في ما خصّ الفساد… المقدّس
(أظهر استطلاع للرأي نشرته صحيفة «الثورة» الرسمية الأربعاء 20-2-2008، أن الغالبية الساحقة من السوريين يعتبرون أن الفساد ينتشر في مؤسسات الدولة، وفي مقدمها النظام القضائي. فرداً على سؤال «هل تعتقد بوجود الفساد في الدوائر الرسمية والحكومية؟»، أجاب 450 شخصا بنعم من أصل 452 شملهم الاستطلاع).
الاستطلاع مرعب ومذهل و»خيالي» ويشبه الإعلان عن ظهور الأعور الدجال بغتة، واكتشاف درجة ثامنة في السلم الموسيقي وتخريم التعريفة. وإنني حالما قرأت الاستطلاع قرصت نفسي، فعلمت أني في علم ولست في حلم، ولم أجد رد فعل على هذا الاستطلاع المجيد «الذي يستحق أن يكتب بالإبر على آماق البصر» سوى بمقطع متخيل من تراجيديات شكسبير، نفذته فورا أمام المرآة:
أنت يا زيوس، يا كبير آلهة الاولمب، ، وأنت يا أشباح الظلمة البيضاء، وأنت أشرعة الجهات السبعة الممزقة بسيوف الخطابات الخشبية، تعالي… وإليك عني أيتها السيرينات الشمطاء، يا صاحبة الاستطلاعات السحرية، يامن تخلبين ألباب المهاجرين والمقيمين، ودعيني إلى جراحي وآلامي… فهذا العالم ليس مملكتي».
وصف الاستطلاع بالندرة كما رآه احد المراقبين الحصيفين غير منصف، بل إني أميل إلى اعتباره معجزة مثل مذنب هالي الذي لا يطل إلا كل سبعين سنة، فلمَ هذا الاستطلاع في «هذا الوقت الحرج من تاريخ امتنا»؟ و من الغريب أنه عقب الاستطلاع لم تشكل لجنة طوارئ حكومية شكلية، أو لم يكلف من يلزم للتلميع بقيادة حملة لمكافحة هذا الفساد الشامل واعتقال «جان فالجان» سوري، يعلن بعد اعتقاله ولادة جديدة للوطن ثم يعود حليم إلى فساده القديم… المقيم… الظليم…
الغريب أن نسبة المقرين بالفساد 99 بالمئة، وهو رقم مقدس من جهتين: سموية و«ديموقراطية شعبية»… حقا انه استطلاع كثيف وتراجيدي وكوميدي وادعى للتأمل أكثر من غرنيكا بيكاسو…
لمَ مرّ الخبر كبابا نويل اسود اللحية، في قصور وجنان افغانستان… بلا ندوات تلفزيونية، حتى الموسيقار السوري في قناة الجزيرة في برنامجه المعروف «الاتجاه الموافق» لم يعزف على اوكورديونه الخفي في برنامجه الشهير ليقول: …وبالمقابل لمَ نستكثر على سورية الفساد في حين أن كبرى الدول الديموقراطية تعاني من حمى الفساد وآلامه الممتعة، الم يتهم موشيه كتساف في اسرائيل الديمقراطية بالفساد الجنسي (ونحن منه براء!) ألم يتهم اولمرت باختلاس أموال الانتخابات، ألم يتهم عامير شارون بقبض رشا وعمولات…؟ وقد يقتطع آية من سياقها بالقول: كثر الفساد في البر والبحر… فنقول جميعا: صدق الله العظيم ثم نستغفر لجميع الفاسدين!! ونبكي عليهم لأنهم يلطخون ياقاتهم البيضاء بدمائنا القذرة… هل حقا أرسلت أوراق استطلاع لمواطنين سوريين مقيمين ودونوا آراءهم بلا خوف!! (مخرج سوري قال انه يشك في استفتاءات الرأي الخاصة بالمسلسلات لأن المواطنين يخافون من أن تعتبر آراؤهم السلبية خيانة «وطنية»)، والحق ان استطلاعنا أهم من ذلك المنسوب إلى «الكولومبس» السوري الذي وصل بدراسة عتيدة والمنشور في «كلنا شركاء» أن قارة المجتمع السوري جماعات وأقليات ليس فيه أكثرية، لأن هذا الاستطلاع صادر عن صحيفة رسمية… نقترح هذه التفسيرات للاستطلاع، للاطّلاع والتأمل والاستعبار و… التسليم:
1 ـ لتعليمنا الصبر والحكمة تأويل الأحاديث والتنجيم في فنجانين الغيب السوري،
2- نكء أهم أوجاع جراح السوريين لنسيان جراح فلسطين النازفة،
3- إما أن الغرض منه إعادة الاعتبار للسلطة الرابعة أو أن الغرض منه تحويلها إلى سَلَطة،
4- الغرض منه منافسة كذبة نيسان بصدق العشرين من شباط!
