هزيمتنا محققة في أفغانستان
ديفيد إدواردز
في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول من عام ،2001 ولم يكن قد انقضى سوى أقل من شهر على غزو الولايات المتحدة وبريطانيا لأفغانستان وإمطارها بالقنابل طفح الكيل بالمؤرخ العسكري البريطاني العتيد البروفيسور السير مايكل هوارد فصب جام غضبه واحتقاره على الاستراتيجية التي وضعها الغزاة نصب أعينهم في هجومهم على هذا البلد ووصفها بأنها “تحاول اجتثاث خلايا سرطانية ببندقية لهب” وحذر هوارد من أنه كلما طال أمد القصف بالقنابل كلما كانت العواقب أوخم وكلما تعاظمت مأساوية هذه المواجهة وازدادت ضراوتها. وتطرق المؤرخ المخضرم هوارد إلى “الحرب على الإرهاب” فقال: “منذ مستهلها كانت حرباً كارثية مشؤومة وتوسعة هذه الحرب ستكون أكثر شؤماً وستجلب المزيد من مصائب أكبر. وكان مدّ هذه الحرب لتكتوي بنارها دول مارقة أخرى، بدءاً بالعراق لاستئصال شأفة الإرهاب أمراً فظيعاً ينطوي على طامات كبرى ويستولد محناً ليس لها أول ولا آخر، وقد عصرت لوهلة تفكيري وكددت ذهني عساي أعثر على سياسة كفيلة، ليس فقط بإطالة أمد الحرب بل وبخسرانها خسراناً مبيناً فلم أجد ما هو أنجح في تقريبنا من هذه الغاية، إذا كان الاندحار المخزي مرامنا، من هذه السياسة التي انتهجنا وهذه الطريق التي سلكنا”.
وفي ذاك الشهر ذاته شجب زعيم المعارضة الأفغانية عبدالحق القصف كذلك ودانه باعتباره “نكسة كبرى” لجهود تشكيل تمرد ضمن صفوف طالبان، وقال عبدالحق الذي أسرته لاحقاً قوات طالبان بعد أن طوقت مخبأه في جنوب كابول وقتلته رغم تدخل القوات الأمريكية بالمروحيات العسكرية لإنقاذه لأنها هي التي كانت جاءت به لفتح جبهة مضادة لطالبان بين ابناء طائفة البشتون، ان الولايات المتحدة كانت “تحاول استعراض عضلاتها، وان تحرز نصراً وتخيف كل الناس في الدنيا حتى يهابوها ويرهبوا جبروتها، والامريكان لا يكترثون البتة بمعاناة الشعب الأفغاني ولا يعبأون بعدد من يقتل من شعبنا في هذه الحرب”.
ولم يأبه الأمريكان كذلك بما كان الأفغان يقولونه، فبعد أسبوع من بدء قصف أفغانستان بالقنابل في حملة تواصلت غاراتها على مدار الساعة وراحت تدمر كل شيء أتت عليه اصدر الاتحاد الثوري لنساء أفغانستان وهو منظمة تكونت من نسوة أفغانيات باسلات يتحلين بشجاعة فائقة واضطلعن بمهمة الدفاع عن حقوق النساء على مدار ربع قرن، بياناً عنوانه “ينبغي أن تطيح بطالبان انتفاضة شعبية تقوم بها الأمة الأفغانية” ودعا البيان إلى “قيام انتفاضة شاملة” للشعب الأفغاني نفسه ضد طالبان ورأى أن هذا وحده هو “القادر على الحيلولة دون تكرار حدوث المصيبة التي حلت ببلدنا”.
من المفارقات التي تقطر مرارة ان نسمع لأكبر قائد عسكري بريطاني في أفغانستان وهو يقول الاسبوع الماضي ان الحرب ضد طالبان لا يمكن كسبها بالوسائل العسكرية. وقال البريغادير مارك كارلتون سميث قائد الكتيبة الجوية الهجومية 16 وقائد القوات البريطانية في أفغانستان في مقابلة له مع صحيفة “صنداي تايمز” ان الرأي العام ينبغي ألا يتوقع انتصاراً عسكرياً حاسماً في هذا البلد وان ما يمكن توقعه هو خفض نسبي في حدة هجمات المسلحين إلى مستويات يمكن التعامل معها فحسب، وقال ايضاً لن ننتصر في هذه الحرب، من غير المعقول أو الواقعي الاعتقاد بأن القوات المتعددة الجنسيات قادرة على إحراز نصر عسكري ونحن نريد أن نغير طبيعة الجدل من نزاع نحاول حسمه بالحديد والنار إلى حوار يتم حل مشاكله بالمفاوضات.
