أكرم البنيصفحات سورية

ويحدثونك عن الوحدة الوطنية…

null

أكرم البني

يكثر الحديث اليوم في سورية عن الوحدة الوطنية وأهمية صيانتها وتعزيز مقوماتها، ربما تأثراً بارتفاع حرارة الضغوط الخارجية وتواترها في ضوء اعتقاد شائع بأن العدو لا يحقق أغراضه إلا عبر استغلال الخلافات والتناقضات بين أبناء المجتمع الواحد، أو لعل الدافع هو شعور السلطات بالعجز عن إعادة إنتاج السيطرة على المجتمع إلا من خلال العودة إلى آليات التعبئة الإيديولوجية الوطنية أو لعل الأمر محاولة لاحتواء حال جديدة من تطور مواقف المعارضة الديمقراطية ودورها وقد باتت تشكل عند أهل الحكم عبئاً على منظومة السيادة والهيمنة.

ولا تحتاج إلى كبير عناء كي تكتشف أن ثمة خيط خفي ينظم تكرار الدعوات للحفاظ على الوحدة الوطنية، يتمثل في التهرب من استحقاق التغيير الديمقراطي عبر الترويج لمحاسن ما نحن فيه إذا نظرنا إلى ما آلت إليه الأوضاع في العراق مثلاً، والمبالغة في التحذير أو لنقل التخويف من خطورة إحداث أية خلخلة في البنيان القائم وإضعاف لحمته أمام عدو شرس يتربص به شراً، ليغدو من السهل تفسير أي انتقاد للسلطة الحاكمة أو أية دعوة لإجراء إصلاحات سياسية جدية على أنها إخلال بالوحدة الوطنية ومؤامرة لشق الصف وتفكيك المجتمع وتمكين الأجنبي منه!..

ومع ذلك يبدو هذه المرة أن جوقة المنشدين لشعار الوحدة الوطنية لم تنجح في قطف الثمار التي ترغب واكتشفت، ربما متأخرة، بأن مياه كثيرة جرت من تحت أقدامها وأن قراراتها الفوقية لرص الصفوف والتعبئة ضد الخارج وضغوطه لم تعد تجدي نفعاً أمام حضور لافت لرؤية جديدة حول الوحدة الوطنية تستند إلى أولوية ضمان حقوق المواطنة وقواعد الحياة الديمقراطية بين الناس وفي علاقة السلطة بالدولة والمجتمع.

تاريخياً، سادت في سورية رؤية سطحية لمفهوم الوحدة الوطنية روجت لها النخبة الحاكمة والدائرون في فلكها قوامها مهمة سياسية واحدة لا تعلوها مهمة هي ضبط البيت الداخلي لمقاومة الاستعمار والصهيونية، فجاءت هذه الوحدة قسرية وفوقية، معادية على طول الخط للديمقراطية والحريات بل سلاحاً بيد السلطات لمحاربة خصومها والتنكيل بالمواقف المعارضة، ما أشاع تعارضاً مشوهاً بين الحرية والفكرة الوطنية ووضع إشارة مساواة ومطابقة بين السلطة والوطن، ليغدو كل من يفكر في إعادة ترتيب أوليات المهام السياسية مارق وخارج عن الإجماع الوطني وربما خائن وعميل!.

لم تلبث هذه الرؤية أن تحولت إلى ما يشبه الخطاب الإيديولوجي غرضه التعبئة السياسية لاستثارة العواطف والمشاعر الوطنية بعيداً عن لغة المصالح والوقائع الملموسة، ثم تقلصت مع الزمن وتكثفت في عنوان بسيط هو أن قوة المجتمع ووحدته من قوة السلطة ومنعتها، ما سوغ لهذه الأخيرة مختلف أساليب القمع والاضطهاد وسيادة طويلة الأمد لحالة الطوارىء والأحكام العرفية.

