ذرائع للتبرير
أمين قمورية
في بحثهم عن الحجج والذرائع لتبرير قبولهم إمرار الاتفاق الامني مع الولايات المتحدة، لم يجد القادة العراقيون في القاموس السياسي عبارة اشد ذكاء من القول إن هذا الاتفاق من شأنه “اطلاق الاموال العراقية المجمدة في المصارف الاميركية واخراج البلاد من مظلة الفصل السابع ووصاية الامم المتحدة”.
لا شك في أن هذه “الجملة المفيدة” تبعث الفرح والسرور في نفوس العراقيين وتجعل الضنينين بمستقبل العراق ووحدته وازدهاره يطمئنون الى ان ثمة مسؤولين في بلاد الرافدين حرصاء اشد الحرص على خروج جيش الاحتلال، واعادة الاموال المجمدة الى اصحابها، واستعادة بلدهم مجده ومكانته الدولية، وانهم لن يبخلوا لا بالوقت ولا بالعرق ولا بدماء العراقيين الابرياء لتحقيق هذه الاهداف السامية.
يتبجح هؤلاء ليل نهار بالجهد الذي بذلوه كي يأتي الاتفاق عراقيا صرفاً، يضمن مصالح البلاد، ويضع الاحتلال الاميركي في الزاوية الصعبة… لكن اياً منهم لم يجد الوقت الكافي ليقول للعراقيين كم تبلغ قيمة اموالهم المجمدة؟ وما هي المشاريع التي سترصد لها وفي اي قطاعات ستصرف؟ لا بل ان احدا منهم لم يشغل باله في توضيح اين تبخرت المليارات من عائدات النفط والثروات الاخرى في السنوات الخمس الماضية التي اعقبت الغزو، وفي اي جيوب حطت؟ بل هم يبدعون في تفنيد مصروفات الزمن الديكتاتوري على الاجهزة والحاشية والزبانية… لكن الخرس يصيبهم عندما يصل الامر الى فضائح زمن الديموقراطية.
وما تتستر عليه الحكومة تفضحه تقارير المؤسسات الدولية التي وضعت العراق الجديد على رأس الدول الاكثر فسادا في العالم بعدما تبخر اكثر من 250 مليار دولار (اعترف بها حتى الآن) من خزائن الدولة في زمن الديموقراطية، عدا اطنان النفط المهربة يوميا ومن دون رقيب او حسيب، وعدا التحف الاثرية واطنان الذهب التي استولى عليها المحتل وبعض الاحزاب. فلماذا سيتحمس العراقيون العاديون لتحرير الاموال المجمدة؟ أليس من الافضل ان تظل هذه الاموال مجمدة في البرادات الاميركية من ان تأكلها نيران المحاصصة الطائفية وعصابات الفساد في المواقد العراقية؟
الاتفاق سيبرم عاجلاً أم آجلاً مهما كثرت العوائق ونقاط الخلاف. ذلك ان واشنطن تريده برضا مفاوضيها العراقيين او عدمه، وتخيرهم بينه وبين بقاء الوضع القائم وابقاء العراق تحت مظلة الفصل السابع. وما اللف والدوران والعراضات الشفوية او الشارعية التي يقوم بها هذا الفصيل العراقي او ذاك سوى للظهور مظهر المفاوض العنيد الحريص على المصلحة الوطنية… ولكن اين المصلحة الوطنية في زمن الطائفية والعصبوية القومية؟ فمن يدقق في مواقف الاطياف العراقية من الاتفاق يشتم رائحة المصلحة الطائفية اولاً، ثم رائحة المصلحة الحزبية ثانياً، اما المصلحة الوطنية فبلا لون ولا طعم ولا رائحة. الاحزاب السنية تعترض على الاتفاق لانها ترغب في رحيل المحتل الاميركي الذي غيّر الموازين التي كانت قائمة في العراق السابق. لكن هذه الاحزاب متهيبة من سرعة الرحيل لأن البديل من الاحتلال الاميركي سيكون الاحتلال الايراني غير المباشر وهو الاخطر عليها في رأيها. ومن جهتها الاحزاب الشيعية يتجاذبها علناً قطبان: قطب تدعمه مرجعيات دينية وينزل الى الشارع ضد “اتفاق الذل”، وقسم يلزم الصمت مدعوماً من مرجعيات اخرى أملاً بتعديلات تحفظ ماء الوجه… لكن القطبين متفقان ضمناً على عدم تكرار تجربة عشرينات القرن الماضي التي حرمت الشيعة السلطة بسبب موقفهم من الاحتلال البريطاني. واذا كانت الاحزاب الكردية هي الاكثر حماسة ضمناً لبقاء الاميركي من اجل تثبيت ما حققته من مكاسب سيادية، فان هذه الاحزاب على استعداد لمقايضة الاتفاق باتفاق آخر يضمن كردستان ومستقبل العراق.
وحال جيران العراق ليس افضل من احزابه. فايران تعارض الوجود الاميركي وتضغط في اتجاه رحيله لتستفرد بالنفوذ مباشرة او عبر الحلفاء العراقيين. لكنها على استعداد للمقايضة ايضاً في الكواليس والاستعانة بالحلفاء في غرف التفاوض وتحريك الصدريين في الشارع.
اما الجيران العرب، فيفضلون بقاء الاميركي خشية ان ينعم الايراني بالجوار العراقي بعدما تذكروا متأخرين ان العراق دولة عربية وعضو في جامعتهم التي لم تعد تجمع. والاميركيون، اصحاب المصلحة الرئيسية في الاتفاق، لن يفرطوا بمصالحهم سواء قادهم أوباما او ماكين. وإن اختلف الاثنان في اسلوب المحافظة على هذه المصالح فسيظل النفط شاغلهما ضاغطاً على خناق العراقيين.