عوائق الديمقراطية في المنطقة العربية
جورج كتن
تجاوزت الديمقراطية مصدرها الغربيّ لتصبح مفهوماً عالمياً وأسلوب حياة وشرط الحداثة وجوهر التغيير منذ أوائل القرن العشرين حتى الآن، فالاستغناء عنها يعني تكريسا للتخلّف والتهميش. وهي ليست أيديولوجيا أخرى جامدة، فرغم أنها أفضل النظم السياسية التي أبدعتها الإنسانية، لكنها ليست نهائية ولا حتمية بل يمكن تطويرها للتلاؤم مع المسار البشريّ. وهي غير ممكنة أو جزئية إذا لم تتضمّن آليات أهمّها:
– إصلاح دينيّ يؤدّي لفصل الدين عن الدولة يعترف بأنّ السيادة للشعب الذي يضع ممثلوه المنتخبون القوانين وفق المصالح الراهنة وليس وفق نصوص مقدّسة مسبقة.
– احتكار السلطة المنتخبة لأدوات العنف وفق القوانين، فالديمقراطية تذوي في ظل جهازين مسلّحين أحدهما تابع للدولة وآخر لحزب أو لأحزاب أخرى.
– لا قيمة للعملية الانتخابية إن لم ترافقها حريات واسعة للتجمّع والتعبير وفرص متساوية لجميع المتنافسين، على أن تؤدي لتداول السلطة وتجديد النخب الحاكمة والمعارضة.
– رغم أغلبيتها فالسلطة المنتخبة تخضع لمساءلة المجتمع ومحاسبته، في دولة سلطات مستقلة ومؤسسات غير تابعة للدولة تربطها علاقات متوازية.
– القبول بالآخر والدفاع عن حريته رغم الاختلاف معه مبدأ أساسيّ لا تقوم ديمقراطية دونه، ويحدّد العلاقة بين الأطراف المختلفة عقد اجتماعيّ اختياريّ مبنيّ على التشارك والتضامن وقابل للتجديد.
– الديمقراطية ليست فقط حكم الأغلبية، فالأهمّ احترامها لحقوق الأقليات التي لا يحقّ لأية أغلبية إلغاؤها.
– أيّ بلد يصبح مؤهلاً للديمقراطية من خلال التطبيق الديمقراطيّ نفسه، والديمقراطية المأزومة لا تصحّح بإلغائها بل بالمزيد من الديمقراطية.
– الديمقراطية ليس مجالها السياسة ونظام الحكم فقط بل تشمل الأسرة والمدرسة والمجتمع المدنيّ إجمالاً.
– السلام والاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ أفضل البيئات لنمو الديمقراطية فالحروب تعطلها أو تقضي عليها…
تزايدت أعداد الدول الديمقراطية لترتفع من 25% من دول العالم في منتصف القرن العشرين، إلى 60% من دوله في بداية القرن الحالي، علماً بأنّ معظم الدول غير الديمقراطية أو منقوصة الديمقراطية هي دول عربية وإسلامية، فما هي العوائق التي أدت لهذه النتيجة في منطقتنا؟
– لا يمكن إرجاع العوائق للحكومات المستبدة وحدها، إذ أنّ النخب السياسية لعبت دوراً منذ الاستقلال في “تأجيل” الديمقراطية لصالح تحرير فلسطين أو الوحدة أو بناء الاشتراكية، فقد أعطت الأولوية لهذه الشعارات “الثورية” على حساب الديمقراطية، وأوضح مثال التضحية بالديمقراطية السورية لأجل وحدة مصر وسوريا المنهارة.
تبنت النخب، مستغلة ضعف الثقافة السياسية في المجتمع، فهماً خاصاً للوطنية: الغرب عدوّ يجب عدم الإقتداء بديمقراطيته الزائفة، فادّعاؤه بنشرها مقدمة لاستعمار جديد، رغم أنّ الديمقراطية عنصر أساسيّ في مواجهة المخاطر الخارجية، فلكسب الشعبية سارت معظم النخب خلف المجتمع وليس أمامه، فيما عدا أقلية تنويرية تبنّت التغيير الديمقراطيّ غير عابئة بمدى شعبيته. ويظهر مدى عدم توافق النخب حول مفهوم الديمقراطية في خوف بعضها من فوز الإسلاميين بالسلطة من خلال الانتخابات، مفضلاً استمرار الأنظمة المستبدة شبه العلمانية. فيما النخب الحاكمة تخوّف الغرب بمجيء الإسلام السياسي للسلطة بانتخابات، وتضيف لأسلحتها ضدّ الديمقراطية تخويف المجتمع من ديمقراطية تؤدّي لصراعات داخلية دامية حسب النموذج العراقيّ.
– عائق آخر هو استخدام الإسلام السياسيّ للدين لتأسيس دولة تكرّس استبدادا جديدا باسم النصوص، فرغم أنّ الدين في جوهره مناهض للاستبداد فقد جرى تأويله لمعارضة الحداثة السياسية بحصر التشريع فيما يستخلص من النصوص، وتنصيب المتأسلمين أنفسهم وكلاء للشريعة والله، بين معتدلين قبلوا من الديمقراطية بآلية الانتخاب فقط، ومتشددين كفروا الديمقراطية واعتبروها من عمل الشيطان! والمشكلة تجاوب قطاعات من المجتمع تظن أن تدينها تكمله هذه الأفكار المتخلفة.
والأمثلة متعددة للكوارث التي تسببت بها نماذج الأنظمة الدينية، كطالبان أفغانستان ومحاكم الصومال الإسلامية، ومؤخراً إمارة حماس في غزة حيث ظهر بشكل جليّ أن فوز الإسلاميين بأكثرية المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ كان الخطوة الديمقراطية الوحيدة لحماس، إذ تلاها الانقلاب على الديمقراطية وتصفية الآخر المنافس والانفراد بالسلطة بقوة السلاح المخصص للمقاومة. وهو نفس ما كانت ستفعله جبهة الإنقاذ الإسلاميّ الجزائرية الفائزة بأوّل انتخابات حرّة، ليصرح قادتها مباشرة بأن الديمقراطية كفر وإلحاد ستلغيها الجبهة حال استلامها للسلطة، ولكن العسكر سبقها إلى ذلك وألغى الانتخابات، وضاعت الفرصة الديمقراطية بين الاستبداد شبه العلمانيّ والاستبداد “المقدس” الذي انتقل لامتشاق السلاح ليشنّ حربه ضد المجتمع “الكافر” الذي انتخبه.
– لا يخفى دور الميليشيات المسلّحة وخاصة الإسلامية في إعاقة الديمقراطية. ففي لبنان فرض حزب الله في أيار الماضي برنامجه بقوة السلاح بعد تعطيله الطويل للمجلس النيابيّ المنتخب ومنعه للاستحقاق الانتخابيّ الرئاسيّ، بحجّة مقاومة وجّهت أسلحتها للداخل بعد أن لم يبق ما تقاومه إثر الانسحاب الإسرائيليّ. وكان تسبّب في إطلاق حرب مدمرة منذ سنتين متخطياً دور الدولة ومؤسساتها المنتخبة، مؤدياً لتراجع حادّ في مسار الديمقراطية اللبنانية بحيث فرض المتملك لأكبر عدد من المسلحين والأسلحة مواقفه على من يملك أكبر عدد من أصوات الناخبين. وبدل أن تتقدم الديمقراطية اللبنانية لتتجاوز أصولها المبنية على المحاصصة الطائفية فتنجز مشروع الدولة لكل مواطنيها، تراجعت للمربع الأول بإضافة عائق أكبر، ميليشيا طائفية كدولة ضمن الدولة.
ولا يخفى بعض التشابه بين التجربتين اللبنانية والعراقية من حيث الإعاقة التي تشكلها المحاصصة الطائفية ودور الميليشيات المسلحة للأحزاب. لم يكن أحد يدرك مدى عمق الخراب الذي حل بالشعب العراقيّ من قبل النظام المطلق الذي حكم طوال أربعين عاماً. لم تكن الصورة زاهية عن طبيعة وتركيبة المجتمع العراقي ولكن كان هناك أمل بنخب معارضة ستستطيع تدارك الخراب وبناء وعي شعبيّ جديد، وهذا لم يحصل، فقد سادت النخب الطائفية في السلطة الجديدة بهيئاتها المنتخبة، وفي الشارع بميليشياتها المسلحة، وتهمشت الأقلية الديمقراطية العلمانية.
كما لم يتوقع أحد مدى قدرة أنظمة دول الجوار الاستبدادية في دعم ردّة مسلحة باسم “المقاومة” لتخريب العملية السياسية العراقية، لكي لا تصبح مثالاً لمجتمعاتها الغارقة في أوحال القمع، إلى حدّ تحالف هذه الأنظمة مع الشيطان “الإرهابيّ” والنفخ في الصراعات الدموية لحصر التغيير الديمقراطيّ وإدانته بالعمالة والصورية والطائفية. وقد نجحت في جهودها بشكل كبير. لكن المسألة نسبية فالديمقراطية التوافقية في العراق ولبنان أفضل الممكن حالياً وأفضل من دول مجاورة، بالمقارنة مع ما ترك عليه البلدان بعد عهديهما السابقين.
– يضاف العائق الخارجي، فقد لعبت الدول الكبرى دوراً هاماً خلال نصف القرن المنصرم في دعم الأنظمة الاستبدادية المتحالفة معها لتمتين نفوذها وتأمين مصالحها، ولا نقصد هنا الدول الغربية فقط بل الاتحاد السوفييتي السابق أيضاً الذي تحالف مع أنظمة استبدادية في المنطقة تحت ستار التحرر والاشتراكية، فيما كان همّه توسيع نفوذه في الحرب الباردة ضد الغرب. وحتى بعد انهياره وتفرد أميركا بالعالم واعتراف مسؤوليها بدور بلادهم السلبيّ في استمرار الأنظمة الاستبدادية، فإنّ السياسة الأميركية الراهنة تعطي الأولوية لمواجهة الإرهاب على نشر الديمقراطية حتى لو أمنت المواجهة أنظمة مستبدة لكنها تحافظ على المصالح الأميركية. لقد أثبتت التجربة العراقية أن هناك تكاليف يجب دفعها للانتقال للديمقراطية، يمكن تخفيضها باقتصار الدور الخارجيّ على ضغوط على الأنظمة لتوسيع الإصلاحات بدل أن يؤدّي التدخل المباشر لتفجرات لا يمكن السيطرة عليها إلا بعد دفع أثمان باهظة.
– إلى جانب ذلك تتضافر عوائق أخرى كغياب المجتمع المدنيّ أو ضعفه والتخلف الاقتصاديّ ومستويات الدخل والمعيشة المنخفضة وهزالة التنمية في تسهيل استمرار الاستبداد، وفي الدول النفطية ساهم النفط في ترسيخ الأنظمة الريعية المستبدة، فتجارب المنطقة رغم بعض العموميات المتشابهة لها خصوصياتها واختلافاتها.
لسنا بحاجة لقرون للوصول للديمقراطية ولكن لا يمكن استعجال الأمور وتخطي العوائق والمآزق. ومن أهمها مأزق تبشير النخب بآرائها دون اكتراث بمدى تقبلها في الأوساط الشعبية التي تفضل بغالبيتها المفاهيم الأصولية، ومأزق توجّه ذوي الدخل المحدود للاهتمام بالخبز وليس بالديمقراطية رغم تزايد الوعي بأنّ الديمقراطية تمكّن من العمل لرفع مستويات المعيشة، والمأزق حول أنّ غياب الديمقراطية السبب الرئيسيّ لتعثّر التنمية، فيما تجارب آسيوية غير ديمقراطية حققت معدلات تنمية عالية… وغيرها من المآزق.
إجمالاً تمرّ المنطقة بفترة مخاض لا ندري إن أمكن تسميتها مقدمة لنهضة ثانية كما أشار البعض، أهمّ ميزاتها النقد الشديد لجميع المفاهيم القديمة السائدة لا يمكن استبعاد أن يؤدي لإصلاحات تأخر تحقيقها، فالأنظمة والنخب مهما أعاقت وتحايلت لا يمكنها أن تهرب طويلا من الاستحقاق الديمقراطيّ.
كاتب من سوريا
خاص – صفحات سورية –