صفحات ثقافية

شـاعرات عربيـات فـي دمـشق: الشــعر ينافــس الأنوثــة

null
ملتقى «48 ساعة شعر»… «حباً بالمذكر واختيالاً بالأنثى»… شاعرات عربيات في دمشق بأصواتهن المختلفة
دمشق – ابراهيم حاج عبدي
أمسيتان شعريتان في ليلتين، أحيتهما اثنتا عشرة شاعرة قدمن إلى دمشق من بلدان عربية مختلفة ليعلنّ انطلاقة تظاهرة ثقافية شاء منظموها أن يسموها ملتقى «48 ساعة شعر» على أمل أن يتحول تقليداً سنوياً بعيداً من الطابع الرسمي، الدعائي، وقريباً من نبض الثقافة المحلقة خارج المنابر المكرّسة، والملتصقة بالحياة العارية بكل صخبها وهمومها وأسئلتها. «قلتُ سأجرح هذا الصمت بقليل من الشعر. طيَّرتُ ما أملك من عتاد، ريشة… فكرة! فنفخ عليها الأصدقاء، لتعلو… لتعلو»، هكذا تفصح الشاعرة السورية هالا محمد عن كيفية ولادة هذا المشروع الثقافي الطموح الذي احتفى بقصيدة النثر المكتوبة تحديداً بقلم الأنثى.
وحين نقول «قلم الأنثى» فان ذلك يفتح الباب واسعاً أمام سجالات حادة شهدتها الساحة الثقافية العربية، لكن الملتقى لم يخض في الجدل الدائر حول الكتابة النسائية، والفروق بين هذه الكتابة وتلك التي يكتبها الرجل، ولم يثر في الأمسيتين أي حديث يشير إلى بحث الأنثى عن مشروعية لها، ولكتابتها، ضمن «الثقافة الذكورية الطاغية»، بل، على العكس، جاء الاختيار «حباً بالمذكر واختيالاً بالأنثى» كما عبرت هالا محمد، ومثل هذا التعبير «المهذّب والمهادن» لا يهدف إلى تكريس تلك المقولات النمطية في شأن الكتابة النسائية بقدر ما يطمح إلى «إلغاء مفهوم النسوية الضيق الذي يقدم المرأة ككائن يرفض «نسويته الناقصة» لكي يقتدي بالند الضد الكامل؛ الرجل». ثمة نقاد كثر قاربوا هذه الإشكالية لعل أبرزهم الناقد السعودي عبد الله الغذامي، والمفكر السوري جورج طرابيشي وسواهما، وبمعزل عما قيل وكتب في هذا السياق، فان ما حاول الملتقى توضيحه هو الإشارة إلى أن «الحالة الطبيعية هي التي تعيش فيها المرأة أنوثتها بحرية وثقة» ليس فقط في الحياة بل كذلك في الكتابة، وان تكون شريكاً للرجل لا خصماً له.
ولعل الشاعرات، المنتميات إلى أجيال شعرية مختلفة، ويمتلكن تجارب شعرية متباينة، ويعشن في جغرافيات متباعدة في العالم العربي، اللواتي جئن كي يعشن الشعر في كل لحظة على مدى الـ 48 ساعة من فعاليات الملتقى، عبرن عن هذا المنحى، المنحى الذي يؤكد بان جنس الكاتب، سواء كان ذكراً أم أنثى، لا يشكل معياراً لجودة النص.
