ثوراتي” لـلـكشميري الـبريطاني هاري كونـــزرو ما الذي تـشبهه الـحرية؟
رلى راشد
يشبه الروائي هاري كونزرو العرّاف الذي تستحوذ عليه مواجهة الماضي، فيحترف النظر في اتجاهين معا: عينٌ على ما جرى، وثانية على ما سيجري. منذ عيّنت مجلة “غرانتا” البريطانية في 2003، هاري كونزرو صاحب القلم المتحدر من أجداد إنكليز وكشميريين هنود، من بين عشرين موهبة كتابية شابة،
سُلِّطت الأضواء على صوت اتّخذ من موروثات الامبراطورية البريطانية مادةً لأدبه المشفوع بسؤال المستقبل. نوغل كقراء، في هذه الاشكالية بدءا من لحظة ولوجنا الى موقعه الالكتروني، حيث بورتريه لهاري كونزرو متدرجاً في أربع لقطات لاهثة فكأنه آخذٌ في التلاشي. في حين يرتفع مبنى هرم في الخلفية، حديدي المدخل، يحيل على مستودعات الخردة أو على عمارات هي ملك حقبة شيوعية آفلة. تلائم هذه الاستهلالية البصرية روائياً خلاسيّ الجذور نشأ في إيسيكس في انكلترا، وحنا على نماذج بالكاد أدبية، تجبر على العيش في هوامش المجتمع، في رفقة حفنة حقوق أو لا حقوق البتة. قيم كونزرو الأدبية تتآخى عفويا مع القيم السياسية، دافعاً بتلاقحهما الى مداه الأقصى، الى حدّ إسقاط أي امتياز مصدره جهات تناقض رؤياه السياسية. على هذا النحو، اعتذر عن عدم قبول جائزة “مايل أون صانداي/جون لاولين ريس” للكتّاب ما دون الخامسة والثلاثين، وهي ثاني أقدم جائزة أدبية في انكلترا، والتي نالها عن عمل البدايات “المقلّد” (2002). السبب، على ما أعلن، انتهاج صحيفة “مايل اون صانداي” خطاً في النشر يقوم على التشهير باللاجئين وطلاب اللجوء السياسي. ناهيك بإلصاق صفات شيطانية بالسود وسليلي الأصول الآسيوية-البريطانية، مثله، وإرساء جو ضاغط من العدائية ضدهم. لطالما تحدّت تصريحات كونزرو العلنية ومقالاته، العولمة الاقتصادية والثقافية، وأمعنت في القفز فوق الحقوق المدنية والديموقراطية، وأنصتت الى أولئك المتروكين خارج شعاع منافعهما. يلازم هذا التمرد روايات كونزرو التي دأبت على التوقف عند أثر العولمة في تشكيل الهويات الفردية. على مذهب الأدباء الإثنيّين، ينساق كونزرو الى المرور ببيئة عبثية تتبنى من دون حرج التصنيفات العرقية. من خلال هذا المسلك، يصل الى هيئات الاستعمار البريطاني والى هيكلتها القمعية والباعثة للخشية. تستعيد روايته “المقلّد” (الحائزة جائزة “سامورسيت موغهام”) مثلاً، قصص الأمبراطورية البريطانية الأسطورية، كما سجّلها كتابياً فورستر، وخصوصا كيبلينغ. تستوقف كونزرو رواية “كيم” لكيبلينغ، فيجعل منها مرتعه، وإن كان في نيّته قلب مقاربتها رأسا على عقب. يستحوذ كونزرو على نص كيبلينغ ليجعله يقول عكس ما ابتغاه صاحبه، فيصير الغرب شأنا تغريبيا بعدما كانت الهند، والشرق عموما، خلال عقود، موضوع الإدهاش الساذج اليتيم. “المقلّد” فانتازيا عن الرجل الأبيض، تنجح في بعث جانب شرقي منير بقي طويلا في سبات عميق. في الرواية، يبيّن كونزرو ان في وسعه التجاسر على أي شيء في دائرة اللغة التي يطوّعها بيسر لافت لتصير “طفحا” مذهل الدقة. على رغم ان “المقلّد” ليست مؤلفاً محوره الهوية “الآسيوية” في بريطانيا الألفية الثالثة، فإن هذه التيمة تحضر في ثنايا حكاية تفيض عن سياقها. تعرّج على رزمة حوادث وإحالات تاريخية. تنعش بلاطات الأمراء الهنود وتسترق النظر الى كواليس السياسة الاستعمارية والى غاندي القابع في انتفاضته اللاعنفية. في 2007، يعود كونزرو ليشحذ تجربته وتمرسه وخياله في ميدان الرواية ويروي في “ثوراتي”، الصادرة أخيرا لدى دار “داتون”، تحلّل مفهوم النقاء الراديكالي. تتكوّر روايته حول لحظة أولى، ينظر فيها الراوي مايك فرايم، عبر نافذة منزل زوجته الريفي، الى التحضيرات التي تسبق حفل عيد ميلاده الخمسين. من المفترض أن يحظى الاحتفاء في هذه المناسبة بترحيبه، غير انه ومع اقتراب اللحظة الحاسمة يلوذ بالارتياب، في حين تتربص