السجنـاء الثلاثـة فـي الطريـق إلـى تدمـر حيـث يتحـول الخـوف إلـى نمـط حيـاة
سمر يزبك
شعرة صغيرة، وجدت صدفة داخل أوراق رواية «أجمل غريق في العالم» للكولومبي غابرييل ماركيز.
شعرة صغيرة داخل كتاب تدخل إلى سجن تدمر، تجعل غسان جباعي يعيش سنوات طويلة من الشغف، فهذه الشعرة كانت لزوجته، أو هكذا خُيل إليه. يلمسها، يتشممها، ويحلم بوجه زوجته في عتمة زنازين تدمر الصامتة، الصمت هو سيد المكان في تدمر.
شعرة لا تساوي شيئاً، لكنها تساوي عمره، اكتشف بعد سنوات طويلة، أنها ليست لزوجته البعيدة، ولا تخص أي إنسان من عالمه، يكتشف ذلك ويروي للكاميرا القصة، مثل روائي يحاول لملمة التفاصيل.
وغسان جباعي ليس شخصية روائية، إنه وياسين الحاج صالح، وفرج بيرقدار، شخصيات من لحم ودم، عاشت يوماً ما في سجن تدمر، وجمعتهم كاميرا المخرجة والشاعرة السورية هالا محمد في فيلم «رحلة في الذاكرة» ضمن سلسلة «أدب السجون» التي عرضت على قناة الجزيرة.
فيلم «رحلة في الذاكرة» يختلف عن فيلم «قطعة الحلوة» لهالا محمد، عن نفس السلسلة التي تعرض على قناة الجزيرة، وإن كان البطل واحدا فيها: السجن. نعم السجن هو البطل، وليس السجناء، البطل المهزوم، لكنه الواقع الأكثر حقيقية من أي مكان سواه، لأنه لم يغادر عقولهم حتى بعد أن خرجوا إلى فضاء أكثر رحابة منه.
يبدأ الفيلم برحلة حافلة من دمشق إلى سجن تدمر، حافلة صغيرة تجمع السجناء الثلاثة؛ غسان الكاتب المسرحي، وفرج الشاعر، وياسين الكاتب، ينحشرون جميعا داخل فضاء الحافلة الضيق، ياسين أكثر مواجهة للكاميرا، وفرج وغسان يجلسان في المقاعد الخلفية، من بعيد يبدو المشهد كأنهم في رحلة صيد فالحافلة تخترق الصحراء، وهم يتحدثون، ولكن عماذا يتحدثون! تقترب الكاميرا، وتجلس حيادية، تتفرج وتُفرّج، ولا تقوم بأي مهارات من أي نوع كان، أو تلجأ إلى تقنيات ما، إنها الراكب الصامت الذي يترجم للمُشاهد، فالوجوه شاردة تتأمل ما تحجبه الصحراء عن العين، والطريق طويل.
تخرج الكاميرا بلقطة خاطفة إلى الطريق الاسفلتي. يبدأ غسان يتحدث عن كيفية اعتقاله، يروي التفاصيل بهدوء، ياسين أقل تصالحاً مع الكاميرا، يرتبك أمامها، ولم يتجاوز ذكرياته المنهالة علينا بصعوبة؛ كيف اعُتقل ودخل السجن. فرج يفعل نفس الشيء، يروي اعتقاله، وهو الأكثر تصالحا بينهم، يعرف بوجود الكاميرا، ويتحدث إليها، مثل نجم في برامج تلفزيون الواقع، وتنهمر الذكريات والأحاديث عن الدخول الى تدمر.
الحافلة التي حُشروا فيها سجن صغير آخر، الكاميرا لا تتجاوزه. أجسادهم مكورة ومحشورة ونزقة أيضاً. الكاميرا تراقب الضحكات الخافتة المنفلتة بين هنيهة وأخرى، يقول ياسين «عندما عرفنا أننا ذاهبون إلى تدمر شعرنا أننا واقعون في بئر عميق».
«تدمر يعني الرعب» يسترسل، ويسرد كل منهم حادثة خاصة به. يفعلون، ومن الواضح أنهم غير متحررين بعد من ثقل الزائر الغريب الذي سيحولهم إلى صور ناطقة على شاشة، لكنهم ينبشون الذكريات، وكأنهم يتسامرون أو يحاولون الإيحاء بذلك، لأن الطريق الصحراوي الممتد، والذكريات نفسها تحول دون ذلك، ثم يدخل الحوار في مدارات وجعهم الصامت يقول غسان «في السجن تتحول بديهيات الحياة إلى أحلام، أحدهم قال لي: يسمح لك بالتمدد 40 سم» يقول جملته وظلال ابتسامة تلوح، وتستمر الحافلة بالزحف في الصحراء، الحافلة السجن الصغير الذي يسير بهم الى سجن أكبر. يستغرب غسان ثانية «كنت أشعر بالأمان في البداية، فمن اعتقلني هو جيش بلادي، وقوات الأمن السورية من المفترض أن تحمي أمني، ولكن عندما تلقيت أول صفعة، عرفت أني لست في أمان».
