التغيير الديمقراطي… قضية الشعب السوري الراهنة
بالرغم من مضي أكثر من خمسة وأربعين عاماً على إعلان حالة الطوارئ في سورية التي أسست للنظام الشمولي الحاكم فيها، بما فيها عهد ((محاربة الفساد)) وعهد ((التطوير والتحديث)).
وبالرغم من جملة المتغيرات العميقة في محيطنا الإقليمي والدولي، والتي مافتئت رياحها تعصف بسائر النظم والمجتمعات وتكاد تغير وجه العالم: مازالت السلطة السورية على نهجها بالتعامل مع الساحة الداخلية بوصفها موضوعاً لمعركتها الدائمة مع شعبها بعد أن حولتها إلى مجرد ملف أمني مخابراتي يرصد كل كبيرة وصغيرة من تفاصيل حياة الناس ونشاطهم، ويقع النشاط السياسي على رأس أولوياته، لتتمكن من أحكام السيطرة على حركة المجتمع وفعالياته، وإخضاعه لقوى الضبط والربط، وإسكات الأصوات المعارضة وتطويعها عبر أجهزة قمعية متعددة، ليسهل عليها توجيهه الوجهة التي تخدم تأبيد سلطتها واستمرار سياستها ضد إرادته، وبالتعارض مع مصالح الشعب والوطن.
بعد ثماني سنوات من عهد السلطة الجديدة – القديمة، لا يزال الماضي بتركته وملفاته الثقيلة يفرض نفسه وبقوة على الحياة العامة دون أن تلوح في الأفق أية بارقة أمل بحلها، بل على العكس من ذلك أخذت دائرة صنع القرار تضيق أكثر فأكثر، وتتكثف المصالح المافوية والفئوية على نحو يزيد في احتقان الشارع السوري وفي انفصاله الكامل عن السلطة، والتي تترجمها مواقف سياسية غير مسئولة تلحق أفدح الأضرار بالمصالح العليا للبلاد وتزيد من قلق ومعاناة شعبنا يوماً بعد يوم. مما يفاقم حجم الأزمة العامة ويضاعف من عمقها وشمولها. والسلطة التي طالما تغنّت بـ ((استمرارها)) و((استقرارها))، وأبدت ضروباً محمومةً في حرصها على ((الاستقرار الداخلي)) ووقوفها بحزم ضد ((التدخلات الخارجية))!… يكشف سلوكها ومواقفها وعلى نحو فاضح بأن هذا كلام حق يراد به باطل، فلقد اعتاد النظام السوري تكرار هذه الاسطوانة منذ عهد الأسد (الأب)، وأظهر حساسية بالغة تجاه مايسميه النظام((التدخل في الشؤون الداخلية)). وكان يريد من ذلك ببساطة، أن يكون مطلق اليد في الداخل دون حسيب أو رقيب. ويعزز هذا النهج من خلال استعداده الدائم للمساومات والتسويات الخارجية، فقد برع في التفاوض والمناورة وعقد الصفقات مع الخارج كوسيلة لجعل الداخل بمنأى عن التأثر بالتطورات الإقليمية والدولية الجديدة، مجنباً نفسه أية مساءلة أو مسؤولية عن ذلك. وهو الذي برع أيضا في التعاطي مع الأزمات الإقليمية والدولية واللعب على حبال التناقضات بين أطرافها للدخول على خط حلها، والتبرع ((بالمساعي الحميدة)) بما يؤمن له دعماً خارجياً يسمح بالمزيد من الاستفراد بالداخل.
ومن المفارقات التي لاتزال تحكم سياسة السلطة، إتقانها لعبة تبني الخيار وضده، وتوليف الضدين وفق مصالحها المباشرة، والتحكم في درجة الالتفاف والاستدارة وفق المعطيات الطارئة التي تسمح لها باضعاف هذا الخيار لصالح نقيضه. وكل ذلك له غاية وحيدة: تأمين بقاءها واستمرار نهبهاو تسلطهاً.
ولو صحّت ادعاءات السلطة بحرصها على الاستقرار الداخلي، فهي مدعوة الآن للاستفادة من أجواء التهدئة وتبريد نقاط التماس الساخنة التي تلف المنطقة، ولقد أمنت لها فرصا مواتية للخروج من حالة التوتر والعزلة. واغتنام مناخ التسويات الإقليمية والدولية للتصالح مع شعبها وفتح صفحة جديدة معه تبدأ بالإفراج عن المعتقلين السياسياسيين وسائر سجناء الرأي كمقدمة لإطلاق الحريات العامة، والانفتاح على مطالب الشعب، وتحصين الداخل السوري وزيادة منعته وتماسكه، وتأمين استقراره الحقيقي في مواجهة الاستحقاقات والتحديات الداهمة ولاسيما تلك المتعلقة باستعادة الجولان المحتل وتحرير أهله من الاحتلال، عبر مشروع المفاوضات مع إسرائيل الذي بدأ بشكل غير مباشر وبرعاية تركية. وهي معركة تستوجب تحضير ما يلزمها من عدة وعتاد، والتسلح بجبهة داخلية متينة وشعب موحد في ظل وحدة وطنية فعلية، فبدون ذلك يستحيل كسب المعركة أو إحراز أي نجاح أو تقدم فيها.
