الشباب العربي والهيب هوب.. صيحة عابرة أم ثقافة بديلة؟
نزار الفراوي
يشكل ولع شرائح كبيرة من مراهقي البلاد العربية بأنواع الموسيقى الغربية الصاخبة حالة جديرة بالمتابعة من زوايا عديدة سوسيولوجية وثقافية. وبينما يعتبر البعض أن هذا الإقبال أمر طبيعي يعكس تفاعل شباب اليوم مع التيارات الفنية التي تفرض نفسها عبر وسائط الإعلام المختلفة، فإن أصواتا واسعة تدق ناقوس الخطر حول ما تعتبره خطرا يتهدد الهوية الثقافية لأمة بأسرها.
ينبغي التذكير بأن حضور الألوان الموسيقية الغربية الحديثة في الشارع العربي ليس حدثا جديدا، فمنذ الستينيات حملت الوسائط التواصلية المتاحة صدى تفاوت مداه في صفوف الشباب لموسيقى الريغي والجاز والروك وغيرها، غير أن الجدل والتخوف تصاعد بشكل غير مسبوق مع ظاهرة الهيب هوب وغيرها من موسيقى يوحدها الرهان على الإيقاع الصاخب المفضي إلى انفراط جسدي عارم.
ويجد هذا الجدل سنده في احتدام الاستقطاب بين منظومة ثقافية تدافع عن قيمها ونظامها الجمالي وخصوصياتها الحضارية وبين منتوج عولمي ممركز يراهن على التمدد عبر القارات مدعما بآلة اقتصادية كاسحة.
الهيب هوب.. الميلاد والانتشار
الهيب هوب نمط موسيقي غنائي يعتمد أداء الكلمات دون الالتزام بلحن معين أو إيقاع منضبط. تعود أصوله إلى بزوغ فن “الراب” في كينغستون بجاميكا نهاية الستينيات كنوع متفرع عن الدانسهول (dancehall). وقد انتشر في صفوف الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية بداية السبعينيات، خصوصا في نيويورك، ليأخذ بعدا عالميا منذ التسعينيات.
تتمحور مواضيع هذا النوع حول تعبيرات احتجاجية ضد الحالات المعيشية اليومية تصاغ في جمل سريعة يصعب معها على المستمع أحيانا تفكيك المعنى. ويعد “الراب” الجانب الغنائي من فن الهيب هوب الشامل الذي يعتمد أيضا ما يسمى الـ”أم. سي” (Master Ceremony) أو “قائد الاحتفال”، وهو عادة الشخص الذي يتواصل مع الجمهور خلال الحفل الموسيقي مقدما العازفين وممازحا ومنشطا الحضور.
كما يتضمن الـ”دي. جي” (DJ) وهو اختصار لتعبير “فارس الأسطوانات”، الذي يتولى برمجة الأسطوانات الغنائية في المناسبات المختلفة، فضلا عن الرقص المميز المعتمد على حركات رياضية بهلوانية.
ويدخل ضمن منظومة الهيب هوب فن الغرافيتي، أي الرسم أو الكتابة على الجدران. ففي حين تختلف التكهنات حول الأصل الإيتيمولوجي لمصطلح الهيب هوب، حيث ينسبها البعض إلى لوف بوغ ستارسكي بداية السبعينيات ويرجعها آخر إلى دي جي هوليود، فإن رواجه الواسع عُرف على يد مجموعة سوغرهيل غانغ التي صدحت به في شريط صدر سنة 1977، وكان من أوائل إبداعات الراب الأميركي.
وقوبل الهيب هوب، الذي تبلور كصوت احتجاجي لغيتوهات الأميركيين السود في نيويورك، بتجاهل من جانب تيارات المجتمع الأميركي، لكنه ما لبث أن حفر مكانته بحلول الثمانينيات مدشنا طموحا آخر يحاذي العالمية.
فقد فاضت الموجة الجديدة عن حدود الولايات المتحدة لتغزو شبيبة العالم أجمع، وخصوصا الشباب الأوروبي. وتلقفت ألمانيا هذه الظاهرة مبادرة إلى تنظيم بطولة عالمية سنوية في مدينة بريمن.