الغريب أن المخرجة اختارت الحافلة ذات الفضاء الضيق موقعا للتصوير، ربما فعلت ذلك عن قصد بمقاربة لفضاء سجنهم، وربما لم تتعمد ذلك، لكن الفضاء البصري كان يحتاج الى عمق أكثر اتساعا، فكانوا ينحشرون ويلملمون أجسادهم المهتزة داخل الحافلة. ولا ينفلتون من حدود العدسة الضيقة «داخل السجن اخترعنا أقلاما من عظم، نجعل العظمة ذات حرف مدبب، وبرماد السجائر نكتب الشعر، والنكات وفي كل صباح نستيقظ، وتكون هناك جريدة معلقة على الحائط… إنهم لا يريدون أن ننتصر على السجن».
يتابع غسان حديثه، والكاميرا تراوح في مكانها باستعداد، يتحدثون عن قصص وتفاصيل عيشهم داخل الزنزانة، كيف يتحرك الواحد منهم وهو يستعد للنوم، فيعاقب على حركته هذه، يتحدثون عن إلغاء إنسانيتهم في تدمر، وما الذي حدث بعيدا عن أعين العالم كله، وهم ربما كما تقول وجوههم غير مصدقين أنهم كانوا يوما هناك، فالسجن في تدمر كان مختلفا عن كل السجون السورية. السجان في تدمر يتربص بالتنفس، ويبدو أنهم ما يزالون يشعرون بثقله. ياسين عندما يروي أي تفصيل عن تدمر، يختنق الهواء في صوته، فيتوقف ثوان بين كلمة وكلمة، ألمه أكثر شفافية، ويتجاوز حدود الكاميرا،
كل دقائق تظهر لافتة مكتوب عليها: تدمر 60 كم.
بعد قليل، لافتة أخرى: تدمر 40 كم.
تدمر 20 كم.
الكاميرا تذكرنا كل فترة أننا ذاهبون الى هناك.
تتوقف اللقطة هنا على الوجه الصامت: في تدمر الصمت مخيف، لقطة استثنائية في الفيلم «كلوس أب» على وجه غسان، وهو يتحدث بعد الصمت عن صعوبات العمل المسرحي «لا جوا في مسرح ولا برا في مسرح» ويساوي بين عالمه المظلم، وعالم البشر الخارجي، كلاهما لا يستطيع صناعة مسرح.
السور يأخذهم من حديث المسرح والثقافة.
السور
سور السجن يغطيه العلم السوري على البوابة، امتداد السور مزين بعبارات عن الوحدة والحرية والاشتراكية. الكاميرا تمر قربها مرور الكرام، وثانية تلتزم الحياد، اتجاه مملكة الموت في الداخل كما يقول عنها فرج. ياسين يستطرد «تدمر هو المكان الذي يتحول فيه الخوف الى نمط حياة» ويعود الحوار بينهم بطلا، وتختفي كل المؤثرات التقنية الممكنة لفيلم توثيقي، لتتركهم أحراراً من جديد، وهم يراقبون جدار تدمر، إنهم في الخارج، وليس داخل أسواره وهذا يكفيهم، على الأقل مؤقتا، ثم تعود الكاميرا من جديد، لتمارس بعد حوارهم القصير، إضافات كلاسيكية، لكنها محكومة بدافع الضرورة، ومن المستحيل أن يسمح لكاميرا بالدخول الى سجن تدمر، فتقترب العدسة من قضبان حديدية، خارجة عن السياق، تترافق مع صوت ساحر لآلة «الدودو» الأرمنية التي بحثت عنها المخرجة طويلا، لتتناغم مع روح الفيلم.
أخيرا قبل أن ينزلوا الى آثار تدمر، يتحدثون عن المرأة «في السجن شكلتُ نساء عديدات في مخيلتي، كنت أخترعهن من خيالي، ولاحقا تشكلت لدي الصورة المثلى للمرأة، وعندما خرجت من السجن، ملأ قلبي الفراغ، وأي امرأة واقعية ستُظلم أمام الصورة المثلى لتلك المرأة الخيال. لن تستطيع أي امرأة سد ذلك الفراغ في قلبي» يقول ياسين. يصمتون جميعا!
تقترب العدسة من وجوههم، كانوا يتأملون آثار تدمر، والحافلة تبتعد عنهم، ويعرفون أنهم داخل عين العدسة، وهم أحرار، يسيرون، ثلاثة رجال أمام مغيب الشمس، مع أوابد حضارة تدمر العظيمة، وتحت عين الشمس والعدسة، ويعرفون أيضاً، أنهم ليسوا الفرسان الثلاثة، وأنهم ينزاحون ببطء عن خط الحياة، وأن العدسة التي قامت «هالا محمد» بمرافقتها معهم، لم تكن إلا احتجاجا على هدر حياة بشر جزافاً، ولدوا وكبروا في مكان، لم يحترم ما آمنوا به، ولم يقدر اختلافهم عنه، وعاقبهم بمقص حديدي، قص شرائط حيواتهم الملونة.
مونتاج شديد القسوة لحيوات ثلاثة رجال: كاتب وشاعر ومسرحي. دخلوا تدمر يوماً، دخلوا في غفلة عن أنفسهم، وعندما فتحوا عيونهم، اكتشفوا أن الصغار كبروا في مدار الغياب، وأنهم لا يملكون سوى أن يتأملوا الشعر الأبيض فوق رؤوسهم، وهم يحدقون في وجوه غريبة داخل المرايا، كانت وجوههم يوما ما.
أعتقد أن فيلم هالا محمد، أراد أن يقول ذلك، وقد نجح، وله أن يتحمل فضيلة الألم في ذلك.
(سوريا)