«النقد والمجتمع» حوارات ترجمها وحررها فخري صالح
الفكـرة هـي الإنسـان
عناية جابر
الكتــاب: «النقــد والمجتمــع»
الكاتب: حوارات مع: رولان بارت، بول دي مان
جاك دريدا، نورتروب فراي، إدوارد سعيد، جوليا كريستيفــا وتيــري إيجلتــون
الترجمــة والتحريــر: فخــري صالــح
من جديد، تعاود سلسلة «آفاق عالمية»، نشر عدد من المحاورات واللقاءات الفكرية والثقافية مع عدد من أبرز النقاد في العالم الآن، الذين يثبتون بحق ان مسألة النقد موغلة في عمق الفكر او الفلسفة، وطامحة الى كسب أكبر قطاع ممكن من القراء، بواسطة اعتماد تبسيط الوجبة المعرفية والنقدية، ومدى اتساقها مع النصوص الابداعية.
الكاتب فخري صالح، المترجم والمحرر لهذه الحوارات، بلغة هادئة سلسلة وعارفة لمكامن الترجمة، أمانتها وتدويرها ضمن الفكرة نفسها لتقريبها الى القارئ العربي، هدف من اختياره هذه المجموعة من الحوارات، الوقوع على إجابات عن تساؤلات أبرزها: هل يقدم الناقد تنازلا ما، عندما يصبح تنويريا منشغلا بالهم العام؟ وهل يربح النقد من اعتزاله الناس وانسحابه داخل دائرة النص وحده؟.
أسئلة يحتاج اليها الكاتب والقارئ العربي، ووجد فخري صالح لدى نقّاد من وزن دريدا وإدوارد سعيد وبارت وكريستيفا وإيجلتون، أجوبة شافية الى حد، واضحة الى حد، وشخصية بحدود قصوى، متماهية مع طريقة تفكير كل ناقد وباحث وفيلسوف ومفكر، ترجم لهم وحرر أجوبتهم. إذ سوف يتاح لقارئ هذا الكتاب في مجموعة الحوارات التي تضمنها، معرفة طريقة نظر كل ناقد الى الأسئلة القائلة بوجود علاقة اشكالية تربط الممارسة النقدية بالعمليات الاجتماعية، كما الى دور الجــامعة الأساسي في تنمية الممارسة النقدية، والآثار الايجــابية والسلبية للعلاقة التي قامت بين النقد والمؤسسة الأكاديمية بسبب تحـول النقد الى ممارسة اختصاصية داخل أسوار الجامعة.
النقاد الذين اختارهم الكتاب، هم جميعا أشخاص عملوا، وما زال الأحياء منهم يعملون، في التعليم الجامعي، وقد تطور عملهم النقدي داخل أسوار الجامعة، انطلاقا من الأسئلة التي كان يطرحها عليهم وجودهم في الجامعة واضطرارهم لتعليم موضوعات مختلفة فرضتها عليهم برامج تعليم الأدب في المؤسسات الجامعية التي عملوا فيها. ذلك ان النقد، على ما يبدأ فخري صالح مقدمته للكتاب، لا ينمو في الفراغ، بل انه ينمو ويتطور ويصبح فاعلا في حاضنة ثقافية تتيح له ان يؤثر في القراء، وطلبة الجــامعات والمدارس.
واذا كان النقد، كحقل من حقول المعرفة، يجنح الى أن يكون تخصصيا في طبيعة لغته وانشغالاته وطبيعة شريحة القراء الذين يتوجه اليهم، الا أن النقد يظل يطمح، في بعض حالاته، الى أن يكون ذا طابع تنويري تعليمي، يتوجه الى شريحة أوسع من القراء، اذ يتخفف من لغته المعقدة وانشغالاته النخبوية البارزة، مع ان بعض النقاد يرون في تبسيط المعرفة النقدية، تهديدا للطابع التخصصي للنقد، وتقليلا من شأنه كحقل معرفي له مرجعياته المحددة ولغته الاصطلاحية الخاصة به.
انفجار المعنى
رولان بارت، بكتبه التي تزيد عن خمسة عشر كتاباً، المتنوعة والمتميزة مثل: «درجة الصفر للكتابة» و«ميتولوجيات» و«خطاب عاشق» تحوي أيضا تحليلات منهجية للغة الموضة، أو حتى قطعة أدبية مدهشة عن اليابان او امبراطورية العلامات. ان هذه التعددية تتجاوز مجرد المظهر الخارجي، وبدلا من ان يسعى بارت الى بناء نظام من الفكر عمل على شق طريقه بين العديد من حقول المعرفة المختلفة متنقلا بهدوء من نظرية الى أخرى.
يشجب بارت القمع اللغوي ويحتفل بالامكانيات الاستثنائية لابتهاج المعـــنى وانفجــاره اللذين توفرهما فعـــالية الأدب كما قدمه وأجرى الحوار معه بيـــار بونسين قبـــل وفـــاة بارت عام 1980 بفترة زمنية قصيرة.