وما لم يذكره القائد هوارد هو أن القوات العسكرية الغربية في أفغانستان بذلت قصارى جهدها لإحراز شبه نصر إلا أنها منيت بخسائر فادحة ولاتزال ولم تحرز أي نصر وان كلفة الحرب بلغت أرقاماً فلكية بدأت ميزانيات الدول تنوء بثقلها.
وهذه التعليقات زائفة خادعة بالنسبة لكثير من الساسة والصحافيين الذين دأبوا منذ البداية وحتى الآن على دعم ومناصرة هذه الحملة العسكرية العبثية المدمرة التي لا جدوى منها، ففي عام 2001 ارتفع صوت نعوم تشومسكي ومع جمهرة من الناشطين في مناهضة الحرب ليجادل بأن البديل العقلاني الحصيف لامطار أفغانستان بالقنابل هو “التأمل والتدبر في خلفية المشهد وما يزخر به من هموم ومظالم ومحاولة معالجة هذه الأدواء بأدوية سلمية إنسانية، في ذات الوقت الذي نحاول فيه فرض حكم القانون ومعاقبة المجرمين”.
وأوردت صحيفة “الجارديان” أن تعليقات القائد العسكري مارك كارلتون سميث تعكس ما يقوله ايضاً كبار القادة العسكريين البريطانيين في وزارة الدفاع في مجالسهم الخاصة، وكان بيل راميل وزير الدولة الجديد في مكتب الخارجية قد تحدث الى مجلس العموم فقال ان بريطانيا سوف تدعم اي مساع أفغانية للتوصل إلى فتح قنوات مع تلك الفئات داخل حركة طالبان المهيأة بصورة حقيقية للتنكب عن جادة المقاومة ونبذ العنف. وحتى وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس قال أيضاً: “يكمن جزء من الحل في التصالح مع تلك الفئة من الناس الراغبين والمستعدين للعمل مع الحكومة الأفغانية”.
وجاءت تصريحات كارلتون سميث وتقييماته في أعقاب تسريب مذكرة كتبها دبلوماسي فرنسي زعم ان السير شيرارد كاوبر-كوليس السفير البريطاني في كابول أخبره بأن الاستراتيجية المعتمدة حالياً “محققة الاخفاق” بلا ريب، وقال كاوبر كوليس ان خير من يمكن أن يمسك بمقاليد الحكم ويفلح في قيادة أفغانستان طاغية حازم يقبله شعب أفغانستان، وقال كاوبر- كوليس ايضاً ان الاستراتيجية الأمريكية ستمنى بهزيمة شنعاء يقيناً وان وجود القوات الأجنبية في أفغانستان كان جزءاً من المشكلة وليس حلاً لها.
وتعيد هذه التصريحات المذهلة إلى الأذهان تلك التعليقات التي كان أدلى بها في أكتوبر من عام 2006 الجنرال السير ريتشارد دانات قائد الجيش البريطاني ودعا فيها الى انسحاب فوري للقوات البريطانية من جنوب العراق “لأن حضورنا يفاقم الوضع ويزيد المشاكل الأمنية سوءاً”. ومن الواضح الجلي أن الحرب في أفغانستان خرجت عن سيطرة الغرب، فالقوات البريطانية تتسارع وتيرة قتل جنودها بمعدل أعلى مما كانت تشهده ابان غزو العراق في عام 2003. وتزايدت العمليات الانتحارية ستة أضعاف خلال العامين المنصرمين وقال غولاب مانجال حاكم منطقة هلمند الاسبوع الماضي ان طالبان سيطرت على أكثر من نصف المنطقة رغم تعزيز البريطانيين لقواتهم بشكل مكثف.