بذهنه فكرة فتاكة: الهرب تواً. يطوف مايك فرايم في مشكلة معقدة الامتدادات. بداية، إسمه ليس إسمه. مايك فرايم هوية مزيفة اتخذها كريس كارفر ليعيش في كذبة تنظّم يومياته الراهنة مع صديقته “الاختيارية” وابنتها. منذ ثلاثة عقود يواصل فرايم حياة من الخيبة الساكنة في قرية انكليزية منمنمة، بعدما وارى في طيات النسيان، زمناً كان له فيه نشاط عسكري محوري. انضوى في نهايات الستينات وبداية السبعينات من القرن العشرين، في خلية راديكالية إرهابية عُرفت بإسم “اللواء الغاضب”، والتزمت إطاحة النظام الانكليزي. يظن كارفر ما ولّى قد دُفن، غير أنه عاد يضطهده ويمزّق هدوءه، على إثر لقائه العرضي بمايلز بريدجمان، أحد معارفه القدامى غير المحببين، بعدما تعارفا في سجنٍ دخلاه على خلفية تظاهرة في أواخر الستينات. صار بريدجمان بعدذاك مؤتمنا على قسم هائل من المعلومات الحساسة المنوطة بماضي كارفر، والتي يحاول، بعدما حدد مكانه، ابتزازه بها. لن يبذل الراوي جهدا لإرغام بريدجمان على كتمان ما يعرفه عن تاريخه القاتم. يتسلل الأرق النفسي، رويدا، الى مسرح “ثوراتي”. تتراءى حياة كارفر البديلة شذرات هشة، أو قصراً يُشيَّد من أوراق لعب، وثمة من يوشك على سحب إحداها، فيهوي البناء، ويندثر. “ثوراتي” رواية تعطف على الماضي والحاضر والمستقبل المبهم. كريس كارفر في الوسط، فرد من أفراد اعتنقوا المنطق العنفي، في حقبة تعالت فيها “سياسات المواجهة” على كل مسوّغات ديموقراطية. من الجلي ان هاري كونزرو لم يوفر الأبحاث التوثيقية، لذا تتلبس الرواية بهيئة التقرير الصحافي المقنع والضاج بالتفاصيل الملاصقة للسياق التاريخي. في الأعوام الأخيرة، وخصوصا بعد زلزال الحادي عشر من أيلول، حام التخييل الأميركي الحديث في مساحات الإرهاب الإسلامي. قدّم الخلاصات على المسببات، في حين همّش حيثيات التركيب الانساني. في رواية “ثوراتي” تختال شخصيات تجد نفسها معتقلة في مصيدة السياسة حيث يهيمن الاضطراب الداني والمزعزع. لكن كونزرو غير الأميركي لا يجعل روايته تتوسل بموضوع الإرهاب الاسلامي، إنما ينتقي الإرهاب الأوروبي بديلا روائيا، فطنا ومعبّرا، عن الراديكالية الايديولوجية. التطرف العقائدي يقاربه كونزرو من منظار اقتصادي في روايته الثانية “عمليات نقل” (2004)، حيث يشخّص نمطا امبراطوريا متعاظما، يختلف عن الامبراطوريات التقليدية، ويتمثّل في الشركات العابرة للقوميات الشديدة النفوذ، توأما عصريا للفتك الكولونيالي. في “ثوراتي” ثمة حنو على تعفّن الغلّة العقائدية وتأكيد ان الفشل السياسي وليد المبالغة في تقويم النجاح. “ماذا الذي تشبهه الحرية؟”، سؤال يتكرر في عمل كونزرو، ويبدو المؤلف نصف متمتع ونصف منتحب، بنتيجة عجز المحرّضين والإرهابيين الذين يقطنون صفحات الرواية، عن تأمين جواب شاف. “ثوراتي” رواية مكثّفة وتراكمية ترصد الصلات بين ذواتنا الحالية والسابقة. رواية غير مألوفة، شديدة الصلة بالواقع، وبالعهود العقائدية التي قطعها المتطرفون على أنفسهم في الأعوام القليلة المنصرمة. إنها رسم خريفي لنمط راديكالي خاب في ستينات القرن العشرين، ولمخلفاته التي لا تزال تعنّ على ذهن القرن الذي نعيشه. من طريق شخصية كارفر التي توسوس في ذهنه، يجيء هاري كونزرو بحكاية شديدة الاقناع تزنّر حقبة لم يعرفها بنفسه. يتناول باحترام كلي، يلامس أحيانا الخشوع، توق راويه الى تحقيق مأربه، غير أنه ينبذ النظرة الشعبية السائدة عن أشخاص متمردين، هم في قرارة وعيهم مراهقين مضللين يجرّبون الثورة كترفيه لا أكثر. لكن هاري كونزرو يؤمّ تعطشهم للدم المتلطي خلف تصرفاتهم العنفية. في نهاية الرواية، يبتهج مايلز بريدجمان معلنا: “ها قد ماتت العقائد. يستطيع الجميع الآن الاتفاق على كيفية إدارة شؤون العالم”. تهتز الرواية بارتدادات حنق يماثل هذه القول، هو حنق كونزرو الذاتي الذي يهرقه وكأنه تدرب عليه منذ الأزل.