»ضيـوف مـا بعـد الحداثـة ([)« لحسام السعد
عبد الله امين الحلاق
أيـن الصهيونيـة مـن المؤرخيـن الجـدد
يحاول الدكتور »حسام السعد« في كتابه الجديد إجراء مقاربة ودراسة مكثفة لظاهرة المؤرخين الجدد في إسرائيل من وجهة نظر ما بعد حداثية، تستند إلى فكرة عبّر عنها فرانسوا ليوتار بقوله:
»ما بعد الحداثة هو الموقف المتشكك من الحكايات الكبرى، والحكايات الكبرى هي حقائق كونية يفترض أنها مطلقة وقصوى وتستخدم لشرعنة مختلف المشروعات السياسية والعلمية«.
من هنا انطلقت الدراسة للحديث عما كان مسلّمة تاريخية ورواية لا يطالها الشك في التاريخ الإسرائيلي، أي النكبة، وبداية الشك في الرواية الرسمية الإسرائيلية كما سنرى في الكتاب المكوّن من خمسة فصول وملحق خاص بالمصطلحات العبرية المذكورة وشرح مفصل لما تعنيه باللغة العربية.
اعترافان يسوقهما الباحث في بداية الكتاب، الأول »لجدعون ليفي« بقوله:
(إن العودة إلى هذه الملفات بالذات ليست مبهجة لقطاع عريض من الاسرائيليين لأنها تضع الغسيل القذر على مرأى العين تحت شمس ساطعة).
والثاني صرح به الصحافي الإسرائيلي »اهرون ميغد«:
(إن أصوات المؤرخين الجدد قد ذهبت إلى ان أغلب اليقينيات التي استقرت في وعينا وتجاربنا المعيشة ليست أكثر من مجرد كذبة كبرى).
هذا ما فعله أو على الأقل أسس له المؤرخون الجدد، الذين يقف قارئ الكتاب عند أربعة أسماء وعناوين كتب لهم، وهؤلاء المؤرخون هم:
ـ بيني موريس صاحب كتاب (ولادة مسألة اللاجئين الفلسطينيين).
ـ سمحا فلاين وكتابه (ميلاد اسرائيل / الأسطورة والحقيقة).
ـ إيلان بابه وهو أشهر من أن يعرّف وله كتاب (بريطانية والنزاع العربي الإسرائيلي).
ـ آفي شلايم وهو مؤلف كتاب (تواطؤ عبر الأردن / الملك عبد الله والحركة الصهيونية وتقسيم فلسطين).
التطهير العرقي
كل من هؤلاء المؤرخين الجدد عبّر عن نظرته لتاريخ إسرائيل ونشوئها وما جرى في عام ١٩٤٨ من وجهة نظر ورؤية نقدية، ولكنها تراوحت من حيث النظرة للآخر الفلسطيني كما سيتضح عبر صفحات الكتاب بين وجهتي نظر مختلفتين (بيني موريس وإيلان بابه).
في ما يخص النكبة:
النظرة الى ما جرى من طرد للفلسطينيين في ١٩٤٨ من مجازر وتطهير عرقي ستكون واضحة ومثار نقد سيثيره بقوة وجرأة ايلان بابه في كتابه (التطهير العرقي في فلسطين)، بينما سيتخذ بيني موريس المصنّف ضمن المؤرخين الجدد منحىً تبريرياً في أحيان كثيرة لما جرى.
فهو (أي موريس) سيستند إلى وثيقة للاستخبارات الإسرائيلية بتاريخ ٣٠/٦/١٩٤٨ تعتبر أن ٧٣٪ من مغادرات الفلسطينيين تسبب بها الإسرائيليون مباشرة في خطة الطرد الثانية، و٢٢٪ تعود لمخاوف ذاتية للفلسطينيين وأزمة ثقة في ما بينهم، أما الـ٥ فهي بسبب النداءات العربية للفرار.
لم يكن بيني موريس حاسماً في موضوع اللاجئين، فقد أنكر وجود مخطط يهودي للطرد، وحاول تبرئة ساحة بن غوريون، وفي الوقت نفسه يعتبر أن بن غوريون هو صاحب (الخطة دالت)، وهو الذي أجاب عن سؤال لإيغال ألون وإسحق رابين بكلمة محذوفة من مذكراته (اطردوهم)، وكشفتها في ما بعد صحيفة نيويورك تايمز، أي إنه يعتبر وبشكل واضح أن بن غوريون لم يعط أوامر علنية وصريحة بالطرد، ولكن جنرالاته كانوا يفهمون ما يتمنى عليهم فعله.
وفي جانب آخر، فإن موريس يبتعد عن الأكاديمية والدراسة التاريخية ليعطي رأياً كارثياً يقول فيه:
»لو لم يطرد بن غوريون الفلسطينيين لما قامت الدولة، لم تكن إقامة الدولة اليهودية ممكنة دون اقتلاع الفلسطينيين، فثمة ظروف تاريخية تبرر التطهير العرقي، العرب يملكون قطعة كبيرة على كوكب الأرض لأنهم احتلوا وقتلوا وأرغموا المحتلّين على اعتناق الإسلام، لديهم ٢٢ دولة والشعب اليهودي لا يملك حتى دولة واحدة، إن الحاجة لإنشاء هذه الدولة في هذا المكان أهم من الظلم الواقع بالفلسطينيين نتيجة اقتلاعهم … إن طرد الفلسطينيين سيساهم في أمن دولة اسرائيل واستقرارها«.
