تنويعات على فنون مارسيل خليفة
محمد دكروب
في قديم الزمان، ربما منذ ثلاثين عاماً، وأكثر، كنتُ شاباً، وكان جسدي مشحوناً بالحيوية والاشواق والتحفّز.
أقول هذا، لأن الشاب الدائم مارسيل خليفة وخلال أمسية له ليست بعيدة أرجعني الى صباي، البعيد، وقذف بي الى وسط حشد جماهيري هائل (ربما في “ملعب الصفا” أو غيره) لم أكن قد شهدت له مثيلاً من قبل: ألوف من الصبايا وألوف من الشباب يصفقون مع إيقاعات الاغاني والموسيقى. وكان ذلك الشاب محمد دكروب وسط ذلك الحشد الذي وسط ذلك الملعب الواسع، أرفع يديّ أصفّق عالياً وجسمي يتمايل مع إيقاعات الصوت والانغام، ومع ايقاع فتاة متوهجة ترقص لأغاني مارسيل خليفة وللحشود ولنفسها ولعاشق ملتاع – ايام زمان – اسمه محمد دكروب. ولا تزال أنغام خليفة تلك، وكذلك الاشواق والإلتياع، موجودة في الروح، تنعشها الذكرى فتفعل مفاعيلها حتى في يومنا هذا. لماذا احتشد هذا الحشد غير المسبوق؟ هل احتشد الالوف لسماع صوت مارسيل ذي التأثير الخفي والواضح في النفوس والقلوب وفي العقول معاً؟ أم للتجاوب مع سحر العود وموسيقاه وايقاعات الالحان والكلمات؟
لعلّي موقن ان تلك الحشود في ذلك الزمان الاول كانت تأتي لتتفاعل مع المعاني الكفاحية لتلك الاغاني، ثم لتنتشي بالصوت وبالالحان التي تتآخى حماستها وايقاعاتها مع الروح الكفاحية لتلك الاغاني.
في مسار العلاقة مع الجمهور
على ان مارسيل خليفة، الذي استطاع منذ تلك البدايات أن يحافظ على جماهيريته تلك وينمّيها، كان يعمل بوعي فني وذكاء على تطوير التذوّق الفني لهذه الجماهير مع تطويره لأغانيه وموسيقاه، ومع الارتقاء المتواصل والدؤوب بموسيقاه هذه الى الأرقى والأكثر تنوعاً واتساعاً وعمقاً وتعقيداً.
لم يستطع فقط أن ينمّي جماهيريته ويزيدها اتساعاً وتنوعاً وتجاوباً، بل هو استطاع، بدأب ووعي، وبممارسة فن التواصل الشعوري والعقلي مع الناس، أن يطوّع جماهيره هذه للجديد غير النمطي وغير التطريبي، وللتطور الارتقائي في الفنون المتعددة التي يبدعها: الغناء، التأليف الموسيقي، والعزف.
كيف نفسّر هذا؟ أكثر المغنّين، وحتى الكبار منهم، ينتقون القصائد ذات الكلام الجميل والمعنى الرائق، من دون أن يشترطوا في القصيدة أن تكون من تلك الانواع التي تعبّر في الوقت نفسه عن موقف هذا المغني بالذات، سواء موقفه في الحب أم توجهه الفكري وحتى السياسي أم الكفاحي. ذلك المغني هو كالممثل الذي يؤدي الدور الذي يُعطاه، سواء أكانت طبائع الشخصية التي يمثّلها تتشابه مع شخصية الممثل أم تتناقض معها. وهذا ليس عيباً في التمثيل بل هو من أهم ميزاته.
لكن مارسيل خليفة في أغانيه والاشعار التي ينتقيها لا يغني الاشعار التي تتناقض أو لا تتشابه مع موقفه وفكره ورؤاه ومزاجه الحياتي، بل هو، في أعماله الفنية، في جميع أعماله الفنية يقول نفسه، يقول قوله هو، يقول رأيه هو، يعلن موقفه، ومن موقعه المتقدم الكفاحي، الغاضب، المقاوم، العاشق، المجدّد. ويحرص دائماً – وهذا همّ أساسي عنده – أن يرتقي بفنّه باستمرار، ويدفع جمهوره دفعاً، ويغريه إغراء، ويطوّعه بوعي ودأب للارتقاء معه، بحيث صار جمهوره يستمع بشغف واستمتاع، الى مخزون أغانيه التي سبق أن عرفها، كما الى أعماله الجديدة الكبيرة، المتعددة الاصوات والمستويات والآلات والطبقات والمغنين والكورس، وذات البنيان الدرامي والآفاق المفتوحة على المدى الأوسع.
