محاولة انتحار فردية… فهل سنشهد قريباً نزوحاً جماعياً للانتحار؟؟!!
خولة دنيـا
منذ أيام قام شاب من طلاب جامعة دمشق، بالسير عارياً على حافة الطوابق العشر التي يتكون منها بناء سكني موجود في المدينة الجامعية، ولمدة تجاوزت الأربع ساعات، ومع محاولات الإقناع الكثيرة له بالنزول عن الحافة، والعدول عن فكرة الانتحار، أخيراً قام فعلاً بالنزول، وضع معطفاً على كتفيه، ونزل بهدوء، لم نعرف مطالبه، غمغم بالحديث عن أوضاع سيئة للمعيشة، والوضع البائس الذي يعاني منه الطلاب في المدينة الجامعية، ووضع الدراسة البائس، وعدم نجاحه في بعض المواد.
اجتذب ظهوره المفاجئ الكثير من الطلاب، وتالياً الشرطة والإطفاء، ووزير التعليم العالي، ورئيس جامعة دمشق، ومدير المدينة الجامعية…. والكثير الكثير من المعنيين في الدولة وأجهزة الأمن.
اختلفت الدوافع وراء الاهتمام، فالوزير يريد بشكل أساسي احتواء الوضع، وعدم إيصاله للجهات العليا، ليكون على قدر المسؤولية. الشرطة تريد البرهان على قدرتها على الإمسكاك بزمام الأمور في مثل هذه الظروف الغريبة والجديدة على الساحة الطلابية. أجهزة الأمن، تراقب وتترصد مآلات الحكاية ودوافع الانتحار: لماذا يريد أن ينتحر؟ هل وراء انتحاره دوافع سياسية، ماهي، وفي حال وجودها كيف يمكن التغطية عليها بعيداً عن وسائل الإعلام. أما الجمع الغفير وأغلبه من الطلاب، فقد كان يتنازعهم أكثر من شعور: الفضول، الترقب، الصدمة بالظهور العاري المستهجن جداً، وكذلك ما أثاره الحدث من مواجع تتعلق بمشاكلهم اليومية في الدراسة والسكن الجامعي، مما أدى إلى انقسامات تطلق أحكاماً قاسية أحياناً ومتعاطفة أحياناً أخرى من مثل (الله لا يردو، أكيد الولد جانن، شو حابب بنت وماطلعت فيه.. ومعو حق شي بيجنن، ماعاد قادر يستحمل…) الخ.
الملفت للنظر الانطباع الذي حاولت الجهات الرسمية غرسه لدى وسائل الإعلام، وهو بأن الشاب مجنون، وغير سوي عقلياً وإلا لما فعل ما فعل…( أي بمعنى أمورنا كالعادة بخير، ولا ينقصنا شيء، المشكلة في هذا الشاب تحديداً ولا تتعلق بغيره من الشباب الأسوياء)!!!!.
وعلى الرغم من أنني هنا لا أريد الدخول في التقييم النفسي للشاب، ولا إطلاق الأحكام عليه، مع ما يثيره وضعه من احتمال وجود اضطراب ما دفعه لهذه الفورة المفاجئة. غير أنني سأهتم بالحدث كحدث وما جاوره من ردود أفعال.
كثيراً مادار النقاش ويدور حول شباب هذه الأيام، وشباب أيام زمان، كنا كذا وهم كذا، كنا نهتم بكل مايحصل حولنا، ونحاول المشاركة بما يحدث، أم هم فغير مبالين!
هل فعلاً كنا أكثر فاعلية من شباب هذه الأيام، أم أنه مجرد وهم أقنعنا أنفسنا به لنبرر سنوات طويلة من عمرنا حاولنا فيها تغيير الواقع دون جدوى!!
