراب كثيرة، وعلى رأسها المشكلة الكردية الضاربة جذورها في تأسيس الجمهورية التركية المعاصرة على أنقاض الخلافة العثمانيّة والعصيّة على الحلّ، إلا أنّ السياسات الخارجية للدول ليست انعكاساً ميكانيكياً وعفوياً لأوضاعها الداخليّة على وجه التمام والكمال.
ومن الجليّ أنّ استقراراً سياسياً داخلياً يَكْمُن خلف توسع الدور الخارجي لتركيا، من غير أن تُحسم المعركة الداخلية نهائياً بين القوى السياسية الفاعلة، لتكون قاعدة لهذا الامتداد الإقليميّ لتركيا في الشرق الأوسط من جهة وتلك التحرّكات في روسيا والبلقان والقوقاز وإفريقيا وبداية تطبيع العلاقات مع أرمينيا وسواها من التحرّكات من جهة ثانية.
ومهما يُقال عن كون تركيا حليفة للولايات المتحدة الأميركية، إلا أن من الصعوبة الإقرار بخضوعها للسياسة الأميركية في كلّ سياساتها, ذلك أن تركيا تنظر الى نفسها كقوة إقليميّة بحدّ ذاتها، بصرف النّظر عن اميركا ودعمها. وقد نسجّل في هذا السياق رفض تركيا انطلاق الجيش الأميركي من أراضيها لغزو العراق عام 2003، ضمن حسابات تركيا الخاصّة جداً حيال الأمن والنظام الإقليميين، وما اتصّل بتطوراتٍ مُحتملة في شَأن المسألة الكرديّة على وجه الخصوص.
ومن بين كلّ المشكلات التركية الداخليّة، تبقى المسألة الكردية بحاجة الى مقاربة جريئة وقرارات «مؤلمة» من جانب تركيا. ويبدو الامتناع عن تســوية سياسية حقيقية، عادلة ومنصفة للمشكلة الكردية بحجّة التمرّد الكرديّ الذي يقوده حزب العمال الكردستاني عسكرياً منذ العام 1984، العائق الأساس أمام التسوية المنشودة.
توحي تركيا بين الحين والآخر، بأن حلاً ما، على طريقتها، ممكنٌ شرط القضاء على الحزب الكردستانيّ وتفكيكه للمرّة الأخيرة. وبذلك تودّ القضاء على المعارضة الكردية المسلّحة من دون أن تكون قد باشرت حلاً قابلاً للتطبيق ومن دون أن يكون واضحاً موقع الأكراد في تركيا ما بعد حزب العمال.
وفوق ذلك أن حلاً كهذا عسيرٌ جداً بالطريقة المتخيّلة تلك، كما لا تبدو في الأفق مقاربة جديدة للمسألة الكردية بكامل أبعادها سوى ما اضطرت تركيا للاعتراف به تحت طائلة انفجار الوضع الداخليّ التركيّ.
وما دامَت صلابة الكماليّة الأصليّة سائرة إلى تصدّع بمفاعيل التقادم والتصادم مع حركة المجتمع ومعطيات التغيير في الكثير من المواضع والقضايا، فكم هو حريٌّ بتركيا المعاصرة أن تَلْفظَ الصورة النمطيّة السلبيّة والمشوّهة للأكراد في الثقافة السياسيّة التركيّة السّائدة ردحاً من الزمن. وقد خطت الدولة خطوات جيّدة في هذا الخصوص، غير أنها تبقى منقوصة قياساً بحجم المشكلة وعمقها. ومن المأمول أن تفضي سياسات تركيا الخارجية المنخرطة في أوسع شبكة سياسية إقليمية ودولية إلى تحرير سياستها الداخلية من تراث القرن الفائت الثقيل.
خاص – صفحات سورية –