هل ولّى زمن الإعلام المكتوب؟
خضر سلامة
أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي، أعلنت صحيفة «نيويورك صن»، اليمينية المتطرفة، التوقف عن الصدور بسبب افتقارها إلى أيّ تمويل كافٍ لسدّ النفقات. وهذه هي إشارة جديدة إلى أزمة متنامية لقطاع الإعلام المكتوب، تتنقَّل بين صحف اليمين واليسار على حدّ سواء، في عصرٍ بات فيه الإنترنت يفرض سطوته، مع المواقع الإخبارية المجانية والمدوّنات الشخصية وغيرها.
وحسب تقرير صادر عن إدارة تطوير الميديا الفرنسية (DDM) الشهر الماضي، فإن المؤشرات التجارية للإعلام المكتوب لم تشهد أي تطور ملحوظ عام 2007. وعلى الرغم من التوقّعات بحتمية استفادة المطبوعات الإخبارية من الانتخابات الرئاسية حينها، لم تتجاوز نسبة ارتفاع المؤشر الـ0.4 في المئة، بقيمة تجارية قدّرتها الدراسة بـ10.7 مليار يورو. واللافت أن الإحصائيات أظهرت ارتفاع عدد المبيعات بنسبة (1.7 في المئة) وارتفاع نسبة الاشتراكات أيضاً (1.8 في المئة). إلا أن التراجع المؤثر في الميزانيات المعتمدة، شهده قطاع الإعلانات في حقل الصحافة، وهو القطاع الأهم تمويلياً. وقد تراجع بنسبة 1،3 في المئة، ليقف عند حاجز 4.15 مليارات يورو.
الوضع العام في الإعلام المكتوب، حسب DDM، هو حصيلة تراكم انهيار قدرة المبيعات على تعويض التراجع في الإعلانات منذ عام 1999. تراجعٌ كان نتيجةً لجذب الإنترنت للاستثمارات الإعلانية. وهذا ما يظهر جلياً في المقارنة بين النتائج التجارية للمطبوعات الإخبارية (الأقل تأثراً)، والمطبوعات الإعلانية أو التسويقية (الأكثر تضرراً) التي تعتمد بكامل مردودها على الإعلانات.
وكانت صحيفة L’humanité الشيوعية الفرنسية قد تعرضت لأزمة خانقة أخيراً، فعمدت عندها إلى جمع مليون يورو من تبرعات قرّائها للخروج من الأزمة موقتاً. وأزمة L’Humanité لم تكن فريدةً من نوعها في فرنسا، فقد سبقتها صحيفة «لو موند» هذا العام إلى الوقوع في مثل هذا الاختناق المالي، حين شهدت في نيسان (أبريل) الماضي أول إضراب للعاملين في هذه المطبوعة منذ عام 1976. تبعه لاحقاً إضرابان آخران، احتجاجاً على قيام الإدارة بإلغاء 130 وظيفة للحد من الخسائر (ربع الوظائف في الصحيفة!). وفي «لو فيغارو»، أضرب الموظفون احتجاجاً على إلغاء أكثر من 50 وظيفة لتقليص النفقات، في ظل تدهور الأوضاع المالية للصحف الفرنسية التاريخية، وهزيمتها في منافسة الصحف المجانية والمحلية من جهة، وعالم الإنترنت ــ المعلومة من جهة أخرى. وفي الولايات المتحدة أيضاً، أعلنت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إلغاء 500 وظيفة، بينها وظائف 50 صحافياً عاملاً في غرفة الأخبار. أما «لوس أنجلس تايمز»، فألغت العام الماضي 150 وظيفة لديها، بعد تراجع عائداتها.
وفي تقرير للرابطة العالمية للصحف، أشار إلى أن الدول المتقدمة تشهد منذ مطلع القرن انخفاضاً في اقتصاد الإعلام المكتوب. وقد انخفض مثلاً عدد نسخ الصحف الموزّعة في أوروبا خلال ثلاث سنوات من أكثر من 80 مليون نسخة يومياً، إلى أقل من 76 مليون نسخة. وفي اليابان، انخفضت نسبة مبيعات الصحف في خمس سنوات 2.6 في المئة، وفي الولايات المتحدة 1.42 في المئة. وهذا يكفي لإسقاط التطوّرات العالمية اقتصادياً على الحركة في قطاع الإعلام المكتوب الذي يتأثر بالخضّات في الأسواق وبغلاء الأسعار، وبنمو الإنترنت، وبتجاذبات قطاع الإعلان.
وكان المفكر الأميركي نعوم تشاومسكي قد طرح سابقاً في مقابلة له مع «كورب ووتش»، سؤالاً جدياً عما تطلبه الصحافة العالمية في القرن الواحد والعشرين: هل تريد قرّاءً أم مستهلكين؟ غامزاً من قناة تحوّل الصحف العالمية إلى ملعب مصالح مالية وارتباطات إعلانية وسياسية، يضاف إلى ذلك فقدانها للمادة النضالية أو القضايا التي كانت تزخر بها في خمسينات القرن الماضي، واعتمادها على المواد الاستهلاكية التي تناسب الانفتاح الأخلاقي والتفلّت العقائدي في العالم.
كذلك، لم يكن الإمبراطور الإعلامي روبرت مردوخ بعيداً عن هذه النقاشات، حين توقّع أن «عمر الصحافة المكتوبة الباقي لن يتجاوز الأربعين عاماً المقبلة»، موافقاً هنا على كتاب نشره فيليب ماير بعنوان «الصحافة المتلاشية، الحفاظ على الصحافة في عصر المعلومة»، وتوقع فيه ماير تلاشي الصحافة المكتوبة بحلول عام 2040.
كلّ ذلك، يفتح الباب أمام التساؤل عن مستقبل الإعلام المكتوب أمام التحديات التي يواجهها اليوم، والتي تحصر الحلول بالتوجّه إلى مصادر تمويلية رسمية، أو من شركات، وهي حلولٌ ثمنها غالباً مصادرة الاستقلالية في الرأي وفي الشفافية والحياد. والأهم، كيف يعيش لبنان هذه الأزمة، في ظلّ غياب إحصائيات دقيقة عن الأرقام الصحيحة لمبيعات الصحف اليومية؟.