أما استمرار السلطة بالقول : ((إن حقوق الإنسان في سورية بخير)) وأنه ((لايوجد في السجون والمعتقلات إلا من يخالف القانون وليس من يعارض الحكومة))، وأن ((انتقاد السلطة أمر متاح بحرية وأمان ))، فهو عدا عن كونه مجافٍ للحقيقة ولا يعبر عن الواقع السوري. لكّنه يسهم أيضاً في إضعاف سورية ومنعها من خوض معاركها ومواجهة تحدياتها بكفاءة واقتدار.
* * * *
لعلّ من أبرز مظاهر العصر الحديث، ومن خلال ثورة الاتصالات والتقدم العلمي والتقني الكبير، وسيل المعلومات المتدفّق في كلّ اتجاه وعلى كافة الصعد والمستويات،أن غدت السياسة كّلاً متكاملاً لاانفصام فيه، وغدت معها السياسات الداخلية جزءاً لا يتجزأ من السياسة الخارجية إن لم نقل صورةً عنها، وتشكّل كلّ منهما انعكاساً عن الأخرى وترجمةً لها، وبات بالإمكان قراءة الأوضاع الداخلية في ضوء الخيارات السياسية الكبرى. كما أضحت المعارضة السلمية وفي إطار الدستور والقانون في معظم أنظمة العالم، حاجةً أساسيةً لايمكن تجاوزها، وحقيقة ثابتة تقف جنباً إلى جنب مع السلطة السياسية الشرعية، كما لم تعد مجرّد حق يجب أن تتمتع به الشعوب والمجتمعات، بل صارت واجباً وطنياً يجب أن يمارسه كلّ من يتمتّع بمواطنيته، وأصبحت معها كلّ سلطة حاكمة لاتعترف بهذه الحقيقة، وتعمل على إنكارها بالقمع والتغييب، وزج معارضيها في السجون، وإطلاق حملات التشويه والتخوين بحقهم، سلطةً دون سلطة الدولة وبمواجهتها، والدولة التي تحكمها ليست دولة الكل الوطني بل دولة السلطة وأعوانها ومحازبيها وحدهم، لذلك فهي تعمد باستمرار إلى تزوير إرادة الشعب وسلبه حرّيته وحقوقه من خلال مؤسساتها الشكلية ذات المضمون السلطوي، والفاقدة لصلاحياتها الشرعية والدستورية.
كما غدا الانفتاح على المجتمع وإطلاق طاقاته وتثميرها، ووضع حد ّلكل أشكال التعسف والتسلط والتمييز، والاعتراف بدور المعارضة وبأهميته وبضرورة الحوار معها: مسلّمة من مسلمات الحكم الرشيد في هذا العصر، ويشكل بحد ذاته مدخلا لابد منه للولوج إلى الحداثة في كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. إذ لم يعد من الواقعي أبداً حلّ المشكلات الاقتصادية، والتقدم بمشاريع إصلاح الإدارة والقضاء والتعليم والإعلام، وتحديث القوانين والمنظومات النافذة، وتفعيل مؤسسات الدولة وتكاملها دون إرساء أسس التعددية السياسية والفكرية، وإعلاء شأن الحياة الدستورية وسيادة القانون، وايلاء قضايا المرأة والشباب الاهتمام الأمثل. كما تسهم هذه الأرضية وعلى نحو حاسم في التصدي للأزمات الحياتية والمعيشية كافة، وايجاد الحلول المناسبة لها وتطوير مستوى الخدمات للمواطنين كافة كمدخل لاستقرار المجتمعات وازدهارها، والنجاح في تحقيق مبدأ المواطنية الكاملة والمتساوية بين جميع المواطنين بالغاء أي شكل من أشكال التمييز السياسي أو القومي أو الديني أو المناطقي، والالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكافة الاتفاقات والمواثيق الدولية ذات العلاقة.
بالإضافة إلى الأزمة الداخلية العامة والشاملة والتي أفرزتها سياسة السلطة في الداخل بمرتكزاتها السياسية ((الحزب الواحد والقائد-الحاكم الفرد)) والاقتصادية ((قرارات استنسابية عممت النهب والفساد)) وتسببت في تخريب مؤسسات الدولة وهدر الثروة والموارد الوطنية، والاجتماعية ((نشر الخوف والتمييزيين الناس على أسس فئوية وسياسية)) تشكّل سياساتها الإقليمية والدولية مصدر قلق شديد لدى غالبية الشعب السوري وتلحق الضرر بالمصالح الوطنية العليا،وتعرّض البلاد لأخطار التدخل الخارجي وتنقلها من مأزق لآخر،وتضعها في موقع تقاطع المشاريع الإقليمية والدولية وتبعدها عن محيطها العربي، مما يهدد أمنها واستقرارها ويحملها أعباءأ “لاطاقة لها لتحمّلها.كل ذلك يجعل من التغيير الوطني الديمقراطي في سوريا ضرورة وطنية تحظى بالأولوية على كل ماعداها، وخطوة إنقاذية تاريخية تستهدف عودة السيادة للشعب وتمكينه من لعب دوره، وقول كلمته بعد عقود من الإقصاء والتهميش،واستعادة حضوره ومساهمته الفاعلة في صياغة حاضره ومستقبله،ليكون قادرا”على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية وصون وحدته الوطنية،والتصدي بكفاءة لكل الإطماع الخارجية وفي مقدمتها المشاريع الأمريكية والإسرائيلية.
من هنا جاء إعلان دمشق كتتويج لنضال طويل خاضته بدأب كل قوى المجتمع السوري السياسية والاجتماعية والثقافية،وشكلت وثائقه وبياناته ونشاطاته استجابة طبيعية لحاجات سوريا،ولضرورة تاريخية للخروج من الحالة المزرية التي وصلت إليها البلاد بفعل سياسات السلطة على مختلف الصعد، وعلى رأسها تمادي السلطة وإمعانها في حرمان الشعب السوري من حقوقه الأساسية الدستورية والقانونية، كونه مصدر كل السلطات، وتشكل إرادته الأسُّ لكل تشريع وشرعية من خلال أحزابه ومثقفيه ومجتمعه المدني وبرلمانه الحر المنتخب ديمقراطيا. غيران السلطة تجاهلت الحاجات الحقيقية لسوريا، وكذلك النداء الوطني النزيه الذي وجهه إعلان دمشق للجميع من اجل الانخراط في عملية التغيير، فجاء ردها بحملات الاعتقال المتوالية وموجات التوقيف والاستدعاء والتهديد بحق المعارضين الوطنيين، وخصوصاً رموز وشخصيات إعلان دمشق وزجهم في السجون وإحالة اثني عشر منهم إلى القضاء وسط استنكار واستهجان كبير من الرأي العام داخل البلاد وخارجها، ليواجهوا تهماً أقل مايقال فيها أنها حملة افتراءات مسمومة ومفضوحة، ويعرف الجميع تهافتها وبطلانها مثلما تعرف السلطة نفسها ذلك، كإيقاظ النعرات العنصرية والمذهبية، وإنشاء جمعية بقصد تغيير كيان الدولة، وترويج الأنباء الكاذبة والنيل من هيبة الدولة… والتي تقضي بمعاقبة المتهمين بأقسى العقوبات.
إن هذه المحاكمة لمناضلي إعلان دمشق البارزين إنما هي في الحقيقة محاكمة سياسية للإعلان بل للمعارضة السورية برمّتها، بسبب المواقف السياسية التي تضمنها البيان الختامي لمجلسه الوطني الذي انعقد في 1122007، وتضمّن مساهمة جدّية ومسئولة لمعالجة الأزمات التي تتعرّض لها البلاد، كما تضمّن حلولاً عقلانية وواقعية تضع حداً لمعاناة الشعب السوري وتخرج سوريا من أجواء التوتر والعزلة، وتسعى لإصلاح الأوضاع الاقتصادية والسياسية المأزومة وما ترتب عليها من ذيول اجتماعية ومعيشية بأقل الخسائر، وتحرص على تصالحها مع أشقائها العرب وعودتها إلى حاضنتها العربية الطبيعية، والتعامل مع المجتمع الدولي من منطلق المصلحة الوطنية السورية وبما يعزز سيادتها وأمنها واستقرارها.