وفي العقد الأخير من القرن العشرين، اكتسحت ثقافة الهيب هوب بتعبيراتها المختلفة وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، وأصبح نجوم هذا الفن سادة في ميدان الإعلانات تنافست على استقطابهم كبريات شركات الأحذية الرياضية والمشروبات الغازية والأزياء.
الاكتساح عربيا.. طرقات على جدار المحافظة
بينما ظلت دول شمال أفريقيا المنطقة الأكثر احتضانا وتجاوبا مع التيارات الموسيقية الغربية بحكم اتصالها الجغرافي وشبكة مبادلاتها الثقافية لما بعد الاستعمار مع أوروبا، وكذا بفعل اتساع قاعدتها الشبابية وتوسع مجالها المديني حيث ضمور سلطة الجماعة المحدودة واتساع مجال الخيارات الفردية، فإن جديد صيحة الهيب هوب اقتحامها جغرافيات جديدة في العالم العربي عاندت طويلا رياح الغرب، ما أصبح معه من الممكن الحديث عن مخاض لتبلور لغة موسيقية جديدة بين الأجيال العربية من المغرب العربي إلى مصر وبلدان الشام وحتى العربية السعودية واليمن.
ويتساءل البعض بنوع من الفوبيا الثقافية عما إذا كانت الكلمات غير المفهومة، بل المنبوذة في المعجم الجمعي الحضاري للعرب، والإيقاعات المدوية السريعة وطقوس أداء واستهلاك هذا اللون الرموز الوحيدة التي ستجمع شباب أمة خذلته عثرات السياسة ووعود المستقبل الجماعي المشرق.
ففي المغرب أصبح الهيب هوب عنوان جيل موسيقي كامل تنطق بلسانه المجموعات الشبابية العديدة التي نشأت في جل المدن الكبرى وحتى المتوسطة.
ومن التطورات اللافتة على هذا الصعيد أن هذا النشاط الفني حصل على دعم رسمي من الدولة تمثل في رعاية مهرجانات خاصة في مقدمتها ما سمي بمهرجان “البولفار” الذي أصبح موعدا عالميا تحتضنه الدار البيضاء سنويا. كما وجد هذا الفن طريقه إلى مؤسسات الإعلام العمومية التي باتت تدرجه بشكل شبه قار ضمن التشكيلات الفنية لسهراتها الأسبوعية.
وفي الجزائر، ولدت ظاهرة الهيب هوب في حضن الغضب الشعبي عقب مظاهرات أكتوبر/تشرين الأول 1988 ضد غلاء الأسعار وتدهور النظام التعليمي. وسطع نجم فرقة “أم. بي. أس” (الميكروفون يكسر الصمت) وغيرها مؤسِسة لونا يراهن على مزاحمة فن الراي وباقي الألوان التقليدية ذات الحضور الواسع في الشارع الشعبي الجزائري.
على أن ما يلفت الانتباه في حركة اكتساح هذا النشاط الموسيقي ولوجه ولو المحتشم للمجتمعات الخليجية التي تعيش مخاض انتقال ثقافي عسير بفعل استقبالها تدفقات هائلة من الجاليات الأجنبية وانفتاحها المحتوم على رياح العولمة والصور الفضائية. ففي السعودية، مهد التقليد والمحافظة، تسعى أول فرقة راب محلية تحمل اسم “أساطير جدة” إلى تثبيت أقدامها في وسط اجتماعي متردد إزاء التيارات الوافدة من الخارج.
وتحاول الفرقة، التي أنشأت سنة 2005 استوديو لتشجيع فن الهيب هوب، تطوير مزيج موسيقي بين أغاني الهيب هوب والقوالب الموسيقية الحجازية.
ولم يستثن هذا الفن بلدانا منطوية على نفسها فنيا من قبيل اليمن، أو متأزمة سياسيا وأمنيا من قبيل فلسطين حيث ركب شباب فلسطينيون موجة الهيب هوب بلغة احتجاجية تغني للسلام والحرية. كما تنتشر مجموعات تتفاوت أهميتها في دول مصر والكويت والبحرين ولبنان وتونس.