ولئن سلمنا بذلك، فيمكن القول، عندئذ، بأن الشعر رقيق، ولطيف، وعذب في طبيعته، وتلك صفات تليق بالأنثى التي ستسربها، لدى الشروع في التدوين، إلى قصيدتها! لكن الأكيد أن ثمة معايير نقدية كثيرة لتقويم النص الإبداعي ليس بينها، بأي حال، معيار جنس الكاتب، وإذا كانت الناقدة البريطانية فرجينيا وولف قد طالبت، قبل نحو قرن، بـ «غرفة خاصة بالمرء وحده»، ورأت أن اتساع رقعة التجربة يؤثر في طرائق الكتابة ومضامينها، وهي هنا كانت تلمح إلى ضآلة تجربة المرأة المبدعة في الحياة قياساً إلى التجربة الواسعة للرجل المبدع، فيبدو أن الأحوال قد تغيرت مع مطلع الألفية الثالثة، بدليل أن الشاعرات المشاركات في هذا الملتقى حصلن في غالبيتهن على أعلى الشهادات من جامعات غربية، وبينهن من نهض بمشاريع ثقافية مثل السورية لينا الطيبي، وأخريات أنجزن أفلاماً سينمائية، وعملن في مجال الإعلام والتلفزة مثل البحرينية بروين حبيب التي تعمل في قناة «دبي»، وهالا محمد التي درست السينما في باريس وحققت أفلاماً لقناة «الجزيرة»، وكذلك الشاعرة الإماراتية نجوم الغانم التي درست السينما والتلفزيون في استراليا والولايات المتحدة الأميركية، والشاعرة السعودية أشجان الهندي الحائزة على الدكتوراه من جامعة لندن، والمغربية وفاء العمراني التي تعمل مستشارة ثقافية في سفارة بلادها في دمشق، وقد أصدرت دار «الأوس»، التي رعت هذا الملتقى، كتاباً يضم السير الذاتية للشاعرات المشاركات مع مختارات من قصائدهن.
تداخلت أصوات الشاعرات، وتزاحمت في فضاء «دار الفنون – تياترو» وسط دمشق، في طقس حظي باهتمام المشرفين، فبدا وكأنه عرض مسرحي تضافرت عناصره ومفرداته لتنتصر للشعر: لوحات تشكيلية مضاءة في عمق الخشبة، أنامل العازفة رهف شيخاني تتراقص على آلة الهارب لتواكب بعزفها إيقاع القصائد، إضاءة الفنان عبد المنعم عمايري تصوغ حواراً أليفاً بين العتمة والنور… منصة خالية من الصور والخطابات والشعارات تستقبل الشاعرات، اللواتي قدمهن للجمهور الفنان غسان مسعود والفنانة أمل عرفة، بلا بهرجة زائدة، وكأن ثمة تحالفاً خفياً ربط بين الجميع، ضيوفاً ومنظمين، وجمهور، يقول إن الشعر وحده كفيل بأن يصنع ربيعاً في خريف المدينة المختارة عاصمة للثقافة العربية في السنة الجارية، وقد خلا الملتقى من أية إشارة إلى هذه المناسبة.
هل يمكن أن نتبين قواسم مشتركة بين اثنتي عشرة شاعرة قادمة من مرجعيات وأجيال مختلفة، ولها اهتمامات ورؤى وأساليب متنوعة؟ بعض هذه الأصوات حقق حضوراً واسعاً على المستوى العربي، وربما العالمي من خلال الترجمة، وبعضها «طازج جديد»، وعلى رغم هذه التباينات، والتمايزات، فإن الملاحظة الأبرز تمثلت في الابتعاد عن القضايا الكبرى المثارة في العالم العربي، فالشاعرات المشاركات نأين بقصائدهن عن الحروب والصراعات والنزاعات المحتدمة في المنطقة (ما عدا العراقية داليا رياض)، ورحن يصغين إلى صوت أوجاعهن الصغيرة، وهمومهن اليومية، وأحلامهن المؤجلة… قصيدة نثر مغلفة بقليل من الغموض، عابقة بالأمل، تلوذ بها الأنثى الشاعرة كي تجهر بالمسكوت عنه، وتعبر عن غليان روحها وانفعالاتها على الصفحة البيضاء. فالمرأة، ومهما حققت من حضور، ونالت من امتيازات، تظل متوجسة من الحديث الصريح أمام الأهل والأصدقاء، فتلجأ، آنئذ، إلى بلاغة الشعر، وتحتمي ببيوت من ورق وكلمات تودعها الأسرار والأماني.