لقد أحيل المتهمون للقضاء بناءاً على ضبوط أمنية باطلة ومفبركة، ولم يعد سرّاً ماتعرض له هؤلاء المناضلين من ضغوط وتهديدات لإجبارهم على التوقيع عليها دون أن يعرفوا مضمونها وهو ما أدلى به جميعهم دون استثناء، ولقد أصدر قاضي الإحالة قراره الاتهامي مستنداً لضبوط جهاز أمن الدولة وقرار قاضي التحقيق الذي لم يبحث بدوره في أي من الدفوع المقدمة وخالف صراحةً المادة 204 من أصول المحاكمات الجزائية، كما خالفت النيابة قرارات محكمة النقض التي أقرّت بطلان هذه الضبوط في المئات من قراراتها، وبدلا”من أن تتصدّى لها قانوناً تبنّتها واستندت إليها في ادّعائها.
إن نظرة سريعة الى مجمل المواد 307،306،285،286، من قانون العقوبات العامة والتي لفّق بموجبها قرار الاتهام بحق المناضلين والوطنيين وأحرار سوريا،تعكس النية المسبقة والقصد المبيّت لدى السلطة في تجريم العمل السياسي المعارض،وتسخير القضاء لغايات تشوّه سمعته وتنال من مكانته عبر زجّه في معركتها المفتوحة مع مجتمعها، بغية إسكات الصوت المعارض وتجريمه،والإصرار على إبقاء سوريا مملكة للخوف والصمت دون نقد أو احتجاج أو معارضة، ونحن نجزم أن الرأي العام داخل سوريا وخارجها غير معني بمناقشة هذه المسرحية الهزلية وتفنيدها أو الرد عليها، لأنه بات مقتنعاً أن هذه الاتهامات يمكن أن توجّه بنفس الطريقة إلى أي مواطن سوري معني بالشأن العام بما فيها رجال السلطة نفسها، أمّا المتهمون بها اليوم فهم من رواد الحركة الوطنية ومن خيرة المناضلين من أجل سوريا الحرة والديمقراطية، وقاماتهم أعلى بكثير من أن تنسب لهم هذه الافتراءات المضحكة المبكية بآن معاً. إن المطالبة بحرية الشعب السوري وحقه في العيش بأمن وكرامة في ظل نظام ديمقراطي، لا يمكن أن تصدر الاّ من الشرفاء الساعين لتخليص بلدهم من عسف حكامها وتسلطهم وفسادهم، وتمكين شعبهم من الولوج إلى العصر بالتوازي مع الشعوب الناهضة والمتطورة، وهو ما يرفع عالياً من معنويات الشعب ويصون وحدته وأمنه بعد إن أوهنت عقود المعاناة المريرة نفسيّته وأوصلته إلى حافة اليأس، وإن من يناضل متبرعاً بأكثر من نصف عمره ولا يزال – كما هو حال بعض معتقلي الإعلان ومعظم أنصاره ومؤيديه- في السجون والمعتقلات في سبيل رِفعة بلاده وحرية شعبه، هو نفسه من يتفانى لصيانة السلم الأهلي وتمتين الوحدة الوطنية ورأب الصدع العميق الذي أحدثته سياسات القمع والاستبعاد والتمييز.
* * *
وإذا كان بحكم المؤكّد أن بنية السلطة ومصالحها الضيقة تشكّل العقبة الكأداء، والسدّ المنيع في مواجهة التغيير، فلقد كشفت التطورات السياسية الأخيرة ومواقف السلطة تجاهها،عمق هذه القناعة ورسوخها.ولابدّ في هذا السياق من التذكير أيضاً بأن فرصاً عديدة فوّتتها السلطة كان من شأنها أن تطوي صفحة الماضي بكل مرارته ومآسيه، وتشكل مدخلاً لإعادة صياغة الحياة العامة في سوريا على أسس دستورية وقانونية، ورافعةً حقيقيةً للإصلاح الشامل وتصحيح مسار العمل الوطني، عبر جسر الهوة العميقة مع شعبها على قاعدة مساهمة الجميع دون استثناء في صنع مستقبله وتمتّع أبنائه بذات الحقوق والواجبات وبنفس القدر من فرص المشاركة.
وإذا كانت الحاجة للتغيير حقيقةً لا يمكن إنكارها،واستحقاقاً ملحاً يطرق أبواب البلاد بقوة، فإن المضي في تجاهله والاستمرار في إضاعة الفرص، سيكلّف البلاد المزيد من المآسي. ويصبح الإصرار على مقاومته وسد منافذه أمراً ينطوي على الكثير من المجازفة، وإبحاراً بعكس اتجاه الريح. وليس من الحكمة أبداً التباطؤ في فتح أبوابه، كماليس من الاحساس بالمسؤولية الوطنية أن تصبح بلادنا بلاد الفرص الضائعة…!
افتتاحية العدد 80 من نشرة الرأي