ظلّ الغياب لنصري حجّاج الفلسطيـنـي يمـوت مرّتيـن
يُشارك الفيلم الوثائقي الجديد للمخرج الفلسطيني نصري حجّاج «ظلّ الغياب»، الفائز بجائزة المهر البرونزية في مسابقة الأفلام الوثائقية في الدورة الرابعة (كانون الأول الفائت) لمهرجان دبي السينمائي الدولي، في الدورة المقبلة لمهرجان تطوان في المملكة المغربية (آذار ـ نيسان 2008).
عُرض الفيلم (بحث وكتابة وإخراج ونصّ وصوت نصري حجّاج) في صالة سينما «متروبوليس» (الحمرا) ودار البلدية في صيدا قبل أيام قليلة. إنتاج: «فاميليا للإنتاج» (2007). قصائد: محمود درويش. قراءة: جوليا قصّار. موسيقى: هبة قواس وسامر طوطح وهنري غوريكي.
لا شكّ في أن النصّ الدراميّ لـ«ظلّ الغياب» مشغول بحماسة إنسانية ترغب في العثور على أجوبة معلّقة وسط المتاهة الفلسطينية الدائمة. لا شكّ في أنه مفتوح على سؤال أخلاقي أيضاً، يطال الجميع لمسؤوليتهم الأكيدة في رفع مستوى البؤس اليومي لشعب مقيم في الشتاتين الداخلي والخارجي. أعني بالجميع إسرائيل والأنظمة العربية وقيادات فلسطينية ثأرت من الموتى لانتماءاتهم السياسية المناهضة لها. ذلك أن نصري حجّاج انطلق في بحثه عن مصير الفلسطينيين (المشتّتين في المنافي أو في داخل فلسطين نفسها أيضاً) بعد وفاتهم، من ربطه السؤال هذا بحقّ العودة إلى البلد، ومن سعيه إلى إثارة المسألة بجانبها الإنساني. فهو لا يكتفي بمهاجمة إسرائيل لمنعها أي فلسطيني من العودة إلى بلده وإن ميتاً، بل يوجّه أصابع الاتّهام (بشكل مبطّن) إلى أنظمة عربية وقيادات فلسطينية مارست سطوتها البشعة على الموتى والأحياء معاً، بسبب مصالحها السياسية. فالمخيمات الفلسطينية في لبنان مثلاً محاصرة بقوانين جائرة أسقطت عن الفلسطيني إنسانيته ووجوده ككائن بشري حي. والنظام المصري يفرض على الفلسطينيين شتّى أنواع المصائب والعزلات. في حين أن قيادات فلسطينية منعت أهالي بعض الـ«شهداء» من دفنهم في داخل المخيّم بشكل لائق، لأن هؤلاء «الموتى» انتموا إلى تيارات سياسية مناهضة لها.
نسق إنساني
في هذا كلّه، حافظ نصري حجّاج على نسق إنساني بحت. ابتعد عن أي قول سياسي مباشر، ووظّف آلته التصويرية لمصلحة السؤال الأخلاقي أثناء قيامه بتلك الرحلة الغريبة وسط المقابر الجماعية المسحوقة تحت وطأة حرب من هنا أو إعادة إعمار من هناك، وداخل القبور المرتفعة في فضاء الشتات والقهر والألم، وفي التخوم الواهية بين العيش في الموت والموت على الطريق القاتلة إلى الوطن. من أجل هذا كلّه، صنع نصري حجّاج صورته الفنية من النسيج الحيّ لبؤر التوتر والغربة، كأن يبدأ من فلسطين كي ينتهي فيها، أو كأن يذهب إلى فيتنام كي يبحث عن لغز الموت في نيويورك ودرب الرجوع إلى البدايات المعلّقة في الذاكرة، أو إلى النهايات الملتبسة في علاقتها بالحكاية. والحكاية الفلسطينية ليست حكراً على منفى ومخيّم وحروب وألم، بل مفتوحة كجرح نازف لا يندمل. والتفاصيل متشعّبة لأن الشتات شاسع كتلك الجغرافيا التي رسمها حجّاج في فيلمه الوثائقي هذا، كأنه ببحثه عن قبور الفلسطينيين في الجغرافيا الشاسعة، يعيد تسليط الضوء على الحكاية الأولى: شتات الفلسطينيين وعلاقتهم بالأرض وحلم العودة.