المشكلة أننا عندما نتحدث بهذه النبرة، نقصر الفعالية على الفعالية السياسية تحديداً، وكل ما يحيط بها، من اهتمام بالشأن العام: الاقتصاد، المجتمع، مشاكل الناس، مطالعة الكتب الجادة والتي تنير لنا الطريق! الأدب الملتزم، روايات أخوتنا في الشقاء والنضال، مهما اختلفت جنسياتهم وبعد بلدانهم عنا… الخ
كنا نرى الحياة تمشي حيث نحن (حملة الشعلة لإنارة درب الآخرين)، وكل مالا يحيط بنا هو بالتأكيد هش وعابر ومبتذل، ومآله السقوط أو التغيير على درب الثورة التي ستعيد بناء وتشكيل المجتمع الموعود!!.
وعلى الرغم من سوريالية أحلامنا حيناً، وواقعيتها حيناً آخر، فقد قُدمت التضحيات الكثيرة لها، ودُفعت الأثمان بأشكال مختلفة، اعتقالات، سجون، تحقيق، حرمانات مابعد السجن، صعوبات حياة، افتراقات الأحبة، ولقاءاتهم…. كل هذا كان غير مهم في سبيل الفكرة الأسمى: الحرية، والوعد بالتغيير…
بعد كل هذه السنوات مازالت التضحيات تقدم، ولكن كيف أصبحنا نرى أنفسنا، الأكثر صحة؟، الأكثر تضحية؟، الأكثر تجرداً من متاع الحياة الدنيا؟. ربما، ولكن على الغالب لسنا الأكثر معرفة بشباب اليوم ونزوعاته.
المشكلة أننا نطلق أحكامنا سريعة ومباشرة على الشباب، فهل هم فعلاً ميالين للانكفاء عن الحياة العامة، ومتقوقعين حول أحلامهم الشخصية ورغباتهم الخاصة، أي أنانيين ولا مبالين!!
لا شك أن السنوات الطويلة من القمع واحتكار السياسة تركت بصماتها على المجتمع ككل بشيبه وشبانه، فانكفأ الجميع إلى جحورهم الخاصة يعالجون مشاكلهم الخاصة بشكل فردي ودون إثارة أي جلبة… فالشباب الذين ولدوا في عصر القمع سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، أخذوا دروساً جيدة في الابتعاد عن الشأن العام، فيكاد لا يخلو بيت من شخص أو قريب أو صديق أو جار، تعرض للقمع ودفع الثمن من حياته أو حريته أو وضعه المعيشي والعائلي. وبالتالي فالدروس التي يجب استقاءها علنية ومكشوفة ومباشرة، لا تحتاج للبحث عنها أو التمحيص في الكتب، خاصة وأن الذاكرة لم تبتعد كفاية بعد، وجيل العسف لا يزال يعيش بيننا كما جيل القمع لا يزال في مناصبه محافظاً عليها على مر تلك السنوات الطويلة.
شباب اليوم تتنازعه هواجس كثيرة: تتنوع بين الحاجات الثقافية والاقتصادية والمعاشية، فقد أصبح التعليم هاجساً أساسياً لدى هؤلاء الشباب ولدى أهاليهم (أي نحن) كذلك، فمع ازدياد تعقد الوضع الاقتصادي والسير الحثيث باتجاه فتح الأسواق، يتحول التعليم إلى سلعة رائجة في مجتمعنا، تدر أكبر الأرباح، مما يحتم على الأهل العمل بجد كبير إن كان لديهم طموح بإكمال أولادهم لتعليمهم العالي، وكذلك لدى الشباب بأن الفرصة لا تفوت ويجب استغلالها لأنها لن تأت مرة أخرى. فنرى أغلب الشباب يعملون على استغلال أوقاتهم بالدراسة متناسين أو ناسين ما يحيط بهم من مشاكل عالقة تخص المجتمع أو الأهل أو السياسة أو الاقتصاد…
الهاجس الآخر الذي يترك بظلاله بشكل كبير هو مرحلة مابعد الدراسة والبحث عن العمل. ماهي الدراسة التي ستؤمن فرصة العمل المناسبة؟، هل فرصة العمل المؤمنة حالياً، أهم من انتظار مرحلة مابعد الدراسة للبحث عن عمل؟… الخ
ومع تزايد العرض عما يستوعبه سوق العمل، تصبح البطالة الوحش الأكثر إخافة للشباب، خاصة وأن الدولة تنسحب تدريجياً من التزاماتها تجاه الكثير من فروع الجامعة التي كانت تؤمن لها وظائف ضمن سياسة استيعاب خريجي هذه الفروع.