عطش جيل أم فشل مشروع مجتمعي؟
عوامل متشعبة تيسر تغلغل هذه الصيحة الموسيقية التي تحطم كل القواعد الفنية للأداء الكلاسيكي، منها ما يرتبط بالوضع الثقافي للبلدان المستقبلة ومنها ما يرتبط بالأمر الواقع الذي تفرضه حركة العولمة وسيولة المنتجات المادية والرمزية عبر الحدود.
يرتبط اتساع نطاق التلقي والتفاعل مع موسيقى الهيب هوب في العالم العربي إلى حد بعيد برغبة الشباب في تجريب عوالم إبداعية خارج جغرافيته الخاصة التي تصبح في بعض الأحيان سجنا رمزيا والبحث عن مرجعيات فنية مغايرة تصنع استقلاليته وتميزه وتعطيه نشوة –ولو واهمة- بالخروج من جلباب الأبوة الفنية التي يفرضها مذياع بيت الأسرة ووسائل الإعلام الرسمية وأناشيد المدرسة العمومية.
الوافد الجديد يقعد مكانته على حالة الاستقالة غير الإرادية للمؤسسات التي كانت تقولب وتصوغ الذوق الفني الجماعي وتكرس سيادة الأنماط الموسيقية التقليدية التي توزعتها الفنون الشعبية ذات الانتشار الواسع بين الشرائح البسيطة والمواريث القديمة المتعددة الروافد (أندلسية، أمازيغية، أفريقية، بدوية..) فضلا عن الموسيقى الشرقية الحديثة.
والنتيجة، انشطار لمفهوم الذوق العمومي الذي فقد الكثير من دلالته، بحيث باتت الأسرة موزعة في خياراتها بين أب عاشق لأم كلثوم وعبد الوهاب، وفتاة مأخوذة بهيفاء وهبي، وابن مهووس بنجوم الراب الذين تملأ ملصقاتهم جدران البيت.
وبينما كان استهلاك الموسيقى يجمع الأسرة العربية في موعد فني منتظر ببالغ التشوق والحماس، ها هو يعمق الهوة السحيقة بين الأجيال ويطرح سؤال الاغتراب الذاتي داخل الجماعة الأم.
وإذ يحاول بعض المراقبين التقليل من وقع هذا الحال المضطرب باعتباره مرحلة طبيعية ومحتومة من مسار التطور الثقافي للمجتمعات في زمن العولمة وتهاوي الحدود بين الجماعات الوطنية ونتيجة مفهومة لسعي الشباب إلى تشكيل ذات مشبعة بخياراتها الخاصة، فإن جل المهتمين بالظاهرة يقرنون الحالة الموسيقية الراهنة بفشل المشروع المجتمعي الذي تباشره الدول العربية منذ استقلالها وعجز السياسات العمومية عن تلبية الحاجيات المعيشية والرمزية للمواطن الذي وجد نفسه كائنا أعزل أمام محمولات العولمة.
من هذه الزاوية يكون الانخراط في موسيقى الصخب الكهربائي ضربا من الاحتجاج على المأزق المجتمعي بمحاكاة تعبيرات ثقافية وافدة من الفردوس الغربي العصي على الولوج، وإن كان البعض يصر على نفي أي قصدية ثقافية أو رسالة موضوعية عن هذه الممارسة الفنية أداء أو استهلاكا.
إنها في نظر هؤلاء مجرد حالة استيلابية لشرائح من الشباب لم تسلح بما يكفي من العدة الثقافية الوطنية بسبب تدهور فعالية المؤسسات الاجتماعية المختلفة، فوجدت في الهيب هوب مجالا خصبا لركوب موجة العبث واللامعنى الناطقة بمستوى اليأس الذي ينخر النسيج الاجتماعي للبلدان العربية.
تصعيد الاستقطاب الثقافي
لا يشكل الشباب العربي المقبل على الهيب هوب استثناء ضمن شبيبة العالم، فنجاحات هذا اللون واضحة في أقاصي معروفة تقليديا بالممانعة للتيارات الوافدة من الغرب من قبيل الصين واليابان وأميركا اللاتينية.