5- الغرض منه تطبيع الشعب على الفساد والتعايش معه وتركه إلى أخلاقه، أي بلغة اشتراكية «تأميم الفساد» حتى تضيع الطاسة ونصبح في الهواء سوا شعبا و… فاسدين،
6- الاستطلاع مرّ بلا اثر لأن ثمة رأيا سلطويا يتعامل مع الفساد كمزاحة وشقاوة أطفال!،
7- تفسير بالرأي شائع الذي يقول بالإفساد والتفسيد لجعل «المواطن متهما تحت الطلب»،
8- الاستطلاع يرمي إلى اعتبار الفاسد قدرا وضربة لازب… منذ أبينا آدم- عليه السلام ومنه الاعتذار- الذي مد يده إلى تفاحة ليست له… ومن شابه أباه فما ظلم،
9- الغرض من إعلان هذه «الحقيقة» هو التعويض عن عجز الحكومة عن رفع الرواتب التي رفعتها كل الدول المجاورة (الأردن، السعودية، الإمارات…) بحلوى الحقيقة… المرة .أليست الحقيقة «أثمن» و»أغلى» ما في الوجود. إنها أغلى «ترفيعة أجور رواتب» على الإطلاق. يبقى نافلا القول: إن الحقيقة جميلة لأنها الطريق إلى العدل الأجمل منها.
10- يمكن أن يكون الاستطلاع وهميا وصوريا والمخابرات وراء تلفيقه وليس الصحافة، فصحافتنا هي صحافة أعمدة وزوايا وتكايا… والغرض منه بعث الأمل في نفوس الشعب والقول: موتوا قهرا، دقوا رأسكم بالحائط… و أن الأم (الحكومة) لن ترضع ابنها الشعب إلا إذا تألم… فاصرخوا و»ابكوا من اجل القمر».
11-يمضي التقرير إلى أن معظم المستطلعين يعتقدون أن البلدية والشرطة اقل فساداً من سلك القضاء، الذي هو المؤسسة الرسمية «الأكثر فسادا»؛ وعليه نقول: اللهم لا نسألك رد القضاء بل نسألك اللطف فيه.
12- الغرض منه التصدق عن روح الرأي الآخر المسفوح بعزاء حق الارتشاء. فمعظم المستطلعين يظنون أن المعاملات «لا تمشي» إلا برشوة،
13- إن معركة محاربة الفساد الشاملة مؤجلة طبقا للقانون الطارئ والعرفي: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة… مع طواحين دون كيشوت.
14- الغرض منه التمهيد لوزارة اسمها وزارة مكافحة الفساد كما ذهب العيّار عيسى بن هشام!
تذكير: الصحيفة صاحبة الاستطلاع اسمها «الثورة»، حقاً… لكل مسمى من اسمه نصيب؟!
ــــــــــــــــــ
*كاتب سوري مقيم في السويد
الحياة – 13/03/08