كل هذه الهموم، ومع انسداد الآفاق أصبحت الهجرة هاجساً ملحاً لدى أغلب الشباب، بما تحمله من أحلام الرفاه والحرية، فمن خلال التقدم التكنولوجي الكبير، والانتقال السريع للمعلومة والصورة أصبح الحلم أقوى من الواقع مرة أخرى، فهذا الجيل يتعامل مع التلفزيون بمحطاته الألف ربما، ومع الانترنت بفضائه الشاسع، وإمكانياته اللامتناهية، بينما نحن لا نزال حتى الآن نتلمس أزرار الكمبيوتر بكل حذر وخشية من إفلات أحدها، وسط دهشتنا من تمكن ابن الثانية عشرة من فك رموز هذا الجهاز الغريب والعجيب والمعقد…!!!!
في ظل هذه الهواجس جميعاً يبدو الشباب في حيرة من أمرهم: ضغوط تأخذ الكثير من تفكيرهم ووقتهم، سعي لتحقيق الأفضل، ونزوع لمثال غربي يضخه الانترنت والتلفاز بشكل دائم، وبشكل يبدو الواقع معه بديلاً غير ممكن العيش معه دون بذل الكثير من الجهد، أو النزوح خارج الأوطان لعيش هذا المثال، الذي في كثير من الأحيان يكون بعيداً عن الصورة التي تمَّ زرعها في أذهانهم المتلقية له عبر الصورة.
وهنا يجب أن لا ننسى كذلك طول فترة الطفولة لدى شباب اليوم، ففي الوقت الذي كان يعتبر فيه الطفل قد أصبح رجلاً أو امرأة في سن الخامسة عشر، نلاحظ اليوم طفولة تمتد حتى العشرينات أو حواف الثلاثينات، وهذا يستدعي نزعة الاتكالية والاعتمادية لدى الشباب على أهاليهم.
عودة إلى الشاب الذي بدأنا حديثنا به، الذي حاول الانتحار من أعلى نقطة في بناية سكنه الجامعي، الذي تمشى عارياً تحت أنظار زملائه، وأهله، ومسؤولي جامعته…. هل كان مريضاً حقاً، هل كان يود توصيل رسالة بمعاناته؟ ولم يجد أفضل من هذا الأسلوب لإيصاله؟، ماهي معاناته: هل كان ينوي الانتحار فعلاً، أم هو مجرد نزوع لإثبات الذات، ورفض المحيط والقيم؟
قد يكون كل ماسبق، وقد يكون لاشيء من هذا البتة!!!.
قد يكون كل هذا أو بعضه، ما يهمنا في النتيجة، محاولة فهم الآلية التي يتعامل بها الشباب اليوم، وهم يتحولون إلى براغي لآلة الحضارة الحديثة هذه، التي أصبح يتم تقييم جنون أو عدم جنون كل منا فيها، بقدرته على الدخول أو عدم الدخول في عزقات هذه الآلة التي تطحن الإنسان وقيمه ليتحول إلى مجرد وقود لتشغيل هذا العصر الذهبي للآلة بكل تجلياته.
فهل سنشهد في المستقبل القريب حالة نزوح جماعي للانتحار هرباً من العقلنة الحديثة التي يعيشها العالم الحديث، وعلى الأقل إذا لم ننتحر فسنحاول بكل الوسائل إثبات أننا مازلنا أحياء، وقد يكون هذا بإظهار أعضائنا وإبرازها للشمس والهواء والعيون، أي انظروا مازلت بشراً لست آلة.. ولست برغياً في آلة الرعب اللاآدمي الحديث….!!!
خاص – صفحات سورية –