بالحبر السري
محمد سليمان
الشرطة في خدمة الشعب»… لافتة عملاقة ظلت لسنوات عديدة تزين أبواب أقسام الشرطة في مصر… في مقابل لافتة عملاقة أخرى كتبها رجل الشارع بالحبر السري «الداخل مفقود والخارج مولود»، وهي لافتة تجسد الارتياب والكره وانعدام الثقة والخوف من رجال الشرطة الذين يعتبرون كل من يسعى إليهم مذنبا أو خارجا على القانون وعدوا يستحق الإيذاء والعقاب وإهدار الكرامة. لذلك يحاول الناس في المدن والقرى الابتعاد بشتى السبل عن هذه الأقسام، مفضلين التنازل أحيانا عن بعض حقوقهم لكيّلا يعاملوا كمذنبين أو مشاغبين.
وعلى مدى عقود رسَّخ سلوك رجال الشرطة وأجهزة الأمن هذه اللافتة الأخيرة في أذهان الجميع، خصوصا بعد كثرة المواطنين المتوفين في الأقسام وبعد نشر الصحف حكايات بعض الأبرياء الذين أمضوا أعواما في السجون بسبب إجبارهم على الاعتراف بارتكاب جرائم لا علاقة لهم بها.
● ●
«الشرطة في خدمة الشعب» لافتة لم تعرفها قرى الخمسينيات والستينيات التي كانت تعيش عصر العمد وشيوخ البلد والخفراء وتفضل حل مشاكلها ومعاقبة مذنبيها ومن يهدد أمنها ومنظومة قيمها بقوانينها الخاصة.
وفد شاهدت في صباي وقائع «تجريس» بعض اللصوص في قريتي, والتجريس فضيحة كبرى تتلخص طقوسه في وضع اللص مقلوبا على ظهر حمار بعد تلطيخ وجهه بالدقيق ووضع طرطور على رأسه ثم التجول به محاطا بالصغار والكبار والذين يزفونه بالطبول والشتائم في شوارع القرية وأزقتها، وكان اللص بعد زفة «التجريس» وعارها يختفي تماما من القرية.
في القرى يتخذون من المثل الشعبي الشائع «الباب اللي تيجي منه الريح سده واستريح» راية لهم ويعتبرون البُعد عن الدولة وأجهزتها غنيمة، ورجل الشرطة هو يد هذه الدولة الباطشة والمستبدة، لذلك كان إبعاده مطلبا أساسيا وهدفا نبيلا يسعون من أجل تحقيقه.
وكان عمدة القرية يهدد رعيته أحيانا باستدعاء رجال الشرطة، الذين لا قلوب لهم من المدينة، إذا تكاسلوا عن تسليم جندي هارب من الخدمة العسكرية أو سجين فار، وكان الخوف من ظهور رجال الشرطة والرغبة في إبعادهم عن القربة تدفع الناس دائما إلى الإبلاغ عن مكان الهارب أو القبض عليه.
وهذا الخوف رسخته عصور القهر والقمع واهدار الكرامة, وبسبب هذا الخوف الهائل من رجال الشرطة والرغبة في اتقاء شرهم سُجن القاص الراحل محمد مستجاب في حقبة الستينيات بعد القبض عليه في القاهرة، لأنه كان- كعادته- يتجول بلا أوراق تثبت هويته. وبعد أن ساقه رجال الشرطة إلى قريته في الصعيد خشي حكماء القرية وكبارها أن يذكروا الحقيقة، خوفا من تحمل القرية مسؤولية جموح مستجاب في المدينة البعيدة, فأنكروا معرفتهم به وانتماءه للقرية وبسبب هذا الإنكار سُجن القاص ستة أشهر في سجن الواحات.
● ●
لا أعرف كيف يُعدون ضباط وجنود الشرطة في بلادنا, وكيف يحولونهم من بشر يعيشون معنا وبيننا إلى كائنات مسكونة بالقسوة والشراسة تستمتع بإيذاء الآخرين وتعذيبهم. ولا أعرف كيف نسوا وظيفة الشرطي ودوره كملاذ للضعيف والمظلوم وصاحب الحق وحولوه إلى غول يخشاه الناس ويتحاشون الاقتراب منه.
ولم يفلح النقد الموجه إلى تجاوزات الأجهزة الأمنية والقضايا المنظورة في المحاكم ضد بعض الضباط وتقارير المنظمات وأجهزة الإعلام، في تغيير سلوك الضباط والجنود وصورهم التي رصدتها أخيرا مجلة «الإكونوميست» البريطانية في تقرير لها جاء فيه: «رغم المحاولات التي تبذل لفرض الانضباط على ضباط البوليس فإنه من المعروف أن الأجهزة الأمنية تمارس عملها دون أن تتعرض تقريبا لأي نوع من الرقابة أو المحاسبة رغم شيوع الاتهامات الموجهة إليها بتعذيب الناس ورغم تدخل المحاكم لكبح جماح وتوحش الأجهزة الأمنية.»
وهذا التوحش مرشح للتصاعد في المستقبل بسبب اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء واستشراء الفساد واليأس والبطالة وانحسار هيبة الدولة واعتياد الناس في المدن والقرى الاحتجاج والاعتصام والتظاهر والاصطدام أحيانا بجنود وضباط الشرطة.
* كاتب وشاعر مصري