ويرى مؤلف الكتاب انطلاقاً من ذلك أن موريس لم يرغب في إظهار فكرة الترانسفير بكونها بنيوية وموجودة في بنية عملهم وخططهم من البداية، لان في ذلك انتصاراً للرواية الفلسطينية عن حرب .١٩٤٨
أما إيلان بابه، المؤرخ الشجاع الذي دفع الثمن بفصله من الجامعة وخروجه من إسرائيل، فإنه سيقول في البداية:
»لا أستطيع أن أكتب بشكل بارد حول تطهير عرقي، لا سيما أن ذلك يتواصل حتى اليوم«.
يرى بابه أن الخطة دالت هي استراتيجية طرد، ونص هذه الخطة يوضح نيات بن غوريون وإعداده لعمليات ضد المراكز السكانية الفلسطينية عبر تدمير القرى وعمليات تمشيط وتفتيش للقرى والقضاء على القوة العسكرية المقاومة وطرد السكان خارج حدود الدولة.
كما أن فكرة التطهير العرقي كما يطرح بابه موجودة مع وجود الصهيونية، وصارت خطة عندما صار اليهود ثلث سكان البلاد.
ما بعد الحداثة .. ما بعد الصهيونية:
يستمر الكتاب في عرض مفصّل لآراء مثقفين وأصحاب رأي من داخل المجتمع الإسرائيلي، على طريقة (وشهد شاهد من أهله) ليبرهن على نمو الصوت المعارض للسياسة الإسرائيلية وروايتها التي سوّقتها عن الفلسطينيين منذ حرب ،١٩٤٨ وعلى ما يتجاذب حركة المؤرخين الجدد على تفاوت الآراء والأطروحات التاريخية والفكرية فيها.
لذا.. سيكون من الضروري تدعيم الأفكار بقول لحنا أرندت: »السياسة الصهيونية ستؤدي إما لطرد العرب وإما لتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية في البلاد، ما حدث أننا حصلنا على الاثنين، لذا سيبدو الادعاء الصهيوني اللاحق بأن العرب هم سبب الطرد زعماً سخيفاً«.
الثابت في السياسة الإسرائيلية هو دولة أمنية وعنصرية تجاه الفلسطينيين، هي لا تقوم فقط بالكلام والوصاية على الفلسطينيين، بل تتحدث بالنيابة عن اليهود الشرقيين الذين جُرّدوا من حقوقهم وإن كان ذلك بشكل أقل وحشية مما جرى مع الفلسطينيين.
على أن ذلك وكما تبين من عرض أفكار واستشهادات المؤلف ببعض الكتّاب والمفكرين الإسرائيليين، لا يلغي نمو تيار من فئات الجيل الشاب والجديد في إسرائيل يطالب بمكان يعيش فيه الجميع من عرب ويهود شرقيين وغربيين، أي دولة ديموقراطية ليبرالية ما بعد صهيونية.
الاستبداد
أما الما بعد صهيونية فيقرنها حسام السعد بما بعد الحداثة وعالم اليوم الذي تغيرت وتقادمت مفاهيم أمسه، وصار سؤال الهوية والانفتاح على الآخر ملحاً وبديهياً لمواكبة البشرية وقيمها المدنية والإنسانية، في منطقة تشهد أزمة الهوية والحرية والمواطنة بشكل عنفي متفجر يومياً في فلسطين بين طرفي الصراع، وأيضاً في عالم عربي منعه تخلفه التاريخي (الثقافي والسياسي) من طرح أسئلته الكبرى والعمل على حلها وتجاوز أزماته القائم أساسها على غياب الحرية وانتهاك حقوق الإنسان وتغييب العقل والذهنية العربية القادرة على ابتكار الفكر ونقله الى حيز الممارسة، وسؤال المواطنة الملحّ الذي دفع بالمؤلف للعودة الى صادق جلال العظم بقوله في كتاب (النقد الذاتي بعد الهزيمة):
»على مستوى النضج الاجتماعي والوطني عند الإنسان العربي، حتى في البلدان العربية الأكثر تقدماً، لم يبلغ الحد الأدنى الذي يجعله يتخطى مستوى الولاءات العائلية والعشائرية وقيمها التقليدية«.
لذا فإن من الضروري أن يتساءل قارئ الكتاب مع المؤلف:
لماذا غابت الأرضية الواسعة للفكر النقدي العربي، ولماذا بات طرح الهوية العربية والعلاقة مع الآخر إشكالية تاريخية وفكرية؟
وإذا كانت حركة المراجعة التاريخية الإسرائيلية التي أفرزت ما أفرزت من جدل ونقاش قد أسست لحراك اجتماعي وثقافي وسياسي في إسرائيل، بشكل شكّل مقدمة لتحرير الوعي من الحكاية الرسمية الاسرائيلية التي كونت العقل الاسرائيلي المعاصر، فأين العقل العربي أمام تحد كهذا؟ وهنا المفارقة بأنه تحدٍ يثيره العدو الذي كرسته السلطات السياسية والفكرية بشكل متساوٍ كحصان طروادة أمام أي مراجعة ذاتية تاريخية كانت أو معاصرة أو حتى مستقبلية.
أسئلة وهواجس دائمة لا يبدو أن المستقبل القريب سيجيب عنها في ظل هذا الواقع العربي الذي صار عنوانه الأساسي: الاستبداد وقتل بذور التحرر الفكري والسياسي.
(كاتب سوري)
([) صادر عن دار الفكر بدمشق ـ ٢٠٠٨