والواقع أن وسائط الاتصال الضخمة، التي تسوق لهذه المنتجات وتجعلها سلعة في متناول الجميع، تفرض طقوسها وإكسسواراتها الشاملة من أزياء ومرفقات معدنية وتسريحات عجائبية.
انتشار الهيب هوب حصيلة لتدفق سلعة رمزية يسندها اقتصاد موسيقي يروج ملايين الدولارات انطلاقا من استوديوهات الولايات المتحدة وأوروبا الغربية بدرجة ثانية.
وهذا النمط من الاقتصاد يراهن على الاستهلاك الواسع عبر توفير مواد في متناول أوسع الشرائح. هذا الأمر يصنع جانبا آخر من تفرد موقع الهيب هوب في المشهد العربي الحالي مقارنة مع حضور الألوان الغربية الأخرى في عقود سابقة، والذي كان يقتصر أساسا على نخبة شبيبية في المدن الكبرى لها حظها من التعليم وتنتمي إلى الطبقات الميسورة والوسطى.
لقد غدا العالم العربي ساحة صراع بين كتلتين ثقافتين إحداهما محلية تكابد من أجل الصمود أمام رياح التغيير العاتية وأخرى معولمة تروم القفز على الحدود في عالم/سوق مفتوحة، وهو صراع يعمق مشاعر التوتر الثقافي والاجتماعي الذي يسم المجتمعات العربية التي تراوح ترددها السرمدي بين القديم التراثي والحديث الوافد من الغرب.
وهذا الصراع مرشح للتصاعد أمام بروز مؤسسات اجتماعية سياسية وإعلامية مستعدة لدعم هذه الظواهر ربما من وحي قناعات ثقافية وأيديولوجية لكن أحيانا بوازع سياسي قوامه مناكفة الإسلاميين وكبح قوتهم التعبوية في صفوف الشباب الباحث عن الهوية، عبر فتح هوامش أوسع للترفيه وتعزيز اندماج الشباب في نمط حياة حداثي يقطع مع المنظومة المحافظة التي يدافع عنها الإسلاميون.
في أجواء مماثلة، برزت في المغرب مثلا إذاعات خاصة تؤسس قاعدة مستمعيها على عشاق الهيب هوب وباقي أنواع موسيقى العصر الإلكتروني.
الهيب هوب ليس موسيقى فقط، وهنا مكمن الجدل الذي تسلل إلى الدوائر الثقافية والسياسية، إنه نمط حياة متكامل ومتعدد العناصر يدمج فضلا عن الموسيقى مستويات الهندام واللغة اليومية والعلاقات الإنسانية وغيرها.
ويجدر التوقف في هذا السياق على الدراسة التي أنجزها الدكتور إميت جي. برايس أستاذ الموسيقى والدراسات الأفريقية الأميركية في جامعة نورث إيسترن ببوسطن حول تأثير الهيب هوب على اللغة الإنجليزية من أجل تبين جانب من المفعول القوي لهذه الممارسة على المنظومة الثقافية وخصوصا اللغوية.
سجل الباحث اتساع النطاق المعجمي للغة الإنجليزية بعبارات جديدة تعكس تصنيفات شباب الهيب هوب وتأملاتهم في واقعهم الوجودي والاجتماعي، معبرا عن التباس الوضع اللغوي الناجم عن غزو عبارات الهيب هوب بقوله “لا يمكن التكهن بما سوف نقوله أو نكتبه خلال السنوات الثلاثين القادمة”.
وإن كان هذا التشخيص المضمر لكثير من التوجس والقلق إزاء المحمول الثقافي للهيب هوب صادرا من التربة التي نشأ فيها هذا اللون الموسيقي، فإنه أحرى وأحق أن يطرح في حضن نظام ثقافي عربي شكّل طويلا اللحمة الجامعة لكتلة سكانية تمتد من المحيط إلى الخليج.
كما أن على مؤسسات التنشئة الاجتماعية في البلاد العربية أن تقرر ما إذا كانت ستسمح للهيب هوب أن يكون حاضن يتامى المأزق الحضاري العربي في مستقبل ملبد بالأسئلة أم لا.
ــــــــــــــ
كاتب مغربي
الجزيرة نت