أصوات شعرية خافتة تسرد، بنبرة رومنطيقة، قصص الحب والحنين واللوعة والفراق والفرح والانكسار والحيرة والقلق… وتبوح بمكنونات الأنثى على نحو جريء حيناً (اللبنانية لوركا سبيتي)، وتارة في شكل موارب؛ غامض (البحرينية بروين حبيب مثلاً)، وفي تارة ثالثة تأتي القصيدة شفافة؛ تهفو كالفراشة، إلى معانقة الضوء (السعودية أشجان الهندي، والسورية لينا الطيبي). إلى جانب ذلك حضرت أصوات سعت إلى التقاط اليومي والعابر عبر التكثيف والإيجاز، فتحولت ألفة اللحظات ورتابتها إلى قصيدة تختزل رحابة الحياة في جملة قصيرة؛ دالة (السورية هالا محمد، والمصرية فاطمة قنديل)، وثمة قصائد متواضعة لا تستحق وضعها في خانة القصيدة، فقد جاءت اقرب إلى «الخاطرة الأدبية»، أو إلى رسالة عشق مرتبكة الى حبيب غائب…
الحياة     – 13/10/08
شاعرات عربيات في دمشق: «حُبّاً بالمذكّر واختيالاً بالأنثى»
خليل صويلح
تحت عنوان «48 ساعة شعر»، استضاف فضاء «تياترو» ملتقى «شاعرات عربيات في دمشق» (10 ـ 11تشرين الأول/ أكتوبر)، وقد بدت مقاصد الملتقى الذي أقامته «دار الأوس للنشر» ملتبسة لجهة تخصيصه دورته الأولى «للشاعرات فقط». كأن هذا التصنيف خارج زمانه في بلد غادة السمّان، وسنية صالح، وعائشة أرناؤوط، ودعد حداد، ومرام المصري. وتبرر مديرة الملتقى، الشاعرة هالا محمد، هذا الخيار بالانسياق وراء فكرة شديدة الغواية تتعلق «بوعي الأنوثة في مجتمع كرّس ثقافة الاستبداد والجهل والتخلف». وبعبارة مجازية أخرى تضيف: «حُبّاً بالمذكّر واختيالاً بالأنثى».
في الواقع، فإن الشاعرات الـ 12 المشاركات نبذن هذه الفكرة في نصوصهن وعناوين دواوينهن: «رجولتك الخائفة طفولتي الورقية»، «أنت لي الآن»، «تحرّر»، «هيأت لك»… وإذا بطيف الرجل يحوم بين السطور، ويبرز بعنف كملاذ وحلم وخريطة طريق. هكذا، لم يكن مستغرباً أن تقول بانة بيضون ببساطة واعتيادية: «من المحزن أن يتحوّل الشغف إلى حنين. أن تصبح ضمير الغائب»، أو أن تعترف سمر عبد الجابر بقولها: «كثيف صداعي هذا المساء، كثيف كحضورك. كثيف جداً هذا المساء ولا يبدو أنّك سترحل». أما لوركا سبيتي فتهتف: «سيقتلني رجل واحد لم يخلقه إله».
تتفاوت تجارب أولئك الشاعرات في فهم جوهر قصيدة النثر التي يكتبنها جميعاً، ففيما تطغى الغنائية على قصائد نجوم الغانم «الإمارات» في وصف وحدتها ومحاولتها الفرار من جحيم العزلة بحثاً عن منفذٍ للحب «المخبأ تحت قميصها». تقع بروين حبيب (البحرين)، تحت وطأة الأسى والهجران، و«تصبح كتابتي كأساً فارغة في خزانة اللغة». أما أشجان الهندي (السعودية) فقد استعارت نبرة ذكورية ورائحة فحولة في استنطاق مكنوناتها، وإذا بقصائدها تطفح بالسيوف والتروس وماء عبس، وتفتتح إحدى قصائدها بالقول: «عندما شدّوا الرحالا» لتصل القصيدة لدى بعضهن إلى حدود البوح الذاتي والكلام ما تحت الشعري. وإذا كانت فاطمة قنديل (مصر) تشتغل في منطقة التفاصيل الحميمة جرياً على منجز حقبة الثمانينيات التي أغلقت تخومها على التماثل، فإن جيلاً جديداً يدير ظهره تماماً لما هو مألوف ومكرر، ليبتعد في المسافة إلى مناطق شعرية نائمة، وإيقاظها بعناصر مبتكرة تستفيد على نحو صريح من تحولات المشهد بمعناه البصري في المقام الأول. هكذا تتوغل تجارب نوال العلي (الأردن) وداليا رياض (العراق) وسمر عبد الجابر (فلسطين) وبانة بيضون (لبنان) في مناطق سردية تطيح تقليدية قصيدة النثر وركامها نحو مشهدية عالية، تمزج ببراعة بين مسرحة القصيدة واشتباكها مع اللحظة الراهنة بكل تشظياتها وعناصرها المهملة والسرّية وسحبها إلى بساط آخر، لعل السرد هو محركه الإيقاعي. تقول سمر عبد الجابر: «ثمة حياة في الأشياء المكسورة أحياناً كما الخزانة التي فقدت بابها من فرط ما تأرجح»، فيما تغامر نوال العلي في اختبار لغة سرديّة وحشية في اللعب على مفردات الضجر والفقدان والوهم بخفة الكائن الجوّال والعابر من دون يقين «ليس لك يد فألمسها، ولا حضن فأجلس فيه، ولا حضور فأملأه، ولا غياب فأحفظه. ليس لي إلا أن أغفو، أراك تتنهد ولا يمكنني سماعك». أما داليا رياض فتشتبك مع المنفى من موقعٍ مغاير. الوطن بالنسبة إليها مجرد ورم خبيث، بينما ينشب شجار بين زجاج النوافذ والقنابل، ويصير الوطن في نهاية المطاف، قارّة من الألم، واسماً مستعاراً ومسروقاً. لينا الطيبي لم تغادر منطقتها الأثيرة في ما أنجزته في حقبة سابقة لجهة اقتفاء أثر ذات محزونة وعزلاء، على حافة الانهيار «لو أن طائراً يخفق الآن، في هذه الغرفة، لو أن كأساً ينكسر». من جهتها تؤسس هالا محمد للضربات القصيرة في اقتناص لحظة هاربة محمّلة أسئلة وعلامات استفهام على حبال الزمن الضائع: «خائفة حيث لا أثر لي، أرجوك ناولني بعض الأغراض المبعثرة بقربك. فقط لأبعثرها بقربي».
شـاعرات عربيـات فـي دمـشق: الشــعر ينافــس الأنوثــة
راشد عيسى
جوبه »ملتقى شاعرات عربيات، ٤٨ ساعة شعر«، الذي أقيم في دمشق أخيراً بتدبير من الشاعرة السورية هالا محمد ومديرة دار الفنون رحاب ناصر، باعتراضات هامسة شتى، أبرزها نظرَ إلى الملتقى كنوع من (حَرَمْلِك) شعري، وقد زاد من حدة هذه النظرة أن كثيراً من الأصوات المشاركة كانت تفتقر إلى نضج في التجربة الشعرية، وتراوحت بين بلاغة منبرية، كما لدى السعودية أشجان الهندي، وبلاغة حسيّة ألهبت مخيلة المتفرجين (بالمعنى الحرفي لكلمة المتفرجين)، كما لدى اللبنانية لوركا سبيتي، وقد بدا ال CV المرافق لقصائدها فاتناً هو الآخر (والذي يقول إنها تنقلت بين التربية البدنية والرقص والفلسفة، والشعر طبعاً). الانتقاد الآخر، وهو يرافق كل نوع من هذه الفعاليات بشكل دائم، يتعلق بالتمثيل؛ من يمثل هذا القطر أو ذاك شعرياً، كما لو كان الملتقى الشعري نوعاً من جامعة دول عربية. لكن الملتقى نجا بجلده بنزع أل التعريف من اسمه، فظلت الشاعرات »شاعرات عربيات« وحسب، من دون أي ادعاء آخر.
