آآه ياغوّار… في وضح النهار يضيّعون الحق الهدّار
بدرالدين حسن قربي
في بلاد غوّار لايضيع الحق الهدّار، عنوان مقالنا السابق أثار بعضاً من النقد نيلاً من مصداقية المقولة والمقال، وادعاءً علينا باعتماد مقولة غوار، وترك قول الواحد القهار. قلت: معاذ الله، إنه ربي أحسن مثواي. ورغم كل الشروحات والأدبيات والواسطات والمهارات التي استخدمناها لإيقاف الهجوم، وكدنا أن نحقق بعض الاختراقات لولا أن جاءت العملية الإرهابية الجديدة مساء 14 تشرين الأول/أكتوبر الجاري في إحدى القرى السورية المستلقية قرب الحدود اللبنانية التي استهدف منفذوها عدداً من المدنيين العزل ترويعاً وقتلاً، لتُسكت كل دفاعاتنا وتُحبط كل فذلكاتنا أمام جريمة بشعة تؤكد بكل الثقة ضياع الحق الهدّار على مرأى الأبصار وعن سابق إصرار، وفي وضح النهار.
ظهرت سيارة بيك آب نوع شيفروليه حمراء اللون منصوب فوقها مدفع رشاش آلي متوسط فجأة وعلى طريقة الرامبو الواثق الخطوة قام من فيها بإطلاق النار الكثيف من مدفعهم وبنادقهم على أشخاص مدنيين عزْلٍ بلباس الراحة متواجدين داخل وأمام بقالة في قرية المشيرفة يشربون الكولا ويتبادلون الأحاديث، وعلى طريقة عصابات المافيا المدعومة والمسنودة ممن لاتخاف في القتل والترويع لومة لائم، نفّذ من نفّذ جريمته وبقلبٍ بارد بقتل اثنين وجرح اثنين، ومضوا إلى غايتهم وكأن شيئاً لم يكن.
كان متوقعاً للعملية أن يكون ضحاياها أكثر، لأن الكثير من شباب القرية عادةً يتجمعون عند البقالة، ولكن لطف الله وعنايته تداركتهم فضلاً عن أنهم كانوا يتابعون المسلسل التلفزيوني التركي ساعة الجريمة، كما تدراك المدنيين في التفجير الإرهابي الذي سبق هذه العملية قبل أسبوعين مقابل مجمع أمني في دمشق فكان يوم عطلة.
مضت أيام على جريمة القتل، ولم تعاين الجهات الرسمية بعدُ موقع الجريمة ولم تحقق فيها، وكل جهة رسمية يطالبها أهل الضحايا بالتحقيق تبدي عذرها الخاص بها. والأدهى أنه في الوقت الذي تحفّظ فيه أهل الضحايا بجهدهم على مسرح الجريمة وآثار إطلاق النار والدماء وغيره، وطالبوا بفتح تحقيق في القضية بحثاً عن العدالة، تمّ إحراق الموقع مجدداً بعد عدة أيام إمعاناً في التغطية على الجريمة وآثارها. الملفت في الموقف من العملية الرامبوية البشعة اتفاق جميع منظمات المجتمع المدني السوري المرخصة منها وغير المرخصة، وتميزها بحركة مشهودة للمرة الأولى إدانهً للجريمة البشعة ومطالبَةًَ بحق السوريين جميعاً بالعيش الآمن والكريم، والتي كانت بعد مبادرةٍ منهم بتشكيل لجنة تقصي حقائق خاصة ذهبت لمعاينة موقع الحدث، ومن ثمّ اختصرت موقفاً وطنياً بليغاً وقد طفح كيلها يسجَّل لها مجتمعةً ومطالبةً بكف يد بعض العناصر الأمنية مهما علت رتبتها عن العبث بأمن المواطنين. وكان من الملفت أيضاً تجمع أكثر من مئة محامٍ أيضاً لزيارة موقع الجريمة للمعاينة والاطلاع عليها عن كثب، واختصارهم للموقف والمشهد جملةً وتفصيلاً بعبارة جاءت أشبه ماتكون لجوامع الكلم: لقد شعرنا في لحظة واحدةٍ أننا في وسط غابة. بالطبع لاينتقص من مكانة الموقف وأهمية الزيارة موقف بعض الصحف والمواقع والكتاب بالتغاضي التام عن الحادثة الإرهابية البشعة وكأنه لاعلاقة لها بشيءٍ اسمه إعلام أو ميديا. أما الموقف اللافت والمريب حقيقة فهو موقف الجهات المعنية التي تعاملت مع الحدث وكأنه في دولة من جمهوريات الموز الصديقة خارج سورية ولايعنيهم منه شيء، ولتبقى الجريمة حدثاً ملفوفاً بغموض رسميٍ كالعادة لانسمع لهم همساً رغم كل ماقيل ونشر من جهات خاصة بهذا الشأن، وليبقى الفاعلون محفوظين محصّنين بحصن حصين من مراسيم لايهمنا رقمها ولا رقيمها، ولايمكن ليد الحساب والعقاب أن تطالهم مالم تأمر جهة عليا بعينها وتوافق على ذلك. فإذا علمنا بأن أحد العتاولة الكبار ممن كان على صلة بالعملية أثاره اتهام وقول والد أحد الضحايا له بإن دم ابنه في رقبته، فاقترب منه قائلاً: هيدا الأمر مو من عندي بل من عند أعلى سلطة في البلد. وهو بالطبع كلام يشكك فيه من يشكك ويؤكده من يؤكد، ويتهِم بالتسييس من يتهم، ولكن ماهو أهم من التشكيك والتأكيد وكلام المغرضين والمسيّسين والأعداء المتربصين وقائع على الأرض تظهر الرعونة والاستهتار، منها حرق موقع الجريمة، وعدم معاينته من قبل أي جهة رسمية فضلاً عن عدم مباشرة تحقيقٍ ما، وهو مما يأخذ بنا والعياذ بالله لتصديق ماقيل للوالد المصاب.
