لا غبار عليك للشاعر السوري لقمان ديركي: بلاغة العادي والمألوف في فوضى الحياة
راسم المدهون
قصيدة السوري لقمان ديركي لا ترتبط بشيء قدر ارتباطها وصاحبها بالفوضى. كل شيء إلى الفوضى: الموضوعات، والخيارات الفنية، ثم الأهم زاوية النظر التي تتوغل فيها حدقة الشاعر فترى وتقول. لقمان ديركي في هذا المعنى شاعر الكلام المنفلت من أي انضباطية، سواء أتت من النقد و”صرامة” نظرياته، أو حتى من “عاداته” الشعرية ذاتها، والتي نكتشف كل مرة أنه يزيحها من ذهنه ومخيلته ويقبل على الكتابة من خارج أسوارها. ندقق في “ذيل” قصائده فنلمح أسماء “أماكنه” الأثيرة، تلك التي يكتب منها شعره، فإذا هي دوما المطاعم والحانات وخصوصا في منطقة دمشق القديمة وشبه الأثرية. هذه أيضا دلالة بالغة الأهمية على نوع الحياة التي يعيشها صاحب “ضيوف يثيرون الغبار” و”وحوش العاطفة” و”الأب الضال” و”شخوص الممالك الزائلة” و”كما لو أنك ميت”، المجموعات الشعرية الخمس التي أصدرها ديركي منذ قرأنا له قصائده الأولى في “الناقد” و”القدس العربي” مطلع التسعينات من القرن الفائت فلفت الانتباه إلى جدة لا تفتعل ذاتها، ولا تبحث سوى عن الشعر في حياة شعرية تزدحم بالتجارب، وبالذات في قصيدة النثر التي باتت مساحة تجريب واسعة ومتنوعة أمام شعراء كثر يحاولون الاستفادة من تاريخ قصيدة النثر السورية منذ محمد الماغوط، كما من تجارب الشعراء العرب في البلدان العربية الأخرى، مما يجعل القصيدة الجديدة مضطرة للانتباه والحذر كثيرا.
“لا غبار عليك”، مجموعته الشعرية الجديدة (منشورات دار ممدوح عدوان، دمشق، تموز2008) قصائد السنوات الأخيرة، أي أنها الأحدث في تجربته كلها، وفيها يواصل هذا الشاعر المسكون بالصخب وغبار الأماكن والأزمنة ترحاله الذي لم يتوقف في دهاليز حياته اليومية مفعما برغبة لا تحد في مناوشة ما هو هامشي غالبا، حتى وهو يكتب عن الحب موضوعه الأهم والأكثر شيوعا في شعره. الحب في قصائده يتجول بما يشبه الهيبة والترقب والخوف. إنه “حذر” العاشق إذ يرى روحه في مرايا الحبيبة وفي حزنها وتناقضها معا.
لقمان ديركي في “لا غبار عليك” ولد شقي يبحث عن وجوده في أزقة قصائده فيما يبحث عن قصائده ذاتها في متاهات عوالم تزدحم بالغموض والفوضى وساعات التسكع الطويلة وانتظار المجهول بقليل من الأمل، إن لم نقل بلا أمل نهائيا معظم الأحيان: “يكفي أن تنظري إليّ نظرة/ فيكون لي أن آخذها كاملة/ أن أتمتع بها/ أن أعود إلى البيت/ سعيدا وفخورا”. ننتبه هنا إلى “عادية” الكلام إذ تزدحم بكثافة الشعر ووهج حضوره بكيفية كتابة لا تبحث عن ذاتها في أي قصدية مسبقة، أو “إعداد”. فلقمان ديركي يفارق ذلك كله ويذهب مباشرة نحو شعرية مغايرة تحقق وجودها بالنقيض، أي بالعفوية، وإن تكن عفوية “مشغولة” وذات فنيات واضحة.
في قصيدة صغيرة مغفلة من أي عنوان كما كل قصائد المجموعة، نلمح بحث لقمان ديركي الدائم عن المشهدية مهما تكن قصيدته قصيرة ومكثّفة لأن الصورة عنده تغادر فرديتها وسكونيتها وتأتي على شكل مشهد يمكننا قراءته واستعادته: “ممسكا بوردتك/ لي الشوك/ ولك العطر الذي في الأجواء”.
“لا غبار عليك”، حوارات متتابعة مع امرأة حقيقية، نقصد هنا مع امرأة تسكن الحياة وتحقق حضورها فيها، أي خارج الفكرة والنظرة الذهنية، على مألوف كثير من قصائد الحب التي يكتبها شعراء كثر. هنا تأخذ المرأة كحالة فردية ومحددة شكل حضور يومي يحسن لقمان ديركي استعادته بلغة بالغة البساطة، تمزج الكلام المباشر بما في المشهد من حركية ومن حضور الروح الفردية التي تجد تعبيرها الحقيقي عن نفسها في الجزئيات الصغيرة، والتفاصيل الحياتية العابرة والقليلة الأهمية. من المهم هنا ملاحظة مبلغ الانتباه الى كل تلك الجزئيات التي تقنعنا قصيدته بأنها ببساطة الحياة ذاتها، ونلمحها من تلك النوافذ الضيقة أكثر مما نلمحها في العناوين “الكبرى” والمشاهد “الشاملة” التي يظن شعراؤها أنهم يقبضون بها على صورة العالم.
قارئ مجموعة لقمان ديركي الجديدة سوف يلحظ أنه يكتب الأجمل حين يكتب قصيدة الكلمات القليلة، الخاطفة والبالغة الكثافة: “لا صورة لك على الجدار/ أكتفي بنظراتك/ العالقة على صورتي”. ففي قصيدة كهذه يستحق الشاعر أن نراه كما ينبغي، باحثا عن معادل فني جميل يحسن التعبير عن العلاقة الإنسانية، وعن شقاء العاشق الشاعر إذ يتأمّل كل شيء وعلى الأخص غياب الحبيبة.
الغياب أحد “موضوعات” الشاعر الأثيرة، بل لعلّه الأشد حضورا وسطوعا لا في قصائد هذه المجموعة فحسب ولكن في تجربته الشعرية كلها، وهو غياب نراه باعثا على التأمّل ورؤية العالم في جزئياته التي يقصد الشاعر أن يراها هكذا، وأن يعيد تركيبها كل مرة بحذر وانتباه بالغين.
وفي “لا غبار عليك” يعود لقمان ديركي أيضا وأيضا إلى ما سميناه “قصيدة النثر العامية”، وهي تجربة فريدة نسجلها له من جديد، وفيها تجاوز لحواجز يمكن أن تقف أمام اندياح المشهد. هي تجريبية تنتفع من التفاتاته الى ذاته الفردية، ومرايا روحه هو بالذات، وفيها ومن خلالها نعيد رؤية الحياة بصورة مختلفة، وخصوصا أنه يستفيد من “سردية” خاصة تجعله دوما يحدّث عن نفسه بالذات.
لقمان ديركي شاعر مدينة. هو دائم التجول في الحارات والأزقة. هامشي وصعلوك يؤثر الفضاء الطلق وحرية السير، وحيدا في غالبية الأحيان ومسكونا بطيف امرأة في الأحيان كلها.
دمشق
الأخبار