اكتشاف الملتقى
من الواضح أن الملتقى لم يراسل وزارات الثقافة العربية، ولذلك جاءت الشاعرات غير رسميات، وهذه هي ميزة الملتقيات الخاصة المستقلة التي تبحث في ما وراء الرسمي والمكرس، الاختيار جاء نتيجة جهود خاصة وذائقة شخصية (أو أكثر) اختارت لينا الطيبي (سورية)، نجوم الغانم (الإمارات)، داليا رياض (العراق)، بانة بيضون (لبنان)، نوال العلي (الأردن)، أشجان الهندي (السعودية)، وفاء العمراني (المغرب)، فاطمة قنديل (مصر)، سمر عبد الجابر (فلسطين)، لوركا سبيتي (لبنان)، بروين حبيب (البحرين)، وهالا محمد (سورية). تقول هالا محمد: »كانت الرغبة في أن نأتي بشاعرات وأسماء جديدة غير مكرسة. كان واحداً من هموم الملتقى أن يعطي فرصة القراءة لأصوات لم تطل على الجمهور من قبل، هكذا اختيرت سمر عبد الجابر، التي تقف لأول مرة في حياتها على المنبر، وبانة بيضون التي تأتي إلى سورية للمرة الأولى. كنا نطمح أيضاً إلى وقوف أجيال بعضها إلى جانب البعض الآخر، كما وقفت نجوم الغانم إلى جانب سمر عبد الجابر«.
اللافت، بل المدهش في الملتقى جاء بالضبط من الأصوات الجديدة. نعرف أن كثيراً من الكتابة ليس للمنبر، والمنبر قد يضفي حُسناً لا نجده في الكتابة، أو يخرّب ما هو حَسن. الأصوات الأبعد، الهامشية كانت الأكثر حظوة بالإعجاب: داليا رياض، بانة بيضون، سمر عبد الجابر، ونوال العلي. وسوى الأخيرة، التي أطلت بثقة وخبرة واضحة مع المنبر، وقارب أداؤها شكلاً مسرحياً أكثر من كونه مجرد إلقاء، فإن الثلاثة الأخريات كان لهن إطلالة مرتبكة، خجولة، إطلالة أنثوية بحق، ولكنها إطلالة شعر قبل كل شيء، والعودة إلى الديوان الذي أصدرته »دار الأوس«، راعية الفعالية، وجمع بعضاً من قصائد الشاعرات، تؤكد ولا تنقص من مواهبهن. ذلك لا ينتقص طبعاً من تجارب معروفة كتجربة المصرية فاطمة قنديل والسورية هالا محمد، لكنّا نحسب أن الشابات الثلاث هن إنجاز الملتقى واكتشافه.
لمسة إخراجية
من يزعل إذاً حين يفتح شباك، نطلّ منه (لا نتلصص) على أشعار (لا أسرار) النساء؟ في ملتقى يضيف لمسة إلى المشهد الثقافي في سورية، وربما في الوطن العربي مستقبلاً؟ إن التفاف الجمهور حول الملتقى، وقد كان جمهوراً نوعياً بالفعل، يؤكد هذه اللمسة التي يحتاج إليها المشهد. مع إعداد متقن للفعالية التي حظيت ببيت شاميّ قديم جميل يحتضنها، وبعازفة هارب (رهف شيخاني) زاد حضوره (الهارب) وحضورها من حلاوة الأمسيات، إلى إخراج وطقس إضاءة لطيف (صممها المخرج عبد المنعم عمايري).