للتذكير، إن جريمة المشيرفة جاءت بعد جريمة قبيحة وبشعة أيضاً وإرهابية كانت مقابل أحد أكبر الفروع الأمنية في دمشق، ورغم ملاحظتنا اختلاف طبيعة الجريمتين، ورغم كل الملاحظات والتساؤلات الإيجابية والسلبية التي ذكرت عن التعامل الرسمي مع جريمة الإرهاب الأولى فإن رد الفعل الرسمي في الثانية كان منعدماً حتى الآن.
فإذا علمنا بأنه عقب انفجار السيارة في العملية الإرهابية الأولى ضربت قوات الأمن مباشرةً طوقها في المكان منعاً للاقتراب منه، وردمت حفرة الانفجار، وأزالت الأضرار وآثار الجريمة الإرهابية في نفس الوقت الذي قامت فيه باعتقالاتٍ واسعة بحثاً عن مشبوهين ومتهمين، فإنها في العملية الثانية لم تفعل شيئاً من هذا بل على العكس جاء من طرف المجرمين من أحرق مكان الجريمة. وإذا كانت الجهات الرسمية في الجريمة الإرهابية الأولى أفادتنا وعلى مدى ثلاثة أيام عن السيارة التي باتت بفعل التفجير هباء منثوراً عن رقمها الخاص والعام ولونها وأصلها وفرعها وجهة قدومها، وأنها دخلت البلد قبيل يوم واحد من تاريخ الانفجار الكبير، وأن إرهابياً تكفيرياً كان يقودها لحظة انفجارها، وأن الموضوع بجملته يشير إلى جهات إقليمية عدا إسرائيل متورطةٍ هدفها التشويش على صورة الأمن والاستقرار الذي تنعم فيه سورية وطناً وشعباً، فإن الأمر في الجريمة الثانية رغم أن السيارة لم يمسسها سوء كان مختلفاً وكأنها سيارة صنعت بلاهوية وليس لها أرقام، نزلت من السماء أو خرجت من الأرض، ولم تأت من أي جهة كانت، ولم يكن أحد وراءها من أعداء الأمة والحاقدين عليها، ولم نسمع عن سائقها والذين فيها من التكفيريين أو الجهاديين أو المناضلين أو الشبيحة أو اللصوص أو عصابات المافيا، وكأنها سيارة تعمل بلا سائق ولاتحمل ركاباً، تعمل تلقائياً قتلاً وترويعاً هدفها دعم الأمن والاستقرار على عكس السيارة المتفجرة الأولى. وإذا كان منفذو الجريمة الإرهابية الأولى تكفيريين استهدفوا المدنيين والأبرياء من الناس فتوعدهم كبراؤنا بالعقوبات الرادعة والاستئصال المريع، وزاد عليهم شيوخنا وساداتنا بالعذاب الأليم في نار جنهم، فإن منفذي الجريمة الثانية بصمت ساداتنا وكبرائنا تبدّوا وكأنهم مقاومون وممانعون استهدفوا مجرمين وإرهابيين، دماؤهم مهدورة وأرواحهم مباحة حتى خيّل إلينا أن المنفذين إلى جنات الخلد مصيرهم لايلوون على شيء وهم فيها يُحبرون.
وإذا أرادت الجهات الرسمية أن تقنعنا بلا دليل أن منفذي الجريمة الإرهابية الأولى من التكفيريين ديناً وعقيدة فهل لنا أن نقنعها وبالحجة البالغة أن من نفذوا الثانية هم من التكفيريين الجدد وطناً وانتماءً، يريدون بممارساتهم الباطشة الدموية والتصفوية القاتلة تكفيير الناس بأوطانهم، وأنه إذا لم تكن جريمتهم إرهاباً وترويعاً وتكفيراً فكيف يكون الإرهاب والإرهابييون وكيف يكون التكفير..!!؟
نقول مانقول إدانةً وشجباً واستنكاراً لكل اعتداءٍ على حياة الآمنين وترويعهم ولكل عملٍ إجرامي ينال من أمن الناس وحياتهم في دمشق وفي المشيرفة وفي المعرة سواء كان من فرد أو جماعة في المجتمع والدولة، ومطالبةً بمحاسبة القتلة مهما كانت رتبهم ومكانتهم في هذه الجريمة النكراء وغيرها. إن ترك منفذي جريمة ما مهما كان شأنهم ومهما علت رتبهم من دون حساب أو عقاب إنما هو التسييس بعينه ومعناه يقيناً ضياع الحق الهدّار، والسير بالوطن إلى الخراب والدمار. وهي حقيقة لايجادل فيها أحد ولو قال بغير ذلك غوار.
* كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –