ثقافتنا المهددة

حسين العـودات
كثيراً ما نتهم القائلين بضحالة ثقافة مجتمعاتنا الحالية بأنهم مبالغون وموتورون ويبررون بمثل هذا الاتهام حماسهم للحداثة والتجديد وتهافتهم على الثقافة والقيم الغربية،
وتجاهلهم قيمنا وثقافتنا الراسخة والمتراكمة خلال مئات السنين التي استطاعت بغناها وحيويتها ومقدرتها أن تحافظ على هويتنا القومية، وتقف بوجه موجات الغزو الثقافي طوال قرون، بل إنها ابتلعت ثقافة الغزاة وتمثلتها وأدخلتها في حيزها وبنيتها وعرّبتها رغم بطش المحتلين.
ومن طرف آخر كثيراً ما نرتاب بالمطالبين ببدء حملات نقد علمية وجدية ومسؤولة للثقافة العربية والتراث العربي وسلم القيم بكامله بهدف تجديد هذه الثقافة وتخليص التراث من شوائبه والقيم من المتخلف منها الذي أصبح عقبة في طريق تطورنا.
إلا أن المدقق في ثقافة مجتمعاتنا القائمة يلاحظ دون عناء أن هؤلاء المرتابين ليسوا مبالغين ولا موتورين ذلك أن ثقافتنا لم تعد قادرة فعلاً على الحفاظ على الهوية القومية وعلى استقلالها ومواجهة الغزو الثقافي الهائل الذي تحمله لنا وسائل الاتصال والإعلام بعد تفجرها في العقدين الماضيين.
وليس مبالغة القول انها أصبحت عامية وسطحية وهشة في العقود الأخيرة وتزداد هشاشة يوماً بعد يوم، وصارت بحاجة حقيقية لخطة منهجية تدرسها وتدرس الشروط القائمة المحيطة بها، وتبحث عن بواطن الخلل وطرق التحديث والتطور التي تؤهلها للاستمرار وامتلاك دينامية جديدة تمنحها قدرات ذاتية على النمو والصلابة والمواجهة، في الوقت الذي تؤهلها فيه للمساهمة في الثقافة الإنسانية كما كانت طوال قرون.
نستدل على ذلك بسيل المسلسلات الرمضانية الكثيفة التي ملأت الشاشات العربية وشغلت المتلقين العرب من محيطهم إلى خليجهم طوال الشهر الفضيل، ومعظمها يقدم الضرر لقيمنا وثقافتنا. فهي إما مسلسلات تروي حياة مجتمعاتنا قبل قرن أي في حمأة تخلفنا وتكرس تقاليدنا البالية.
أو تحكي قصصاً (وحواديت) عن سياسيين أو فنانين أو شخصيات اجتماعية أو تتناول أحداثاً تاريخية تنقصها الدقة والموضوعية والأمانة التاريخية وتعالجها وكأنها (فانتازيا)، ونادرها هو الذي يناقش واقعنا الذي نحن فيه ويحاول أن يساهم في تشكيل موقف نقدي ووعي جديد للمتلقين يفيد في مواجهة هذا الواقع ورسم ملامح المستقبل.
والمشكلة الخطرة أن دور المدرسة والأسرة والنادي والجمعية الذي كان يساهم في تشكيل ثقافة الأفراد والجماعة ووعيهم ويؤثر في سلوكهم تراجع (وربما) لحساب دور وسائل الإعلام المرئي والمسموع، بحيث غدت ثقافتنا القومية الجماهيرية حصيلة نشاط هذه الوسائل ومن صنعها.
أي ثقافة استهلاكية عارضة مسطحة باهتة مستلبة لتقاليد الآخر وثقافته ينقصها العمق والنظرة النقدية المسؤولة، مما أثر على التكوين الثقافي للمجتمع، وهذا ما أعطى للمسلسلات التلفزيونية أهمية استثنائية وزاد خطورتها وعزز الخوف على محاولاتنا تطوير قيمنا وتحديث ثقافتنا بل وتأصيلها.
