إرباك .. إفلاس .. تعويض ناقص ..«هزات» أسعار مواد البناء … كيف طالت الاستثمار العمراني في سورية ؟
رياض إبراهيم أحمد – علي الخلف
Imageيعاني قطاع الإسكان والبناء والتشييد منذ عدة سنوات من بعض الصعوبات التي تعترض تطوّره وتقدّمه، أهمها الارتفاع المتزايد وبقفزات كبيرة في أسعار مواد البناء الأساسية، ولاسيما الإسمنت، وحديد التسليح الذي تجاوز سعر الطن الواحد منه مؤخراً 64 ألف ليرة سورية. ولكن نتيجة الأزمة المالية التي ضربت الأسواق المالية مؤخراً، وانعكست بشكل مباشر على مادة الحديد؛ انخفض سعره إلى 32 ألف ليرة سورية. لكن الحديد لا يشكل من البناء سوى 5 % من قيمة السكن، وبذلك ارتفاعه .
وانخفاضه لا يشكل إرباكاً كبيراً كما تفعل بقية المواد الأخرى، إضافة إلى ارتفاع أجور اليد العاملة، وتأخر إصدار التشريعات اللازمة والناظمة لعمل هذا القطاع المهم والحيوي، والتي وإن صدرت فإنها لم تعد كافية لمعالجة الخلل الحاصل فيه..
متغيرات وأعباء
نظراً لأهمية هذا القطاع، فقد تمَّ تشكيل لجنة لدراسة أثر المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية على واقع قطاع الإسكان عام 2008، تضمّ ممثلين عن وزارات الاقتصاد والكهرباء والمالية والصناعة والتعمير، بقرار من مجلس الوزراء بتاريخ ٩/٦، الجاري والإدارة المحلية والبيئة والنفط، إضافة إلى ممثلين عن المؤسسة العامة للإسكان ونقابة المقاولين والمهندسين والمصالح العقارية والجمارك والفريق الفني الاقتصادي.
وقد جاءت الزيادة التي طرأت على أسعار الطاقة مؤخراً، لتشكل عبئاً إضافياً يثقل كاهل قطاع البناء والتشييد، وتأثرت مشاريع المؤسسة العامة للإسكان سلباً بفعل ارتفاع أسعار الطاقة، بسبب اعتمادها بشكل كلي على موارد الطاقة التقليدية خلال مرحلتي التنفيذ والاستثمار. وظهر هذا التأثير في مرحلة التنفيذ، من خلال أعمال المقاولات، التي تأثرت بزيادة أسعار الطاقة، لجهة زيادة تكلفة ساعات العمل لآليات البناء بجميع أنواعها، إضافة إلى ازدياد تكلفة نقل المواد إلى المشاريع وتوزيعها داخل المشاريع، جراء ارتفاع أسعار الطاقة، وكذلك تأثر صناعة مواد البناء بجميع أنواعها، لاسيما زيادة تكلفة المجبول البيتوني والبلوك والبلاط والسيراميك والرخام.. الأمر الذي فرض واقعاً جديداً، مفاده أنه يصعب متابعة تنفيذ بعض العقود الموقعة قبل هذه الزيادة في أسعار الطاقة ومواد البناء على حد سواء.
الهدر والاستجرار
لم تتوقف آثار زيادة أسعار الطاقة على مرحلة التنفيذ، بل تعدَّتها لتصل إلى مرحلة الاستثمار، المتمثلة بالإنارة والتكييف والتدفئة المنزلية، حيث تشير الإحصاءات إلى أنَّ الإنارة المنزلية تشكل نسبة تتراوح بين ٣٠ و٣٥ %من استهلاك الطاقة الكلية لجميع القطاعات. وهذه النسبة قريبة إلى نسب الاستهلاك لبعض الدول المجاورة، والتي تبلغ ٣٥ % من إجمالي استهلاك الطاقة لديها.. وفي ظلّ الاعتماد الكلي ١٠٠% على الطاقة الكهربائية في الإنارة والتكييف واستمرار الهدر والاستجرار غير المرشد، ستشكل زيادة أسعار الطاقة تحدياً كبيراً أمام المستهلك وإرغامه على التوجه نحو الترشيد في استهلاك الطاقة، واستخدام الموفرات؛ من خلال اعتماده على أجهزة الإنارة الموفرة للطاقة، والأجهزة الكهربائية ذات المواصفات العالية والتي تمتلك خاصية توفير الطاقة.
إرباك المقاول
حسبما بيَّنت لنا وجهات نظر الجهات المختلفة، فإنَّ تأثير الهزات المتتالية لأسعار مواد البناء (من ارتفاع وانخفاض)، وانعكاس هذا التأثير على حركة الاستثمار وأسعار العقارات، يتفاوت ما بين القطاع الخاص المستثمر مع القطاع الخاص وما بين المستثمر مع القطاع العام، لاسيما أنَّ صيغة عقد القطاع الخاص وبنوده القانونية تحمي حقوق المستثمر، في مشروع قد تطول مدة تنفيذه لسنين، عكس صيغة العقد مع القطاع العام، الذي يوصف بالعقد المغلق.
كما أوضح لنا بعض المقاولين الأعضاء في نقابة المقاولين أنَّ “هذا الارتفاع والانخفاض غير المدعوم من قبل الدولة للمستثمر، من شأنه ليس فقط إرباك المقاول وتوقف أعماله لفترات يترتب عليها خسارات مالية وحسب، وإنما من شأنه أن يعرضه للإفلاس وخروجه من دائرة المقاولة والاستثمار نهائياً”.
عشوائية وارتجالية
لا تزال صناعة مواد البناء تسيرُ حتى الآن بشكل عشوائي وغير منظم، ووفق منهجية ارتجالية تتأثر بشكل كبير بالتغيرات الآنية كارتفاع أسعار المواد الداخلة فيها. وإنَّ التقدم الهائل والسريع في طرق التنفيذ وتكنولوجيا البناء، يساعد في سرعة التنفيذ، وتخفيض التكاليف إلى مستوى معقول، لتحقيق الجدوى الاقتصادية للمشاريع؛ الأمر الذي يفرض ضرورة الانتقال من صناعة مواد البناء العادية إلى أنظمة بناء حديثة، وفق تخطيط سليم ومنهجي منظم، باعتماد طرق جديدة في التنفيذ، وتطوير قطاع المقاولات، واستقطاب استثمارات عربية وأجنبية.
ثبات أسعار الحديد
المشكلة الأكبر كانت تكمن في سعر مادة الحديد، وكما نرى اليوم فأسعاره بحدود 36 ليرة سورية، ومن المتوقع ثباته على هذا السعر بسبب استيراده من إيران.
ويجدُ الدكتور رائف الخطيب أنَّ “ارتفاع أسعار مواد البناء ليس السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار العقارات، وإنما الموضوع له علاقة بسعر الأرض، لاسيما أنَّ دمشق اليوم أصبحت مدينة مغلقة ولا مجال للتوسع في داخلها، إلا من خلال إعادة تنظيم مناطق مخالفاتها، وبالتالي نرى أنه كلما ابتعدنا عن مركز المدينة باتجاه الريف انخفضت أسعار العقار، رغم ارتفاع أسعار مواد البناء؛ ما معناه أنَّ عقار الأرض يلعب دوراً في ارتفاع سعر الشقق السكنية، ولا علاقة هنا لارتفاع أسعار مواد البناء وهبوطها”.
ويضيف الدكتور رائف: “لم تتأثر مشاريعنا وأموالنا بما طال مواد البناء من ارتفاع وانخفاض، ونحن شخصياً مقبلون في منطقة الدريج العقارية ومنطقة سهل الزبداني، على بناء أكثر من 100 فيلا، دون الخوف من الاستمرار بهذه المشاريع”.
الفرق كبير
يجد المقاول سعد عثمان أنَّ “ارتفاع أسعار مواد البناء، لاسيما الإسمنت والحديد والرديمكس والرمل والطابوق، أثَّر بشدة في اقتصادات شركات المقاولات بشكل عام، وكبَّد العديد منها خسائر فادحة بسبب فروق الأسعار الكبيرة؛ فهناك مواد ارتفع سعرها بنسبة 100 %، وأخرى بنسبة 150 %؛ ما أربك العمل لدى الشركات”. وتابع بقوله: “المشروعات التي ننفّذها الآن تمَّ وضع أسعارها منذ عام وفقاً للأسعار السائدة في ذلك الوقت. ولكن بعد هذه الارتفاعات الكبيرة، فإننا أصبحنا نتحمَّل هذه الفروقات، ولا علاقة للمالك في ذلك، حيث لا توجد بنود في العقود المبرمة تحمينا من ارتفاع الأسعار المفاجئ، مما يعني أننا نتحمل الخسائر وحدنا، وهو ما يؤثر في تنفيذ العديد من المشروعات، ويدفع العديد من الشركات إلى الانسحاب من المشروع وتحمل خسائر كبيرة”.
مشاريع مغلقة
إنَّ صيغة العقد في تنفيذ المشاريع مع القطاع الحكومي تقوم على المناقصة والسعر النهائي المحدد، وتعديله يحتاج إلى ملحق عقدي، وإلى اجتماعات، وروتين يتطلب وقتاً مستقطعاً ومحتسباً على المقاول”.
ويتبدَّى لنا اختلاف وقع التأثير على القطاعين، من خلال ما أشار إليه الدكتور رائف الخطيب عضو مجموعة الاستثمار العمراني السورية الإماراتية القطرية اللبنانية، عندما قال: “إنَّ واقع الاستثمار العمراني في سورية مشجعٌ ومبشر بالخير، بفضل المناخ السياسي والمالي، الذي انعكس في جملة قرارات مشجعة للاستثمار في سورية، ما دفع المستثمرين المغتربين إلى العودة من جديد إلى الوطن الأم، والقيام بمشاريع استثمارية (من ضمنها المصارف والبنوك) أكثر استقراراً وضماناً مما يحدث اليوم في الخارج. وأضحى هناك العديد من الشركات الإماراتية والقطرية والكويتية التي تستثمر نتيجة التسهيلات المقدمة واستقرار الوضع الاقتصادي.
أما فيما يتعلق بارتفاع أسعار مواد البناء وهبوطها، فهذه بورصة عالمية، وهي لا تربك عملنا كمقاولين ومستثمرين في القطاع العمراني، لأنها بورصة ملحوظة في بند من عقودنا، وتتضمَّن زيادة 10 % لحال ارتفاع أسعار مواد البناء. وفي حال هبوط أسعارها، يبقى التعامل على أساس التكلفة الأساسية. وهذه المرونة غير موجودة في تعاملنا مع القطاع الحكومي، حيث السعر محدّد ونهائي وفق مناقصة، الأمر الذي يربك المقاول وقد يعرضه للإفلاس.
وهذا ما حدث مؤخراً عند ارتفاع سعر مادة المازوت، وما ترتب عليها من توقف لعدد من المشاريع إلى حين أن قامت الجهات المعنية في حلها.
نظام الطاقة الشمسية
ويرى الخبراء أنه يجب التركيز على تطبيق أنظمة العزل الحراري؛ الأمر الذي يؤثر بشكل إيجابي على تخفيض الفاقد الحراري، عبر جدران وأسطحه المباني؛ ما يؤدي بالضرورة إلى الاقتصاد في استهلاك موارد الطاقة في التكييف والتدفئة، إضافة إلى أنَّ تطبيق نظام الطاقة الشمسية في التدفئة وتسخين المياه، يشكّل عاملا أساسياً في الحدّ من هدر الطاقة، مع إمكانية تطبيق أنظمة الطاقة الشمسية في توليد الكهرباء، لاستخدامها في صناعة البناء والتشييد، وفي جميع مراحل دورة نشاط المشاريع، وكذلك في الإنارة الداخلية والعامة وضخّ المياه وإلى ما هنالك من استخدامات ستسهم في تخفيض الفاقد الكبير في الطاقة.
ولاشك في أنَّ إسهام الدولة في دعم مشاريع تعتمد على الطاقة المتجددة والبديلة، ودعمها للاستثمارات التي تسير في هذا الاتجاه سيسهم حتماً في تحقيق خطة الدولة، وبشكل فعال في الحدّ من هدر الطاقة. ومن هنا تبرز أهمية الإسراع في تطبيق الخطة الوطنية ومشروع التدريب في مجال كفاءة الطاقة في قطاع الإسكان والبناء والتشييد المقدم إلى وزارة الإسكان والتعمير، عن طريق الوكالة الألمانية للتعاون الفني
إن موضوع ارتفاع أسعار مواد البناء والطاقة أمر ليس محصوراً بالمحلية ولا حتى بالإقليمية، إنما هو مرتبط بسياسات الاقتصاد العالمية، ونحن نعي هذا جيداً. ولكن إبقاء قطاع الإسكان والتشييد عرضة لمزاجية المتغيرات والعمل ضمن مناخ تقليدي عشوائي، من شأنه إبقاء هذا القطاع متخلفاً عن العملية التنموية، ومتخلفاً عن حجم الاستثمارات القادمة باتجاه دخول هذا المجال في سورية، خاصة وأن التسهيلات المقدمة مغرية ومحفّزة وأهمها على الإطلاق حالة الاستقرار المالي والاقتصادي.
هذا من جانب الاستثمارات الخارجية. أما من جانب الاستثمارات الداخلية الناشئة والتي بدأت تتحدد ملامحها كشركات كبرى منافسة، فتحتاج إلى حالة من الاستقرار في هذا القطاع؛ فهي مازالت غير قادرة على الصمود أمام تلك الهزات العنيفة التي يمكن أن تودي بها إلى حالة من الإفلاس والخروج من مجال الاستثمار العمراني وهذا يمثل خسارة وطنية كبيرة .
والغريب في الموضوع أن تعامل القطاع الخاص في هذا المجال يمتاز بفوارق عن القطاع العام ولم تلحظ حالة الفرق هذه من قبل الجهات المعنية، حيث يشعر القطاع الخاص بطمأنينة من جانب مرونة الأسعار، في حين أن سعر القطاع العام نهائي ومغلق، وهذا أيضاً مالا يتماشى اليوم مع سياسة الاستثمار العمراني الذي يحتاج إلى سنوات عمل قد تطول وبالتالي يطلب هنا لحظ الفارق الزمني للإنجاز.
أخيراً قطاع الاستثمار االعمراني يأمل من كافة الجهات المعنية مرونة في القرارات وإجراءات حماية ودعماً لهذا القطاع الذي يشهد بذور نهضة محلية بمواصفات عالمية تتماشى ومتغيرات تكنولوجيا العصر، رغم عشوائيته وارتجاليته في الصناعة.
موقع بلدنا