وكان مقال نشرته “الديلي تلغراف” في 16 أكتوبر قد حمل عنوان “الانسحاب الآن سيعني أن ما قدمته قواتنا من تضحيات ذهب هباء وان تلك الدماء التي أهدرت لم تجد شيئاً وهنا أيضاً يقف المرء في حال ذهول كامل، إذ ان القوم في الغرب لا يخطر على بالهم مجرد خاطر ما قدمه الشعب الافغاني من تضحيات على مدى سبع سنوات وان دماءهم التي سفكت انما ذهبت هدراً، علماً بأن المفاوضات مع طالبان كان يمكن أن تبدأ منذ عام 2001.
وكانت وكالة الانباء الفرنسية قد أوردت هذا الاسبوع أن أكثر من 3200 مدني أفغاني سقطوا قتلى على أيدي قوات حلف الناتو والقوات الأمريكية في أفغانستان منذ عام 2005 ومن المرجح أن هذه الحصيلة أقل بكثير من الرقم الحقيقي وان عدد من أصيب في عمليات القوات الغربية في أفغانستان من المدنيين بلغ آلافاً مؤلفة “لأن المدنيين الأفغان يطلق عليهم العسكريون الغربيون وصف المسلحين والمقاتلين ولأن هناك اعداداً لا حصر لها من المصابين جراء عمليات هذه القوات المتعددة الجنسيات وان كثيراً من هؤلاء المصابين يقضون نحبهم في النهاية لشح العناية الطبية.
وفي هذا الأسبوع أيضاً أورد الصحافي باتريك كوكبيرن في “الاندبندنت” أن أولى المحادثات الجدية بين الحكومة الأفغانية وطالبان جرت قبل اسبوع في مكة المكرمة واتفقت الاطراف جميعها على ان الحرب سيتم وقفها وحل مشكلتها بالحوار وليس بالقتال.
ووصف كوكبيرن السياسة الأمريكية في أفغانستان بأنها مجرد تصورات جرى تبنيها بشكل كارثي شأنها شأن تلك التي انتهجت في العراق ويبدو في الحقيقة ان بريطانيا ستتراجع وستنسحب من دون تحقيق أي من أهدافها التي اساءت تحديدها أصيلاً، فملاحقة طالبان في عقر دارها سنة بعد سنة لم تخلق سوى توسع التمرد والحال المزرية التي تتخبط القوات الغربية اليوم في مستنقعها.
لذا يثور السؤال: لماذا استمر كل هذا الذبح وسفك الدماء في أفغانستان طيلة ما يزيد على سبعة أعوام؟ وإذا كان القوم يؤمنون بالدبلوماسية والحوار اليوم فلماذا أهدرت كل تلك الدماء والأرواح وبددت كل تلك الأموال؟
وثمة حقيقة مرة مروعة في بشاعتها تجثم كطود حالك السواد أمام أنظارنا وهي أن قصف بلدان العالم الثالث الغافلة الضعيفة التي لا حول لها ولا قوة والعاجزة عن مجابهة الهجمة وصد العدوان قد صار هو سيف الامبريالية الأمريكية البتار المسلط وأداتها الأهم والأشد فتكاً وأصبح هو الدرب الأوحد الذي تسلكه الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق طموحاتها السياسة وبلوغ مآربها إلا أن الأسوأ من ذلك أن أمريكا وبريطانيا استولدتا قوة بطش دافعة هوجاء تسير على ساقين هما السياسة والاقتصاد وتفتش دائماً عن أعداء تنازلهم وتقارعهم وتحتاج دائماً إلى أسلحة تشهرها في وجوههم لتقضي عليهم وهنا يدخل الثنائي الانجلو امريكي في دوامة الضرورة الملحة التي تملي على هذه القوة الغاشمة المتغطرسة البحث المحموم عن المزيد من الأسلحة الاشد فتكاً وتدميراً كي تستعيض بها عن الاسلحة التي استخدمتها وبليت. فمحاولة استئصال خلايا سرطانية ببندقية لهب يمكن أن تكون هدامة مدمرة لا تبقي ولا تذر، لكنها تدر ثروات اسطورية.
* كاتب صحافي وناقد ومحلل سياسي يشارك في تحرير موقع ميديا لينس على الشبكة
الخليج