يبقى أن عنوان الـ»٤٨ ساعة شعر« ظل ناقصاً، بالنسبة إلى الجمهور على الأقل، الذي كان من المفيد أن يستفيد على هامش الأمسيات، من ندوات ونقاشات حول الشعر والقصائد المشاركة وغيرها. ومفيد أيضا إلقاء نظرة على المشهد الشعري في سورية، وقد رحنا نتذكر بالفعل أصواتاً شعرية عديدة في سورية كان يمكن أن يكون لها حصة موازية في مشهد الشعر. سوى أن إذاعة »شام MF « النشطة ساهمت في الحدث على طريقتها، وملأت فراغاً في الـ »٤٨ ساعة« حين سجلت وبثت لكل شاعرة قصيدة.
(دمشق)

’48 ساعة شعر’ وملتقى شاعرات عربيات في دمشق: الشاعرات الأحدث تجربة كن الأكثر اثارة للاهتمام!
أنور بدر
دمشق ـ ‘القدس العربي’ ‘ قلت… سأجرح هذا الصمت بقليل من الشعر، طيرت ما أملك من عتادٍ، ريشة… فكرة، فنفخ عليها الأصدقاء لتعلو… لتعلو… لتعلو…’ بهذه العبارة قدمت الشاعرة السورية هالة محمد لملتقى ’48 ساعة شعر’، والذي جمع شاعرات عربيات في ‘ تياترو- دار الفنون’ عبر أمسيتين، امتدت كل منهما لساعتين.
قد لا نختلف على جمالية الفكرة وأهميتها، رغم سؤال يصدمك هنا وآخر هناك، لماذا كانت (12) شاعرة عربية فقط في هذا الملتقى؟ لماذا اقتصر الملتقى على الشاعرات دون الشعراء؟ أهمية التمويل والرعاية الكفيلة بإنجاح هكذا ملتقى؟ مع أن هذه النقطة الأخيرة تفتح باستمرار على مواجع الثقافة العربية، التي تبحث عن راعٍ لنشاطاتها، وقلما تجده، لكنها حين تجد هذا الراعي تًُثار أسئلة أخرى حول الراعي والرعاية، هو وجعنا الذي لا ينفك يحاصر المثقفين في ظل غياب المؤسسة الرسمية عن رعاية النشاطات الثقافية، مع أن دمشق هذا العام عاصمة للثقافة العربية، لكن الأمانة العامة للاحتفالية ومنذ قرار تشكيلها مطلع العام المنصرم ما زالت تهجس باهتمامات أخرى.
هالة محمد في تقديمها قاربت الكثير من الأسئلة التي تراودنا، أعلنت أن دار ‘الأوس للنشر’ لصاحبها الفنان التشكيلي ياسر حمود هي الراعي الحصري للملتقى، إذ تبنت الفكرة من ألفها إلى يائها، وهذا يعني أرقاماً خيالية بالنسبة للمواطن السوري، خاصة إذا علمنا أن ضيفات الملتقى نزلن في فندق ‘الآرت هاوس’.
إضافة لهذا الراعي الحصري، أعلنت الشاعرة محمد أسماء العديد من الفنانين والمثقفين الذين ساهموا بإنجاح الملتقى، الفنان التشكيلي أحمد معلا: مصمم البوستر وغلاف الكتاب الذي طبعته دار الأوس ووزعته مجاناً، النجمة أمل عرفة والفنان غسان مسعود اللذين توليا تقديم الشاعرات في الأمسيتين، ‘ دار الفنون’ ومديرتها رحاب ناصر التي قدمت مع المديرة الفنية للدار الفنانة مي سكاف صالة ‘ تياترو’ لإقامة الملتقى، كما شاركت عازفة الهارب رهف شيخاني في ارتجال موسيقيّ مرافقة لأجواء القصائد، وعدد كبير من الفنانين والشعراء ساهموا في إنجاح هذا الملتقى.
