الحالة الدينية/الطائفية في أبهى فوضاها…
دلال البزري
فُتحت صفحة الطائفية-المذهبية على مصراعيها. الشيخ يوسف القرضاوي يريد ان يدافع عن مصر. فلا يجد لها اعداءً راهنين غير الشيعة. يتأسف لأنه وجد مؤخراً «مصريين شيعة». ويتابع: «منذ عهد صلاح الدين الايوبي وحتى عشرين عاماً مضتْ ما كان يوجد شيعي واحد في مصر». والآن! الآن! تجدهم في»الصحف»، وعلى «الشاشات يجهرون بتشيعهم وبأفكارهم!». وحجم الاعتراض طبعاُ من طبيعة الخلاف مع الشيعة. انه خلاف «في العقيدة، لا في الفروع». ثم يتابع ما يأبى القلم ان ينقله. تقريظ وحطّ من العقيدة الشيعية، ومشاعر دينية مراهقة من نوع: «يحتقرون عائشة» و»يشتمون الصحابة» الخ.
الردود عليه محسوبة كلها. واحيانا من نفس الطينة. وكالة الانباء الايرانية القريبة من «الحرس الثوري» بلسان خبير شؤونها الدولية، حسن هاني زاده، لا تقلّ عصبيةً. وبعدها مداخلات لـ»الاخوان المسلمين» و»حماس» و»شخصيات» إسلامية. لكن رد الشيخ محمد حسين فضل الله اقرب الى واقع الحال. فضل الله يلوم القرضاوي كيف ينكبّ على تشيّع آخذ بالانتشار، ولا يلاحظ «التنصير في الجزائر». اذ يقول «انني لم اسمع من الشيخ القرضاوي اي موقف ضد التبشير الذي يراد منه إخراج المسلمين من دينهم وربطهم بدين آخر». ثم يتابع فضل الله: «نحن نعرف الآن ان هناك مشكلة كبرى في الجزائر حيث تذهب فرق التبشير المسيحي من اجل التبشير بالمسيحية في المجتمع الاسلامي». بل لم يلحظ الشيخ، بحسب فضل الله، «إختراق العلمانيين والملحدين للواقع الاسلامي»… في ما يشبه لعبة «وحدة المذاهب الاسلامية» المثيرة، ولكن المملّة بعد حين.
و«التنصير في المجتمع المصري»، لا ينقص من «يتصدّى» له. ايضا يقع على عاتق افراد مثل ابو إسلام احمد عبد الله؛ الصحافي والكاتب. وقد اشتهر مؤخراً، بعدما عُرف بأنه يقود واحدة من الحملات ضد التبشير المسيحي. لديه موقع على الانترنت، ويقدم مساعدات للمسيحيات اللواتي يردن اشهار اسلامهن. ويقول: «أنا مسلم وخادم لديني وديني يحضّني على ذلك». فمن واجبه «شرعا» ألا يخذل اية مسيحية تلجأ اليه لإشهار اسلامها. فيما يقول عن تنصير المسلمين: «العين بالعين والسن بالسن…».
اما في الشارع المصري والمقاهي والمطارات واماكن العمل والمحال التجارية، فتقوم بـ»الواجب» جماعات «الامر بالمعروف والنهي عن المنكر»… غير المنظمة، العشوائية، الرثّة. افرادها يغرون «باللسان» لا «بالسيف»؛ وهذا ما يحمدون انفسهم عليه. ونصائحهم كلها حول: ارتداء الحجاب، عدم الاختلاط، تأدية الصلاة بطريقة معينة (فالصلاة تُقام اينما اتفق: على الرصيف، داخل المحال، في الممرات، في المطاعم والمقاهي…). ثقافتهم مصدرها الفضائيات والكتيّبات الدينية الموزعة بكثرة في وسط البلد، ويؤلفها من هبّ ودبّ. وهم طبعا وجهة سهام الازهر، المؤسسة الدينية الرسمية، والتي لا تقصّر بدورها في اصدار الفتاوى التي «تخدم» الدين والمؤمنين.
في المقلب الآخر، في لبنان. بلد الطائفية بامتياز، اذ كل زعيم «خادم» لأهل طائفته او مذهبه، الطائفية هي الحامية والحانية… وجدت اخيرا ضالتها على يد احد قادتها، فتوسعت الى خارج الوطن الطائفي الضيق… وهذه الايام ايام عزّها. الجنرال ميشال عون: لم يفزْ بإجماع مسيحيي لبنان؛ فاتجه شرقاً يعلن نفسه بطريركا لمسيحيي الشرق. ومن اين؟ من ايران… «ملاذ» مسيحيي الشرق و»مأواهم». ايران التي تشبه لبنان لكونها «ملجأ الاقليات»، ولكن بحجم اكبر دولة اقليمية «من هنا وحتى الصين».
ماذا يفعل عون بهذا التتويج الذاتي؟ انه «يخدم» مسيحيي الشرق. ينطق بآلامهم ومآسيهم. والفرصة مؤاتية. مسيحيو العراق وتهجيرهم من الموصل صيد ثمين. وتصريح الجنرال اثر زيارته الى ديار الحريات الدينية: «3825 عائلة لجأت الى مكان آخر بوجود قوات احتلال اميركية تتفرج وقوات عراقية لا تعالج الوضع للأسف(…) الموضوع بحاجة الى عناية وصرخة لكي يتوقف هذا الاضطهاد والتنظيف العرقي والاثني…» الخ. منافسو عون المسيحيين اصابتهم الغيرة. هم ايضا لم ينالوا إجماعا مسيحيا محلياً. فتنطّحوا لتمثيل مسيحيي الشرق الرحب والذّود عن ديارهم.
ماذا يفعل عون ومنافسوه؟ انهم «يخدمون» ابناء طائفتهم. يلبّون نداء الله. تماما مثل القرضاوي وقبله ابو إسلام وجماعة الامر… وقد ردّ الاول، القرضاوي، على الردود العنيفة ضد موقفه من الشيعة: «من واجبي ان احذر الأمة من هذا المدّ. وان ابصّر الامة. لأن الله سيسألني عنها يوم القيامة». أي ان الله لا يقبل بالعقيدة الشيعية!
هذا غيض من فيض. «معركة» الكراهية بين الاديان والمذاهب وتنصيب النفس «خادمة» لأهداف الله ولأبناء الطائفة… لها في اليوم الواحد مئة قصة وقصة. تجدها عارية صادقة على شبكة الانترنت وفي الشارع والمشافهاة.
والمسألة لم تَعُد مسألة حالة دينية فحسب. بل حالة دينية في أبهى فوضاها، غارقة في الطائفية. فوضى الطوائف نفسها والمذاهب والعقائد… واختلاطها الحميم بالسياسة، بأمور الدنيا. فوضى التمثيل والهويات الدينية نفسها… ولكن مع انتظام الكراهية وصعودها.
واسرائيل مثَلنا الناجح. دولة ديموقراطية متفوقة، لكن عنصرية وطائفية. طالما اننا لا نقدر على الديموقراطية، فما الذي ينقصنا لكي نكون اكثر عنصرية وطائفية؟ اكثر احتكارا للنطق باسم الله؟ ما الذي ينقصنا غير تبرع زعماء وشيوخ ومواطنين، أفذاذاً كانوا أم بسطاء، من اجل «خدمة» الدين وتضليل البوصلة والغوص في الكراهيات الذائعة اكثر فاكثر؟
خدمة ابناء الدين او المذهب الواحد. اخطر من خدمة الوطن الواحد. الفرق بين الدين والوطن هو القانون، هو الدولة. لا دولة عندك وفد تعمّمت فوضى دينية عارمة. وفي هذه الحالة، ماذا تتوقع اكثر من عون والقرضاوي وابو إسلام… وسائر الوجوه والجماعات؟
الحياة