من مؤشرات هشاشة ثقافة مجتمعاتنا وسطحيتها أن سكان إحدى القرى في بلد عربي احتفلوا فأطلقوا الرصاص وأقاموا حلقات الدبكة والغناء ابتهاجاً بزواج أحد أبطال المسلسلات وكأنه واحد من أقربائهم من لحم ودم تزوج للتو، كما أقام سكان قرية أخرى الولائم عندما رزق أحد أبطال واحد من المسلسلات المدبلجة بمولود ذكر.
ومن المؤكد أن هذه المسلسلات بما فيها المدبلجة (التركية والمكسيكية وغيرها) استلبت المتلقي العربي وأثرت فيه حتى أن أزواجاً طلقوا زوجاتهم وزوجات تركن أزواجهن متأثرين بما جاء فيها، والمفارقة أن بطل أحد المسلسلات التركية استغرب في مقابلة صحافية تأثير مسلسله على المتلقي العربي لهذه الدرجة، وأن بعض المفتين حرّموا مشاهدتها أو قدموا جوائز لمن ينقطع عن مشاهدتها.
وما أكثر الأمثلة المشابهة لو أراد المراقب سردها، وهي كلها تؤكد هشاشة الثقافة والقيم العربية الحالية، وتخلي صانعيها الحقيقيين عن مهماتهم وإيكال المهمة إلى وسائل الإعلام والمسلسلات، رغم أنه يستحيل على هذه الوسائل وحدها أن تؤصل الثقافة أو التراث وتجددهما وتخلصهما من الشوائب، كما يستحيل عليها بطبيعة الحال تجديد القيم بما يناسب مصالح مجتمعاتنا في هذا العصر.
إن هشاشة ثقافة المجتمعات العربية القائمة حالياً وسطحيتها تشكل أخطاراً كبيرة جداً لابد من الانتباه إليها، حيث تنعدم معها المناعة الثقافية وتجوّف المجتمعات ثقافياً، وتجعل من المتعذر عليها الحفاظ على هوية ثقافية أو قومية أو مواجهة الغزو الثقافي الأجنبي (وأقله مواجهة الاختراق الثقافي) وتترك مجتمعاتنا عارية لا تستطيع الدفاع عن ثقافتها وتراثها بما يمكّنها من مواجهة الشروط الجديدة والظروف الجديدة لعالمنا وعلى رأسها العولمة الثقافية التي تشكل سيلاً جارفاً لا يبقي شيئاً في مكانه.
إن الأمر المقلق هو أن مؤسساتنا الثقافية الرسمية والخاصة لم تدرك أبعاد هذه المخاطر التي لا تقل خطراً عن الاحتلال العسكري والتي ـ إن استمرت ـ ستحولنا إلى جمهوريات موز، أي مجتمعات بدون ثقافة ولا قيم، تشعر بدونيتها الثقافية والقيمية وترى الحداثة في تقليد الآخر الغازي.
وتصل في النهاية إلى احتقار قيمها وتاريخها مما يبرر للمتطرفين والمتخلفين والإرهابيين الغلو في مسيرتهم التي لا تقل خطراً لا من حيث القيم التي يحاولون زرعها ولا الثقافة التي يعملون لنشرها، وهذا ما نلاحظه في معظم المجتمعات العربية والإسلامية.
لقد أهملت خطط التنمية العربية إهمالاً ملحوظاً الجوانب الثقافية وتجاهلت دور الثقافة في حياة الأمة الحاضرة والمقبلة بل وفي نجاح التنمية نفسها، وعزفت مؤسساتنا الثقافية ووسائل إعلامنا عن تأدية واجباتها ووظائفها في تأسيس فكر نقدي وتخليص الثقافة من شوائبها وتحصين الفرد بثقافة متقدمة وإنقاذه من التخلف الثقافي والثقافة المسطحة والعامية والهشة التي لا تصمد بوجه الهيمنة والغزو والاختراق.
البيان