في الصداقة الابداعية مع محمود درويش
تطويع الجمهور للارتقاء به ومعه قد تآخى مع مسار رفيق مارسيل، منذ بداية البدايات، شاعرنا الكبير محمود درويش. منذ الاسطوانة الاولى، تلك الاغنيات التي استمعتُ اليها في ذلك الحشد الكبير، قبل ثلاثين عاماً، رقصتُ لها ورقصت معها، وأشعار محمود درويش تتدامج في ألحانه، ويتآخى إبداعها مع إبداع خليفة الذي توغّل عميقاً في أشعار محمود درويش، وذهبت أشعار محمود درويش مع صوته، بعداً واتساعاً، الى أسماع مئات ألوف الناس في مختلف أنحاء الارض.
الصداقات الابداعية هي أعمق الصداقات وأكثرها خصباً وتجدداً وعمقاً انسانياً، وأرقاها كرماً في نشر عطاياها وجمالياتها على العالمين.
فلنتأمل حركة درويش نفسه في أشعاره وأعماله الشعرية الكبيرة، وجماهيريته: هو ايضاً، منذ بداياته في الداخل الفلسطيني، أيام كان يبدع أشعاره المفردة المشحونة بروح المقاومة والتحدي فيتوهج تأثيرها في مختلف أنحاء العالم العربي، توقد شموعها وسط ليل الهزيمة، وُلدت جماهيريته مع أشعاره تلك، وتعمقت قصائده وتطورت جماهيريته مع خروجه من فلسطين المأسورة، ومع لقائه الاول مع الجمهور العربي في بيروت، عام 1972، وقصيدته التركيبية “سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا” التي شكلت انتقالة اساسية في شعره نحو الأرقى والأجمل والأعقد والأعمق، وهو يشتغل على شعره ويجهد في تطوير جمهوره، وتطويعه بحيث صار هذا الجمهور، الذي تزايد وتنوّع وارتقى مع درويش، يحتشد ويستمع اليه، ولكن بإصغاء المتفاعل، وتأمل الشغوف بالجديد، واكتشاف اسراره، والاستمتاع بلذّة هذا الاكتشاف. ودرويش يتجدّد باستمرار ويتنوّع فلا يشبه عمله الجديد عملاً له سابقاً، ولا حتى قصيدة له تشبه قصيدته السابقة.
•••
المسار الارتقائي نفسه يسير فيه مارسيل خليفة، والعلاقة نفسها مع الجمهور، حباً وتطويعاً. علاقة تحمل خصبها وتوالد أسرارها، منذ اغنياته المفردة الاولى، الى الأرقى فالأرقى، وصولاً الى تلك الغنائية الدرامية ذات الطابع الملحمي – “أحمد العربي” – التي هي ايضاً من إبداع محمود درويش.
في الاتجاه نحو الدراما الموسيقية
الناقد الموسيقي الرائع نزار مروة وصف هذا العمل الخليفي/ الدرويشي، بأنه نقلة نوعية في مسيرة خليفة الابداعية: من الاغنية الى التأليف الموسيقي، حيث تتقدم الموسيقي حتى ولو عبر الصوت البشري وتتراجع الاغنية، أي: حيث البناء الدرامي هو الاساس، هارمونية التعدّد والتنويعات، بحيث يصير العمل الفني كله، بالكلمات والالحان والانغام والصور وتعدّد الآلات والمغنين، عمارة موسيقية متكاملة، فأنت تكتشف جديداً فيها مع كل إعادة استماع اليها.
وفي ندوة عقدتها مجلة “الطريق” (عام 1986) حول هذه الاغنية ذات البناء الدرامي، حرص مروة أن يضيف الى خصائص هذا النوع الموسيقي الغنائي خاصية اساسية لهذا العمل الفني ولمبدعه معاً: “فلكي يكون هناك تأليف موسيقي حقيقي، يجب أن تتوفر الحالة الفكرية، وهذا شرط أول، إذ لا يكفي الانطلاق من الشرط الشعوري وحده. لا بد كذلك من المستوى الفكري الذي يسمح بوضع التأليف الموسيقي على مستوى قابل للنقاش ما اذا كان فناً أم لا” (نزار مروة: “في الموسيقى اللبنانية العربية”، دار الفارابي، ص257). في هذا السياق نفسه، أذكر انه، خلال عام 1984 أو 1985 (وكان خليفة قد أنجز تسجيل غنائيته الدرامية هذه) كنت عنده، مع اثنين سوفياتيين، من العاملين في مجال الموسيقى وعلومها، أحبّ أن يسمعهما غنائيته هذه ولعلنا كنا من أوائل من استمع اليها.
