غزة وبيروت: ما يجمعه الله
موفق نيربية
هنالك شيء يوحّد أزمتي بيروت وغزة، هو الإيديولوجيا الدينية والمذهبية التي لاتشكّل دافعاً قويّاً ومشتركاً فحسب، بل تجعل الوقود المستخدم مادة شديدة الانفجار، وخطرة بما يكفي ليتردّد أيّ طرف في استخدامها، ما لم يكن متخلّفاً أو يائساً أوخائفاً، فلا يخشى عندئذٍ من الحريق.
نشرت مجموعة الأزمات الدولية في 25/7/ 2006؛ في ذروة الحرب على لبنان؛ تقريراً عنونته: «إسرائيل/فلسطين/لبنان: الخروج من الهاوية»، وجمعت فيه ما بين انفجار الوضع في غزة أواخر يونيو إثر اختطاف جندي إسرائيلي، ثم انفجار الحرب في لبنان بعد اختطاف ثلاثة جنود إسرائيليين في الثاني عشر من يوليو، بعد قليل من الحادثة الأولى. نحن الآن في دائرة قطباها بيروت وغزة، تشبه تلك، بل ربّما أكثر احتداماً.
وحين نظر التقرير المذكور في أسباب تلك الحالة، توصّل إلى مجموعة من الظواهر، منها المحلية والإقليمية والدولية، في الأولى، هنالك توق «حماس» للتمكن من ممارسة الحكم، و«حزب الله» للاحتفاظ بوضعه المتميّز في لبنان، وفي الثانية هنالك استمرار «وتفسّخ» الصراع العربي-الإسرائيلي، والانقسام المتصعّد بين السنّة والشيعة، إضافة إلى الأسباب الدوليّة المغلِّفة والمتمثِّلة خصوصاً بالمواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، تحت عنوان الملفّ النووي «وانكشاف التنافس بين مشروعين متناقضين في المنطقة».
وخلاف المسائل المتداولة والمطروحة، جعل التقرير من ضرورة التعامل مغ الأزمة في كلٍ من غزة ولبنان على نحو مستقلّ أول المبادئ الواجب اعتمادها في المعالجة، ثم أولّ التوصيات التي لابدّ من اتّباعها من قبل اللجنة الرباعية «الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة»، وحكومتي لبنان وإسرائيل، والسلطة الفلسطينية، و«حزب الله»، وجميع الأطراف المعنية.
وفي الحيثيات رأى التقرير أن هنالك خللاً أساسياً في قرار مجلس الأمن رقم 1559 هو أنه «أراد تدويل قضية «حزب الله» دون مسألة البحث عن حل مسألةً إقليميةً». ولذلك انتهى إلى مجموعة توصيات تتركّز في النهاية على «إشراك سورية وإعادة إدخالها في المعادلة الإقليمية والتخلي عن فكرة فرض تغيير نظامها من الخارج مقابل التزامها بالكف عن مساعيها لزعزعة استقرار لبنان ومقابل دعمها نزعاً تدريجياً لسلاح «حزب الله» أو دمجاً له في الجيش اللبناني» ثمّ على «إشراك إيران عبر تناول مجموعة واسعة من القضايا، بما فيها المسألة النووية والعراق والمنطقة عامةً»، وأخيراً على «إعادة تنشيط عملية السلام العربية الإسرائيلية على المسارين الفلسطيني والسوري». وحول النقطة الأخيرة يشير التقرير إلى أنها «مفتاح الأمر كلّه» وعن حقّ.
من الواضح أن مجموعة الأزمات الدولية تشتغل على الأسس التي بُني عليها تقرير بيكر-هاملتون في الولايات المتحدة، ومدرسة السياسة الدولية التي تقف وراءه، وهي المدرسة التقليدية السائدة وحدها حتى سنوات قليلة، والتي لاتزال بالتأكيد فاعلة بقوة في هذا المجال ولازمة، كردّ فعل على الأقل على تهوّر السياسات الأميركية وما أنتجته من مخاطر ومغامرات تبعث على القلق وردّ الفعل بالاتجاه المعاكس، التقليدي والمضمون والمُجرّب، وغير المعاصر بعد.
فتركيبة مجموعة الأزمات الدولية -كما لجنة بيكر-هاملتون- تتألّف من متقاعدين أصحاب خبرات كبيرة في السياسة الدولية، لكن من النمط الذي عايش الحرب الباردة، وربّما ظلّ أسيراً لتكتيكاتها وثوابتها، التي تعتمد «الصفقة» أسلوباً لحلّ المشاكل لا يُحجم عن شيء ولا يقف عند ضوابط، من دون قدرة على إدخال المتحوّلات الجديدة في هذا الحلّ. ولعلّ هذا الارتداد باتّجاه السياسة التقليدية نتيجة للتطرّف والتخبّط في السياسة الخارجية الأميركية، وتأثير عقلية المحافظين الجدد «الثورية».
الشرق الأوسط هو الحقل الجاسئ في الصورة الدولية، فهو الأكثر مقاومة للتغيير، والأكثر صعوبة وحاجة للمرونة والإبداع، فلا يُمكن فيه إلاّ احترام منطق ضرورة الحوار مثلاً، في الوقت نفسه الذي ينبغي فيه تفكيك القضايا، وحلّها بالتدريج، بجرأة وحزم بل مواجهة أحياناً، سلمياً بالطبع.
فكما في منتصف العام 2006، تحتدم الآن أوضاع غزة ولبنان، على الرغم من أن الأخير لا يعيش حرباً مباشرة، بل حرباً كامنة أشدّ خطورة، وبطريقة تنذر بالامتداد الإقليمي.
لا يُمكن -من جهة أخرى- التعامل مع المشكلتين باستقلال إحداهما عن الأخرى، وكذلك عن حالات أخرى، حيث التوتّر الداخليّ مستفحل بتأثير العجز وممانعة التطوّر وحاجاته السريعة التداعي. وارتباط القوى الأربع: «حماس» و«حزب الله» وسورية وإيران، حتى في سياق التقرير المذكور أو الوضع الحاليّ، دليل على انعدام إمكان الفصل وافتعال الاستقلال، إلاّ حين يحدث ذلك في سياق عملية التفكيك النسبية على طاولات البحث والتسوية.
هنالك شيء آخر يوحّد الأزمتين، وهو الإيديولوجيا الدينية والمذهبية التي لاتشكّل دافعاً قويّاً ومشتركاً فحسب، بل تجعل الوقود المستخدم مادة شديدة الانفجار، وخطرة بما يكفي ليتردّد أيّ طرف في استخدامها، ما لم يكن متخلّفاً أو يائساً أوخائفاً، فلا يخشى عندئذٍ من الحريق.
دليل مهمٌّ على ترابط القضيّتين، تلك الطريقة التبادلية في استعمالهما على أبواب مؤتمر القمة العربية.
· كاتب سوري