علمانيتنا التي فتحنا لها أضيق الأبواب
عمر كوش
يتتبع مؤلف هذا الكتاب مؤشرات وملامح ظهور العلمانية في الفكر العربي الإسلامي، منذ نشوء الدولة في الإسلام وصولاً إلى العصر الحديث. ثم يسلط الضوء على مفاهيم هذا المصطلح، والمؤثرات الفاعلة في ظهوره جلياً في عصر النهضة، وينتقل إلى العلمانية التي دخلت فلسطين من بوابة بلاد الشام ومصر. ويردّ المؤلف الالتباسات والإشكاليات التي أصابت مصطلح »العلمانية« إلى خلفيات ثقافية أيديولوجية، وليس إلى خلفيات ثقافية تاريخية، نظراً لأنه يوجد في ثقافة التاريخ أو في تاريخ من المعطيات والوقائع التي تدحض أطروحة تنافي الإسلام والعلمانية، كما تدحض أطروحة التقمّص الحرفي للنموذج العلماني الغربي. ومن داخل هاتين الأطروحتين يأتي مصدر الالتباسات والإشكاليات التي لم تفتأ تلبّد بغيومها أفق المصطلح، الذي هو في جوهره مصطلح تاريخي، متبدل ومتحول، اكتسب معاني ودلالات مختلفة في مراحل مختلفة، وسيكتسب معاني ودلالات جديدة في المستقبل، كأّي مصطلح اجتماعي آخر لا يبدأ من الفراغ، ولا يستمر كما كان عليه.
ويرجع ظهور مقدمات هذا المصدر، الذي انبثقت منه الالتباسات والإشكاليات التي لحقت بمصطلح »العلمانية«، إلى أطروحات خطاب اليقظة العربية في القرن التاسع عشر، الذي ولد في أجواء الغزو الاستعماري الأوروبي للوطن العربي، وتحلل الخلافة العثمانية وما أورثته للمنطقة من تأخر وتخلف فكري واجتماعي انقض على منجزات الفكر العقلاني النهضوي الذي انبثق في القرون الوسطى. وستكون واضحة أكثر في خطاب الفكر العربي المعاصر في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي عكس التفارق الأيديولوجي الكبير الذي كان يغذي ويوجه الأطروحات العلمانية والأطروحات المضادة للعلمانية، والذي جاء هو الآخر مثقلاً بنتائج سايكس بيكو، ولاحقاً بإخفاقات الدولة الوطنية العربية التي بُعثت بعد الحرب العالمية الثانية باستكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي، والذي استمر بطابعه العام استهلاكياً ومفككاً وتابعاً، إضافة إلى الأذى الذي أصاب مصطلح »العلمانية« من جراء الحكم الشمولي الذي أقامته الدولة الوطنية ونخبتها العلمانية.
ونهض الخطاب العلماني العربي المعاصر على المنطلقات الفكرية نفسها التي شكلت بنية الخطاب العلماني العربي في القرن التاسع عشر، والمتجسدة في فصل الدين عن الدولة، والوطنية، والقومية، والمواطنة، والمعرفة العلمية، والمساواة القانونية، والحريات، والتعليم المدني… الخ، إلا أن مفهوم »العلمانية« في الخطاب العلماني المعاصر اكتسب معاني قومية واجتماعية متبلورة وواضحة، تجاوزت التصورات الغامضة لمفهوم القومية والعروبة الذي لم يستقر على معنى إقليمي وسياسي محدد في وعي خطاب القرن التاسع عشر، كما تجاوزت التصورات الفضفاضة للمعنى الاجتماعي للعلمانية الذي لم يتحدد بمضمون ملموس، كما نراه لاحقاً محدداً وواضحاً في كتابات الخطاب العلماني المعاصر لدى ياسين الحافظ، والطيب تيزيني، وآخرون، فضلاً عن تعميق وتوضيح المصطلحات في لغة فلسفية وعلمية متطورة، كما نراه عند معظم أصحاب الاقتباسات السابقة.
وتشابهت المنطلقات الفكرية الأساسية للإسلام السياسي المعاصر بمنطلقات خطاب الإصلاح الديني، فيما قدم الإسلام السياسي المعاصر نفسه من خلال حركة سياسية منظمة ومقولات سياسية واضحة، أهمها: مقولة الإسلام دين ودولة. وهذه المقولة لم تكن تشكل منطلقاً فكرياً وسياسياً في أدب الإصلاح الديني، وإن بدأت معالمها بالبروز لاحقاً في كتابات رشيد رضا الذي مثل بداية الانعطافة الكبرى من الإصلاح الديني إلى الإسلام السياسي.
ويطمح المؤلف إلى صيغة للعلمانية تنبثق وتتطور من خلال استئناف عملية التأويل العقلاني الحداثي للتشريعات والأحكام الإسلامية التي تدخل في مجال المعاملات، وعلمنة التشريعات والأحكام المبنية على المصالح والمنافع والفوائد، وإحياء المقولات المعلمنة. كل ذلك بما لا يضر بالرسالة الأزلية للإسلام القائمة على التوحيد والعدالة والكرامة الإنسانية، وبطريقة تدرّجية، انتقالية، هديها نظرية العقل في الإسلام ومنجزاتها الفكرية، ومنجزات العلمانية العربية والفلسطينية الحديثة والمعاصرة بعد تخليصها من عمليات التقليد والاستعارة الشكلية، ومنجزات العلوم الإنسانية. أمّا كونها تدرجية، انتقالية، فهي من باب الطبيعة الصحية للتطور التدرجي، ومن باب طبيعة المرحلة التدرجية، الانتقالية، التي يمر بها المجتمع الفلسطيني بالترابط مع المرحلة التدرجية الانتقالية التي يمر بها المجتمع العربي، أي انتقالية- تدرجية- تحوّلية متصلة بالمشترك المكدس العقلاني في الفكر العربي- الإسلامي السابق، وبخبرة الواقع وإفرازاته المفتوحة على فرص توسيع مداخل الفكر العربي المعاصر بتياراته المختلفة على قاعدة الخطاب الحضاري، الذي من المفترض أن يضع في بؤرة معالجاته، وفي هذه المرحلة بالذات، حماية الهوية الوطنية والقومية المهددة بالتفكيك والتذرير، وكيفية التصدي للتحديات السياسية والاقتصادية والفكرية التي تواجه الأمة العربية في تاريخها المعاصر.
ويرى المؤلف أن هاجس الوطن الكبير، وما ينتصب أمامه من تحديات ومسؤوليات كبيرة وآمال مشتركة، يجعل من المفيد أن يمر تطوره الوطني والقومي والحضاري من خلال صيغة العلمانية المرنة، أي علمانية غير أيدلوجية تصيغ منطلقاتها بالانفتاح على عقلانية الإسلام وعقل العلوم ومدنية الثقافة، المرتبطة باحتياجات التطور الوطني والقومي للأمة العربية على أساس الديمقراطية والتعددية والحريات والحقوق العامة.
ويرصد المؤلف مظاهر العلمانية في الحركات والأحزاب السياسية الفلسطينية، معتبراً أن الفكر السياسي والاجتماعي الجديد لهذه الأحزاب، بتوجهاتها الإيديولوجية المختلفة، قد ارتبط بالإفرازات الاقتصادية والاجتماعية، كما ارتبط بتأثير الأجواء التحررية في الوطن العربي والعالم. وفي الواقع الفلسطيني، فإن إشكالية العلاقة بين الدين والدولة في المجتمع الفلسطيني ليست إشكالية نظرية ملحّة، مع أن الإطار النظري هو عنصر أساسي في تحديد وجهة التحول العلماني. لكن حل إشكالية فصل الدين عن الدولة في المجتمع الفلسطيني، يترابط عضوياً بقدرة العلمانية الفلسطينية بفصائلها ومؤسساتها على إنجاز البرنامج الوطني للشعب الفلسطيني. وسيفضي انتصار البرنامج الوطني إلى تصاعد ثقة الجماهير بالخيار الذي حقق أهدافها، إذ بحث الجماهير الفلسطينية عن حريتها أولاً وأخيراً، وليس عن نظريات وأيديولوجيات، وهي الفكرة الأساسية التي تجعل صيرورة العلمانية تستأنف انطلاقها من القاعدة إلى القمة.
ولم يظهر الفكر العلماني، في الوطن العربي وفلسطين، كما ظهر في الغرب، كحركة فكرية نقدية ثورية مستقلة منبثقة من صميم المجتمع وتراثه وبنيته الاجتماعية والثقافية والسياسية، وإنما ظهر في ظل شروط عدم إنجاز المجتمع العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص، وهو مشروع الحداثة والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والديمقراطية السياسية، وفي ظل شروط عدم إنجاز مرحلة التحرر الوطني الفلسطيني، والتحويل الثقافي للمجتمع، أي أن العلمانية ظهرت في ظل شروط لم تمارس فيها الحركة الاجتماعية نقداً منهاجياً غير انفعالي للفكر والسياسة والمجتمع، ولم تحاول أن تصل إلى فهم أعمق لطبيعة المجتمع، وثقافته وقيمه، وهو الفهم الذي كان يقتضي بلورة مشروع سياسي- اجتماعي- ثقافي عقلاني منبثق من صميم المجتمع، ويحاكي الواقع وتعبيراته السياسية والفكرية والثقافية، ومرتبط بمشروع التحويل التدرجي الاجتماعي العام، وهو مشروع ما زال مقيداً بعوائق موضوعية وذاتية وينتظر من يفتح له الآفاق.
ويعتبر المؤلف أن مفردات اللغة العلمانية انعكست في الوثائق التأسيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في النظام الأساسي والميثاق الوطني وفي قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية، وفي البرامج السياسية لمنظمة التحرير منذ تأسيسها عام 1964 حتى دورة غزة عام 1996. ويرى أن التحول في الفكر السياسي الفلسطيني، من برنامج الدولة الديمقراطية الواحدة على كمل التراب الوطني الفلسطيني، إلى برنامج الدولة الوطنية المستقلة على جزء من التراب الوطني الفلسطيني، قد عبّر عن تحوّل مواز في الصيغة العلمانية، من علمانية ثورية، جذرية، تعمل على تصفية الدولة العبرية وبنيتها الصهيونية، إلى علمانية سياسية واقعية، أو مرنة، في الوسائل والأهداف. وعليه فإن أهمية طرح مشروع رؤية علمانية جديدة للمجتمع الفلسطيني تنبع، من بين ما تنبع، من طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها المجتمع الفلسطيني، وهي مرحلة الانتقال من سلطة وطنية محدودة الصلاحيات إلى مرحلة بناء الدولة المستقلة، مما يضفي على الرؤية المقترحة أبعاداً عملية تكون جزءاً من المجهود النظري والسياسي والتخطيطي في بناء الدولة المنشودة.
الكتاب: العلمانية في الفكر العربي المعاصر – دراسة حالة فلسطين
تأليف: جبرا الشوملي
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،
2008