كان الاثنان في حالة إصغاء تام، وانتباه. وعندما وصلت الغنائية الى إحدى ذرواتها، حيث تتكرّر جملة “إذهب عميقاً في دمي”، لاحظت ان يد واحد منهما تتمايل مع التموّج اللحني، بما يشبه إشارات قائد اوركسترا. وسمعته يهمس لرفيقه (وأنا، في المناسبة، أُلمّ قليلاً بالروسية) بما يمكنني تذكّر ترجمته: “هذه الغنائية هي نوع له خصوصيته، انها مزيج من الدراما الموسيقية والمناخ السمفوني”، فذهب انتباهي الى ذلك التداخل الهارموني بين الاصوات البشرية، ومختلف الآلات الموسيقية. ومنذ ذلك الزمان، وكلما استمعت الى “أحمد العربي”، ووصلت الغنائية الى هذه الجملة بالذات، أعود بالذاكرة الى ذلك المكان نفسه، والى تموجات حركة يد ذلك الموسيقي الروسي، مع التموجات الموسيقية لهذا العمل المتميّز الذي شكّل نقلة مهمة في أعمال خليفة الموسيقية.
لم يتوقف خليفة عن تلحين الاغاني المفردة وتطويره لها. ولكنه، في موازاة هذا، كان يواصل اتجاهه المهم نحو التأليف الموسيقي الكبير، بحيث تصير الكلمات عنصراً في التكوين الموسيقي الكلي للعمل الفني، وبحيث يغادر الغناء التطريب ومجرد الانشاء بالصوت المفرَد. فكل عنصر في العمل له وظيفته عضوياً داخل العمل بأصواته المتعددة وآلاته الموسيقية المتعددة. وسواء تجلّى الكلام عبر الصوت المفرد او الجماعي او المتتابع، فهو يصير في شرايين البنيان الموسيقي نفسه، ويجد معناه فيه، أي: يصير الكلام نغماً موسيقياً له وظيفته الفنية داخل البنيان الهارموني ككل، ويصير الصوت البشري نفسه آلة موسيقية، حيث تتكامل عناصر التأليف داخل الكيان الموسيقي الواحد.
ومن شأن هذا الارتقاء في المسار الفني انه يوصل الى الدراما، الى ما يشبه المسرح او الباليه. فلا عجب اذا وضع مخرجنا الكبير يعقوب الشدراوي لهذا العمل نفسه تصوراً تأليفياً لباليه متكامل، مشهدي راقص، كان سيصير إنجازاً مهماً على صعد متعددة، سواء في الموسيقى أم الرقص أم مختلف عناصر الصورة والحركة، ويسجّل مساراً ارتقائياً متقدماً للموسيقى العربية. ولا أدري لماذا لم تسمح الظروف بعد لانجاز هذا العمل المفصلي!
أحب أن أورد، هنا، كيف صاغ مارسيل خليفة تصوره لهذا العمل وهو في بدايات الشغل عليه، قال: “البحث جاد في هذه الغنائية، وفي العلاقات المحتملة بين الموسيقى والغناء والنص والمسرح والرقص. الغنائية نعمل على نقلها الى المسرح لتتلوّن عندها بأكثر من اللحن والايقاع والكلمات والغناء، ستتلون ايضاً بالاجساد في عالم راقص واسع. مسرح فيه الحياة كلها: الموت، الحزن، الفرح، الايمان، العرس، التجربة، الاحلام، الشهداء، الارض، الوطن، الحياة اليومية. لقد كتبتُ في هذه الغنائية شيئاً من العيد، من طرب العين ودلال الأذن وانتعاش الجسد”.
في كتابة النثر الجميل
على انني أوردت هذا المقطع من مارسيل خليفة بهدف آخر: أن أشير الى جانب آخر من الفن عنده لا يقل في إتقانه عن إبداعاته الاخرى، أعني: المستوى الراقي للنثر العربي الذي يصوغه قلم هذا الفنان الكبير.
فالى كل ما أشرنا اليه من فنون التلحين والعزف والغناء والتأليف الموسيقي، نجد في هذا الفنان/ الكاتب صائغاً متميزاً للنثر العربي الجميل. تقرأ كتابته فتقودك الى حيث تريك المدهش في العادي. يرسم لك تلاوين الاشياء والاشجار والاشخاص واختلاجات الروح. تشعر بجريان الكتابة وبلوريتها، كما الغدير الصافي تتدفّق مياهه من نبع فائر نقي اللمعان.
ودائماً، عبر نثره الجميل، يأخذني الى الدهشة وصدق القول الطالع توّاً من القلب والاعصاب، وكذلك من العقل المتفتّح والمتفاعل مع أشياء الدنيا.