لكن بعد انهيار الحرب الباردة وسقوط ما كان يسمى الأسوار الحديدية، والأهم بعد دروس الحرب على العراق وتداعيات احتلاله، وفي ظل الحصاد الهزيل لسنوات من التعبئة الإيديولوجية، ثمة جديد فرض نفسه بقوة لصياغة رؤية مختلفة للوحدة الوطنية تجد أن نضج الوطن وتماسكه لا يتحققاk إلا في مناخالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، بما هي لحمة تحتية مبنية على أسس الحرية والتفاعل الطبيعي بين قوى المجتمع وفئاته المختلفة في مواجهة تحديات البناء والتنمية وما يهدد الوطن من أخطار، مستخلصة أن تماسك النسيج الاجتماعي ولحمته إنما ينبعان أساساً من الاندماج الطوعي لأبنائه المختلفين لكن الأحرار والمتساويين.

المجتمع السوري ليس مجرد كم من الأفراد أو الجماعات دون سن الرشد لا انتماء لهم ولا مصالح ويحق للنخبة الحاكمة تأبيد وصايتها على شؤونهم ومقدراتهم تحت شعارات وطنية عامة ومبهمة، بل هو مجتمع تعددي قومياً وطائفياً وغني بالتنوع الفكري والسياسي، فيه شتى مذاهب المسلمين والمسيحيين وقوميات تتباين ثقافاتها مع العرب كالأكراد والشراكس والتركمان والأرمن والآشوريين، ولا يغيب عن البال أيضاً حضور مختلف التلوينات السياسية والمرجعيات الإيديولوجية.

مثل هذه التركيبة عرضة للتصدعات والشروخ والتفسخ إلى بنى متخلفة طائفية وقبلية وعشائرية، إذا لم يسارع إلى الاعتراف بخصوصية مكوناتها واحترام حقوق هذه المكونات، وطبعاً لن تنجح في ترميمها الابتهالات وكثرة الدعوات للحوار والتقريب بين “القوميات والطوائف” أو “بين الأديان والمذاهب”، طالما ثمة إصرار على تغييب مصالح الناس وحقوقهم، فالحكاية أولاً وأخيراً هي حكاية مصالح وحقوق لا شعارات وعواطف، ولا ينفع تالياً الصراخ حول أهمية الوحدة الوطنية وضرورتها إذا لم يشعر كل من يعيش على هذه الأرض بأن له مصلحة حقيقية في الدفاع عن وجوده وتكافله مع المجتمع وتالياً عن وطن يقدم له ما يصون حرياته وكرامته وقوته اليومي.

وتأسيساً على ما سبق فإن الوحدة الوطنية الحقيقية تتعلق بتنامي شعور المواطنين بقوة انتمائهم لوطنهم وبمدى اعتزازهم بهذا الانتماء واستعدادهم للدفاع عنه والتضحية من أجله، فقوة المجتمع ووحدته تتأتى من قوة أبنائه الأحرار المتساوين المتحدين وبالمقابل ومناخ الحرية والديمقراطية هو ما يبعث في النفوس الحب الحقيقي للوطن وصدق الانتماء إليه. فماذا يرجى من وحدة وطنية تقوم بين بشر صاروا أشباه بشر لا حول لهم ولا قوة، أليس الخانع والمفقر والعاجز في مجتمعه هو أعجز عن محاربة أعداء وطنه؟

وبالتالي هل سأل من يحدثوننا عن الوحدة الوطنية أنفسهم أين الجهود المبذولة لخلق مناخ اجتماعي يعزز تطلعاتهم نحو لحمة داخلية متينة؟!..وكيف يمكنهم القول بتكريس مقومات التعاضد الاجتماعي طالما يستمر التمييز الصارخ بين المواطنين ويبخس حق غالبيتهم في فرص متكافئة ويطاح بقيم الكفاية والنزاهة لصالح الولاءات والعلاقات المتخلفة والمحسوبية؟!.. ثم أي تماسك داخلي ووحدة نبحث عنهما في وطن لا يشعر فيه أغلبية أفراده بالأمان لمستقبل أبنائهم ويلمسون لمس اليد كيف تقتصر الامتيازات على فئة قليلة من أصحاب النفوذ على حساب أغلبية ساحقة يكويها العوز الحرمان؟.