جمع نصري حجّاج قصصاً متفرّقة عن فلسطينيين مُنعوا من أن يُدفنوا في فلسطين، فبقوا في المنافي كإشارة وجودية عن قوّة المنفى في مواجهة خيبة الواقع. بعض هؤلاء حقّق حلم العودة عندما وجد جثمانه طريقاً إلى بلدته أو قريته أو مدينته المحتلّة. وبعض آخر انغمس في الأرض الغريبة أكثر فأكثر. بين هؤلاء وأولئك، غاص حجّاج في حكايته الخاصّة، وقدّم شهادة عن بؤس الحياة ووجع الغياب، واستعاد فصولاً من الحرب اللبنانية من خلال تنقيبه في أرض الصراعات اللبنانية الفلسطينية (في مخيمات تل الزعتر وصبرا وشاتيلا والكرنيتينا)، ورسم ملامح مقاومة فلسطينية ضد إسرائيل (مقبرة الأرقام)، من دون أن يتخلّى عن الخيط الدرامي الأساسي المتعلّق بمصير الموتى وأمكنة دفنهم. اختار قصصاً متعلّقة بمثقفين وسياسيين ومناضلين، ولم ينسَ أوجاع الناس العاديين، فمزجها معاً في فيلم واحد.
ملاحظات
غير أن المشكلة الأولى التي يُعانيها الفيلم كامنةٌ في غياب رابط درامي أو فني بين القصص المختلفة. تنتهي قصّة وتبدأ أخرى، ولا شيء يجمعهما على المستوى البصري (يُمكن القول إن الحبكة الأساسية للقصص هي الرابط الدرامي، لكن الرابط الفني والجمالي غائبٌ). تُروى هذه القصّة أو تلك، ويكاد الاختلاف بينهما يختفي كلّياً باستثناء تفصيل من هنا أو هامش من هناك. بالإضافة إلى هذا، فإن لقطات عدّة بدت أهمّ درامياً وفنياً، كان يُمكن جعلها ركيزة ثابتة لمسار الفيلم وآلية سرد حكاياته: الملهى الليلي في منطقة الكرنتينا (B018) المشيّد على مقبرة جماعية ومقبرة الأرقام بالقرب من منطقة جسر بنات يعقوب الواقعة على الحدود الفاصلة بين سوريا وفلسطين، والمطلّة على بحيرة طبرية وهضبة الجولان وجبل الشيخ وجانب من الجليل. ذلك أن هذين المشهدين يلتقيان في رمزية واحدة: تغييب نهائي للفلسطيني. في الأول، تظهر رغبة لبنانية لاواعية في إعادة قتل الفلسطيني بدلاً من المصالحة الحقيقية معه، تماماً كأولئك العرب الرافضين التعاطي مع الفلسطيني كإنسان من لحم ودم. في الثاني، تتبدّى الرغبة الإسرائيلية الدائمة في إلغاء أي أثر للفلسطيني، بتجريده من آدميته وبسرقة اسمه منه (بعد قتله جسدياً) وبجعله رقماً معلّقاً في سجل الموتى. في الأول، تحويل واضح لجزء من الذاكرة الدموية اللبنانية إلى حلبة للرقص على جثث الضحايا وأرواحهم الهائمة في المنافي والشقاء. في الثاني، تحويل جذري للقيمة الإنسانية للفدائيين إلى أرقام منثورة على تراب، ليس لأن على الإنسان أن يذكر أنه من التراب وإلى التراب يعود، بل لأن إسرائيل مغرمة بتحويل كل شيء فلسطيني (تحديداً) إلى تراب.
يُشكّل هذان المشهدان خلاصة الحكايات الفلسطينية مع الموت والقبور والمدافن والشتات. يُشكّلان إطاراً للمعنى القاتل للبؤس الفلسطيني وللشقاء اللبناني والعربي في التعاطي الملتبس مع الفلسطينيين. يُشكّلان اختزالاً فنياً وبصرياً للسؤالين الإنساني والأخلاقي. غير أن الفيلم لم يمنحهما حقّهما في أن يصنعا من رمزيتهما مساراً درامياً يربط الحكايات كلّها بعضها ببعض، ويؤشّر على المعاني القاسية والمؤلمة للموت الفلسطيني.