يتألف معظم نتاج الناقد الأميركي بول دي مان، من مقالات مطولة كتبها حول موضوعات متنوعة في الأدب والفلسفة واللسانيات. من الصعب تلخيص عمل مان لأنه مكرس لإثبات أن نقل الحقيقة عبر اللغة، هو جهد بلا طائل وأمر مستحيل في النهاية. دي مان مُعاد لكل أنواع التاريخية والتحقيب، ومن هنا فانه يعد مصطلحات مثل الرومانتيكية والكلاسيكية تعبيراً عن الحنين الى الحقب الماضية لأن مصطلحات مثل هذه بعيدة كل البعد عن التاريخ الفعلي للأشياء، فهي صور بلاغية ـ برأيه ـ وحكايات وتلفيقات خيالية. بهذا المعنى شكك دي مان في التاريخ، بما في ذلك التاريخ الأدبي، وطالب بإعادة قراءته من جديد، بحسب محاوره ستيفانو روسو.
جاك دريدا يقرأ تاريخ الفلسفة بوصفه علم أنساب المراكز التي تعمل على إحداث التوازن والاستـــقرار في البنية او المدلولات الاعلانية، ويطـــلق على هذا التاريخ وصف «ميتافيزيقا الحضـــور» او «مركزية الكلمة». مع دريـــدا، ثمة نوع من أنواع الكتابة بالطريقة نفســها التي يُصبح فيها المدلول دالاً آخر في اللحظة التي نحول وجـــوهنا عنه. ان سحر نصوص دريدا هو الى حد كبــير، نتيـــجة لحقيقة انه هو نفسه نتاج للتقــليد، الفلسفي، الاستدلالي، التحليلي، الذي يعد عمله نقداً شديد القوة له، على مـا قدمه محاوره إمري سالوسينزكي.
إمري سالوسينزكي نفسه، قدم وأجرى حواراً مع ادوارد سعيد واصفاً عمله بـ «النقد التطبيقي» بصيغته الجديدة القوية المضادة. صوت ادوارد سعيد مع ذلك، صوت متشكك داخل النظرية الأدبية، مذكرا إياها دائما كم أن استراتيجيتها المعتادة المألوفة غير عملية، لأنها تفـــصل الأدب والنقد عن الممارسات الاجتماعية الأكثـــر شمولا. يكــتب سعيد مناهضاً الصيغ النقـــدية التي تنزع، كالتفكيكية الى استبدال الوعي النقدي او المعارض، بالوعي النظري الخالص.
يوحي سعيد، ان ميشال فوكو من بين جميع المفكرين الفرنسيين، هو الذي مارس تأثيرا كبيرا عليه، وخطابه لا يتقدم في مراحل غير متصلة بأفعال جذرية بطولية، بل انه يتشكل من حركات استطرادية كبيرة مغفلة الاسم، وظيفتها ذات طابع محــافظ بصورة أساسية. ان التحليل النفسي ليس اكتشــافا للجنسية ووصفا لها عند سعيد، بل هو انتاجها وتحــويلها. ومن ثم فان الاستشــراق «البحثي» او ذلك الحـــقل الذي يفترض ان يأخذ مسافة من موضوعه يصبح استشراقا فعليا.
من وجهة نظر سعيد، فكرة النصية الخالصة قادت النقد القهقرى، باتجاه غامض ومتعال وديني. سعيد مناوئ لتدين المثقف، وكذلك للتدين في الحياة السياسية، ويقترح بديلاً بحسب إيمري، «نقدا دنيويا». هذا النقد الدنيوي يهدف الى الوصول الى إحساس مرهف بما تستلزمه قراءة أي نص وانتاجه وبثه من قيم سياسية واجتماعية وإنسانية.
نظام النص
سوزان سوليرز حاورت جوليا كريستيفا المولودة في بلغاريا، والمهاجرة الى فرنسا لتصبح واحدة من أهم النقاد وفلاسفة ما بعد الحداثة في فرنسا والعالم. فخري صالح المترجم قدمها واجداً في أعمالها تأثيرات عالم النفس الفرنسي جاك لا كان، والناقد وعالم السيميولوجيا الفرنسي رولان بارت والفيلسوف الفرنسي أيضا جاك دريدا. كريستيفا خليط من هؤلاء لكن خلفيتها السلافية جعلتها في الوقت نفسه أهم معلق في الثقافة الفرنسية على عمل كل من العالم اللغوي الروسي رومان ياكوبسون، والفيلسوف وعالم الجمال الروسي ميخائيل باختين. في عـــمل كريستيفا التأثير الواضح لجاك لاكان، واستكشـــافات فرديناند دوسوسير في علم اللـــغة، وان أضافت هي تعديلات في فهمها لعمــلية اللغة.
يبقى الناقد نورتروب فراي المولود في كيبك ـ كندا، وكتابة الأول كان «التناسق المخيف: دراسة لويليام بليك» يرى فيه ان على النقيض من ادعاءات: ت. أس. إليوث ممن وجدوا رؤيا بليك مشوشة، فهو شيّد نظاما وبنية صارمين للرموز في أعماله الشعرية التي توفر مدخلا لدراسة بنية الأدب بوصفه: «دراسة أيقونية الخيال».
منذ كتابه «تشريح النقد» تحرك عمل فراي في ثلاثة اتجاهات أســـاسية: تطبيق تقنياته في النقد الأسطوري، مد أفكاره وتوسيعها لتشمل التحــليل الاجتماعي الانساني، والاتجاه الثالث الأكثر حداثة هو اعادة فحص الانجيل بوصفه «الموسوعة» العظيمة او مخزن الأساطير الخيالية الغربية.
«النــقد والمجتمع» كتاب قيّم، إزاء ما يجري عندنا، من اغـــتراب عن روح المعــرفة المعاصرة، إزاء اشــكاليات وأسئلة تتعلق بالبعد التنويري للمعرفة النقدية.