أما عن غواية تخصيص الملتقى للشاعرات العربيات فتضيف هالة محمد ‘شاعرات كتبن ويكتبن قصيدة النثر، شاعرات فقط، حباً بالمذكر… واختيالاً بالأنثى’ مع التأكيد على رفض مفهوم النسوية الضيق في الأدب… شاعرات امتلكن فرادة الرؤيا والأسلوب رغم تباين الأجيال ومساحة التجربة لكل منهن.
المسألة التي أعلنها الملتقى هي انحيازه المطلق إلى قصيدة النثر ‘قصيدة النثر لا تعتدي ولا تدّعي!… هي إيقاع التغيير الدائم، المرادف ربما في الحياة، لحلم الشعوب بالتطور… تجرح مخمل الضوء المستقر عصراً في شوارع المدن الآمنة، ولا تكرس المكرس وتقدسه على حساب الطزاجة والتجربة، طزاجة اليوم هي رصيد الآتي في التجربة، … التي لا تؤسس لسلطة ثقافية، بل تثور عليها’. ربما يفسر القول السابق تلك الحالة الملتبسة في واقعنا بين السلطة الثقافية وقصيدة النثر، بل ويبين كل أشكال الثقافة المعاصرة، حيث يؤكد الملتقى الشعري بأنه ‘ملتقى مستقل في دمشق، ملتقى سنوي يبدأ ليستمر! نفتش للشعر ولنا عن مساحات حرة في إيقاع المدينة، ليست مناسبةً وليست مهرجاناً، هي تأسيس لحالة شعرية!! إن استطعنا إليها سبيلاً’.
شاركت في هذا الملتقى الشاعرات : نجوم الغانم من الإمارات، بروين حبيب من البحرين، داليا رياض من العراق، وفاء العمراني من المغرب، أشجان الهندي من السعودية، فاطمة قنديل من مصر، بانة بيضون ولوركا سبيتي من لبنان، نوال العلي من الأردن، سمر عبد الجابر من فلسطين، ولينا الطيبي وهالة محمد من سورية. فهل حققن الحالة الشعرية التي يصبو إليها الملتقى؟.
لا بد من الاعتراف أولاً بتباين سويات المشاركة، واعتقد أن هذا شيء طبيعي في أي ملتقى إبداعي، لكننا إذ نلاحظ أن سورية ولبنان حظيت كل منهما بمشاركتين مقابل مشاركة واحدة لباقي الدول العربية، فإننا نتساءل عن غياب أسماء مهمة في الحالة الشعرية التي تتقاطع مع أهداف الملتقى وتوجهاته، وأنا أسجل هنا بعضاً مما أثير بين الحضور من علامات استفهام لا أكثر.
ولكننا كي نذهب مع السؤال لنهاياته، نستحضر مقارنة عجلى بين مهرجان قصيدة النثر الذي يقام للعام الثاني أو الثالث في المركز الثقافي الروسي بدمشق، وبين ملتقى 48′ ساعة شعر’، حيث يحتفي الاثنان بقصيدة النثر، فنلاحظ أن المهرجان الأول يستجدي الأسماء المحلية التي تكتب قصيدة النثر، حتى أن الكثيرين ممن عُمدوا كشعراء لقصيدة النثر في سورية يقاطعون هذا المهرجان، مشاركة ومتابعة وحضوراً، بمن فيهم المشاركات في ملتقى ’48 ساعة شعر’، بالطبع نحن هنا لا نتحدث عن المشاركة العربية، إذ أن مهرجان قصيدة النثر لا يملك من التمويل إلا قاعة المركز الثقافي الروسي، والتي قد لا يرغب بارتيادها كثيرون من شعراء وشاعرات قصيدة الحداثة. بينما الجمهور الذي غصت به صالة ‘تياترو’ لحضور الملتقى الشعري، وبشكل خاص الفنانين الكبار، غالباً ما تعزّ رؤيتهم في أي مناسبة ثقافية، ناهيك عن مناسبة للاحتفاء بقصيدة النثر. والمفارقة أن الفنانين من الحضور فاقوا كتاب قصيدة النثر والشعراء عموماً، فإذا كانت خانة المشاركة لا تتسع لهم، فإن صالة ‘تياترو’ ستتسع لهم حضوراً ومتابعة، وهو ما لم نلحظه في هذا الملتقى وسواه.