ثم ألا يحق لنا أن نعجب ممن يبدي حماسة متناهية للوحدة الوطنية وهو لا ينبس ببنت شفة عن ظاهرة الفساد وشيوعها، ولا يفكر كيف يسمح لنفسه الجمع في وحدته الوطنية بين قوى الشرفاء والمظلومين وبين مفسدين يسرقون ثروات الوطن ويهدرون مقدراته، أو حين لا يريد أن يعي حقيقة أن النجاح في تحقيق تقارب نسبي بين الطبقات في الدخل والحياة المعيشية هو ما يعطي الوحدة الوطنية منعتها واستقرارها، وأن أكثر ما يوهنها هو انحسار وزن الطبقة الوسطى وتقلص حضورها كما صارت حالها اليوم جراء ازدياد الفوارق واتساع الفجوة بين شريحة واسعة من الفقراء تزداد فقراً وقلة قليلة من الأغنياء تزداد غنى؟.

من جهة أخرى ألا يستدعي النداء من أجل الوحدة الوطنية الإقرار أولاً بالتعددية الثقافية وحل مشكلة الأقليات واحترام حقوقها؟! وبالتالي كيف يستقيم الحديث عن الوحدة الوطنية دون الاعتراف بحقوق الأقليات القومية وبالأخص القومية الكردية، ولنسأل أيضاً من يحدثوننا عن الوحدة الوطنية بأي حق يعلو صوتهم دفاعاً عنها بينما يستمر حرمان مئات الألوف من الكرد من حقهم الطبيعي في الجنسية السورية عداك عن تداعيات التهجير القسري للعديد من أسرهم والاستيلاء على أراضيهم وحظر نشاط أحزابهم ومنعهم من تعلم لغتهم وممارسة تقاليدهم وعادتهم الخاصة!.

فأن يقال إننا نريد وحدة وطنية أو نسيجاً مجتمعياً متماسكاً يواجه مختلف التحديات لا بد أن يعني هذا القول أول ما يعني، ضرورة العمل لتكون كل الانتماءات ما قبل الوطنية سواء العشائرية أم الطائفية أم الأثنية هي الأضعف والأقل حضوراً أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء إلى الوطن والثقة بالدولة ومؤسساتها الديمقراطية، وهذه النتيجة لن تكون حاسمة ومؤكدة إلا إذا اقتنع كل فرد بأن حقه مصان ومتساوٍ مع الآخر وأن ليس ثمة من يستطيع التعدي عليه كائناً من كان، فما شعور الإنسان بالحرية والمساواة والثقة بجدوى انتمائه لوطنه إلا صمام أمان التماسك الداخلي والحافز المشجع كي تتجاوز القوى الاجتماعية والسياسية حساباتها الخاصة والضيقة.

إن ما نحتاج إليه لبناء وحدة وطنية حقيقية ليس شعارات تعبوية بل إجراء تحولات ديمقراطية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتعزيز الدعائم الأساسية التي تعضد المجتمع وتؤكد حضوره ككيان موحد وفاعل. وبالتالي لن ينعم مجتمعنا بلحمة وطنية صحية إلا في حال البدء بتحرير السياسة من السيطرة الشمولية، من الوصاية والنمطية ومن سيادة الرأي الواحد والصوت الواحد، بما يعني التطلع لتقديم تنازلات جريئة على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة القانون، والقبول بالتعددية والاختلاف كمقدمة لا غنى عنها لصياغة عقد اجتماعي متوازن يوفق بين منازعات بشر تتباين همومهم ومصالحهم ويضمن للجميع حقوقهم على قدم المساواة في المشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى