من المستفيد من استئصال المسيحيين في العراق!؟
عبد الحسين شعبان
قال محافظ الموصل (نينوى) دريد كشمولة، إن أعمال العنف ضد المسيحيين، أدت الى ترك نحو ألف عائلة منازلها خلال الأيام القليلة الماضية، وقد توّجهت أعداد من المسيحيين بلغت نحو ثلاثة آلاف شخص الى كنائس وأديرة ومنازل أقارب لهم في مدن وقرى مجاورة. جاء ذلك في أعقاب مقتل 11 مسيحياً بينهم طبيب ومهندس وصيدلاني وعمال بناء وأحد المعوّقين.
وسبق للشرطة العراقية أن أفادت عن العثور على سبع جثث لمسيحيين قتل أصحابها بالرصاص في هجمات متفرقة في الموصل التي تقع على مسافة 360 كيلومتراً شمال غرب بغداد.
إن أعمال القتل الغامضة التي استهدفت المسيحيين نشرت حالة من الهلع والرعب بين صفوفهم في جميع أنحاء العراق، خصوصاً وأن أنباءً ترددت عن صلة أشخاص لهم علاقة بجهاز الأمن ويحملون شارات رسمية ويتصرفون باطمئنان وثقة، ويقومون بطرق أبواب المسيحيين!! في حين وجهت الحكومة اتهاماتها لتنظيمات القاعدة التي بدورها ادعت أن القوات العراقية والمتعددة الجنسيات هي التي تقوم بتنظيف الموصل منها منذ أشهر.
لعل هذه إحدى مظاهر أزمة الحكم في العراق، فالحملة منظمة ولديها أهداف محددة، ولا شك أن جهات معينّة هي التي تقوم بها، وثمة جهات مستفيدة منها، فضلاً عن وجود أدوات تقوم بتنفيذها، وهو ما دفع رئيس أساقفة الكلدان الأسقف لويس ساكا الى تذكير المسلمين بوصية النبي محمد ” حق الجار على الجار”.
ولعل الأمر اللافت للنظر أن الحملة ترافقت مع إلغاء المادة 50 التي تعنى بتمثيل الأقليات بمجالس المحافظات والأقضية والنواحي، وقيام المسيحيين بتنظيم تظاهرات احتجاجية تطالب بإعادتها، الأمر الذي يجعل هناك رابطاً سياسياً قد يكون خلفها، وبإقرار القانون الجديد واستبعاد المادة 50، حصل نوع من التشويه وربما النقص والهضم لحقوق الأقليات في حدّها الأدنى، التي تناولها الدستور الدائم، بغض النظر على الملاحظات التي عليه والألغام الكثيرة التي احتواها، والتي تمنح الحق بيد وتسحبه في اليد الأخرى.
وإذا كان المجتمع العراقي، لا سيما منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 وحتى انهيارها بفعل الاحتلال 2003، قد شهد نوعاً من التعايش السلمي بين الكيانات والتكوينات المتنوعة، فإنه كان مصدر غنى وإثراءً وقوة للمجتمع المتعدد المتنوّع، فلماذا يصبح الآن مصدر نزاع أو صراع أو عنف!؟ الأمر الذي يدعو الى التأمل والتفكير إزاء الجهات المستفيدة.
لقد لعبت المسيحية العراقية في إطار المسيحية العربية (الشرقية) دوراً مهماً في بناء الدولة العراقية وتعزيز مسيرتها على جميع الصُعد، كما ساهم المسيحيون بنشاط وحيوية في الحركة الوطنية العراقية، وبرز منهم مثقفون وباحثون ورياضيون ومؤرخون وفنانون.
ما الذي يفعله المسيحيون الآن بعد عمليات القتل والتفجير والاستهداف المنظم والتقليل من كيانيتهم؟ فهناك من يريد دفعهم للعزلة، بالمطالبة بجعلهم ضمن ” غيتو” تحت مسميات الحكم الذاتي وفي ظرف غير اعتيادي بحيث يكون خيارهم مرهوناً بالطوارئ وتتنازع على انضمامه الكيانية الكردية أو العربية الموصلية، أو دفعهم الى التقاتل بتشكيل ميليشيات مسلحة بحجة الدفاع عن أنفسهم، وبالتالي جعلهم في إطار عمليات الاحتراب، فالمسيحيون ليس لديهم سلاح أو ميليشيات أو قبائل أو قوة خاصة، فهل سيحل تشكيل الميليشيات والتلويح بالسلاح مشكلة المسيحيين في العراق والأقليات بشكل عام؟ أم أنهم سيكونون عبئاً جديداً، مثلما هي الصحوات الآن، التي شكلتها القوات المتعددة الجنسية بقيادة الولايات المتحدة وقامت بتمويلها، ويُراد الآن ضمَّها الى الجيش، الأمر الذي يثير ازدواجية الولاء والانتماء، لا سيما في مقابل الولاءات والانتماءات الأخرى. وحتى لو شكل المسيحيون ميليشيات أو صحوات، فإنها لن تكون قادرة على منافسة الآخرين.
إن استهداف المسيحيين يُراد به الإخلال بالتركيبة السكانية الديموغرافية الدينية في العراق، وهذا لا يعني سوى التفتيت، وإلاّ فبماذا يمكن تفسير نحو 200 تفجير واغتيال نحو 200 شخص من أبناء الديانة المسيحية.
إن استعادة هيبة الدولة العراقية وسيادتها والسعي لإنهاء الاحتلال وفرض سيادة القانون وحماية أرواح وممتلكات جميع المواطنين، لا سيما بحلّ الميليشيات، كفيل بالحفاظ على حقوق المسيحيين وجميع الأقليات والتكوينات في إطار الدستور العراقي، رغم نواقصه وألغامه الكثيرة، وبالأساس في ظل مرجعية حقوق الإنسان المدنية والسياسية، خصوصاً العهد الدولي الأول الصادر عام 1966 والذي دخل حيز التنفيذ عام 1976 إضافة الى إعلان حقوق الاقليات الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1992، الذي تضمن الحقوق الثقافية والإدارية واللغوية، وهو ما ورد ذكره في الدستور العراقي، لكنه ظل في الكثير من الأحيان حبراً على ورق، حيث شكت الطائفة المسيحية من حرمانها من التصويت خلال الانتخابات السابقة، لا سيما في سهل نينوى (الموصل).
إن محاولة استئصال المسيحيين تعني في ما تعنيه إضعاف الكيان العراقي، ودفعه لابتلاع المجموعات الصغيرة، لا سيما بالتطهير الديني وإجبارهم على الهجرة، وبالتالي حرمان المجتمع العراقي من طاقات وكفاءات وخبرات وطنية.
إن المستفيد من استئصال المسيحيين هم الذين لا يهمّهم ولا يعنيهم إنهاء الاحتلال، لا سيما قوى التطرف والتعصب والغلو، التي تقوم بتأثيم الآخر وتجريمه وتحريمه، وبالتالي لفرض “سيادتها” بالقوة مهما كانت حججها ومزاعمها ومهما رفعت من شعارات أو ادعت من مسوّغات، والعبرة دائماً ليست بالنصوص، بل بالممارسة والتجربة، فمن يستطيع في نهاية المطاف أن يتجاهل أو يهمل تكوينات عراقية تعتبر من أقدم السلالات في تاريخ العراق، كالصابئة المندائيين أو الكلدان والآشوريين أو الآيزيديين، إضافة الى المسيحيين!
() باحث وحقوقي عراقي