كتاباته في النثر ليست في الضرورة عن الموسيقى والغناء. فقد قرأت له كتابات في مجالات وقضايا ومناخات أخرى. ومهما يكن “موضوع” الكتابة فهي عنده تتميّز بالمشهدية، حيث يتحرك الاشخاص، وحتى الافكار، في أفق تصويري، ربما يشبه السينما بأكثر مما يشبه الموسيقى، وتتميّز كذلك بالصياغات اللينة والنضرة وموسيقية اللغة.
عمشيت، بلدة مارسيل الريفية الجميلة، بطرقها وبيوتها وساحاتها والكنيسة والاشجار والنخيل والناس، نماذج مختلفة متعددة متنوعة من الناس، لكل صورته وعاداته وطريقته في المشي والشرب والحب والكلام، وضرب الكأس بالكأس. كأنك في رواية ولست في رواية.
عمشيت هذه: الناس والأمكنة والاشياء، في حركة زمانها، منذ اليفاعة، مروراً بواقعات الحب والعشق والشوق والولع، وحركة تنامي الوعي السياسي والفكري والفني، وصولاً الى لحظة مغادرة البلدة تحت وطأة وحشية الحرب الاهلية.
في واحدة من مقطوعاته النثرية (بعنوان “أغنية الغياب” يورد فيها أطرافاً من ذكرياته مع أعزّ صديق له، فقده) يعرّفنا مارسيل الى صور ونماذج انسانية لها خصوصيتها وتبدو غير عادية بتمايزها عن غيرها. صور يستحضرها مارسيل، من أيام زمان:
صورة لغرابة صديق عتيق
– “مَن هذا القادم أيها الطفل؟
– انه جميل زيادة رفيق الطفولة النازل من جرود كفربعال الى سواحل عمشيت.
جميل أحببناه معاً. أحببناه بذلك المعطف الطويل الذي يلامس الارض ويكنسها، وبقبعة الصوف السميكة التي تشبه كيس الجنفيص تغطي رأسه الكبير ووجهه الاسمر العابق بالطيبة والذي كان يطالعنا من خلال الثقوب الاربعة لتلك القبعة.
لم يكن يتخلّى عن زيّه الحربي الفريد الذي يشبه زي رجال الاسكيمو، والذي كان يثير إعجاب التلاميذ في الصف فيلقّنون جميلاً ومعطفه وقبعته الفريدة درساً لن ينساه: الرشق بالطبشور من كل جهة ينال من جميل، فتعلق واحدة هنا وواحدة هناك.
أذكر، يا الياس، اننا كنا نستنفر كل مرة لنجدة جميل من شيطنات أولاد الساحل”.
صورة جمالية شهوية للساحرة الأنثى
“أتذكر كم كنا نفرح بتلك النورية الساحرة؟ أنوثة مشتعلة تتلوّى تحت شدة الشهوة، وتبعث فينا الرغبة عبر نظراتها الصاخبة وصدرها المتلألئ، إذ أبت أن تسجنه في صدرية على عادة النساء، فكان نهداها يتحركان بحرية داخل ثوبها الفضفاض، حتى اذا انحنت على الارض لرفع شيء ما، شعرنا بمذاق الجنّة على السنتنا”.
هذه الصورة كأنها مأخوذة من رواية أو من مشروع روائي. وهي لا ترتبط، مباشرة، بالموسيقى وفنون الغناء، بل بالابداع الفني عموماً.
في الحنين المستقبلي الى ذلك الزمان
عندما أقرأ نثر مارسيل خليفة الجميل، وهو يستعيد ذكرياته الاولى هذه، تعيدني الكتابة الى زماني الاول، الى الصبي. وأستعيد، في ما أستعيده، صورة ذلك المحمد دكروب في شبابه، وسط ذلك الحشد الحاشد، رافعاً يديه تصفقان عالياً على صوت مارسيل وأنغامه، وأنغام جسد تلك الفتاة المتوهجة تتمايل مع إيقاعات مارسيل خليفة وأنغام جسمها الذي يرسل ألف نغم ونغم وشتى الالوان.
متى نستعيد يا مارسيل معاً تلك الحشود الحاشدة، تقدم اليها جديدك، تقدم ما تنتظره منك وتجوع اليه. اشتقنا لحضورك والى تفجّر موسيقاك الجديدة بين حشود جديدة، هنا في بيروت، حشود تتابع الآن عبر شاشات التلفزة في حفلاتك تلك في سائر البلدان العربية والعالم، تتابعها، ولو من بعيد! ¶
النهار