الإشكالية تتعدى حدود تنظيم الملتقى، بل هي تدخل في صميم الحالة الثقافية التي تشهد إحباطاً متزايداً باستمرار، إحباطاً يكاد يسدُّ كل مسامات الشعر وبشكل خاص قصيدة النثر التي تثور على السلطة الثقافية، مما يتركها وحيدة على قارعة الطريق تلتقط صور انكسارات المدينة والعشاق وخيبات المواطن العائد إلى منزله كل ظهيرة أو مساء.
مع ذلك نذكر بأن أكثر من شاعرة ضاقت بها أمداء قصيدة النثر، فبحثت لنفسها عن مكان في قصيدة التفعيلة، إيقاع هنا… قوافٍ تتكرر، موسيقا تُسعف الإلقاء، لكن حتى هذه الحالات بقيت أمينة للغة اليومي والذاتي بعيداً عن الخطابية واللغة القاموسية، بل تلحظ أن المفردات اليومية والعامية والدخيلة التي تغزو أسطر القصيدة باتت كثيرة، تقول بروين حبيب من البحرين:
ملاءتي هبوب نسمة في نهارٍ ضاحك
معصيةٌ لاعبةٌ
في مدينة على البحر…
أدخل في الكادر، ولا أخرج أبداً.
ابتسامتي الفوتوغرافية تنهرُ قلبي .
بينما تأخذنا أشجان الهندي من السعودية في إيقاعات عالية:
كل ماء
لم يكن وجهي
-إذا ما اشتد جدبي-
يرتضيهِ
كل ماء
لم يكن وجهي
ولا كانت عروقي تصطفيهِ
غرقٌ تشتاقه الروح
وسيل تشتهيهِ
ولنعترف أن هذا الملتقى قدم أصواتاً جريئة، لم تتميز بعد في تجربتها، لكنها أعلنت عن إرهاصات مبكرة، فسمر عبد الجابر من فلسطين، ولوركا سبيتي من لبنان أو داليا رياض القادمة من العراق وصولا إلى نوال العلي من الأردن استطعن أن يؤكدن حضورهن المبكر في مساحة الشعر، تقول نوال العلي:
يوشك نومي أن ينتهي
وما زال جسمي على ضفة النهر لا يتبدل شكله
سوى أنه يتنكر لله.
ويتقوس كالسلك المعقوف على عرق الماضي.
على ضفة نهر الرغبة،
كانت حبات الفستق في كيسٍ ورقي لها رائحة الطين،
والتوق إلى أشياء مالحة تتراكم في عقلي الباطن.
آنذاك تعرفت على شُغل البستنة في بيتي النفسي.
قصائد جميلة كثيرة ألقيت، شاعراتٌ نثرن لغة القلب في مساء دمشقي، وكانت قصيدة النثر كأنثى جاوزت سنّ اليأس وما زالت تحمل بريق الشهوة في عينيها، ما زالت تتقد منذ خمسة عقود ونيف، تثور على ‘السلطة الثقافية’ سلطة ما هو رسمي، مهجن، مؤطر، مقدس …دون أن تلقى التقدير الذي يستحقه الثوار، ودون أن تتزين بنياشين الانتصارات التي يوزعها نقاد أكاديميون يضنون عليها بالاعتراف رغم أنها انتشرت أفقياً في مساحة الوطن العربي.
ومع ذلك نحن نأمل لملتقى ’48 ساعة شعر’ أن يتحول إلى 360 يوماً من الشعر في حياتنا، نأمل أن يتسع لكل التجارب الجميلة والمتفردة في تكوينها، ونأمل أن يشكل حالة شعرية ما زالت في حيز الرغبة أو الشهوة إن صح التعبير، أكثر مما هي واقع ملموس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى