صفحات العالمما يحدث في لبنان

توحيد القراءة السياسية

سليمان تقي الدين
لا شيء يساعدنا على مواجهة الأزمة إلا توحيد القراءة السياسية. ربما هذا هو الشأن الأصعب في لبنان، غير أنه الشرط الضروري لكل كلام آخر عن الوحدة الوطنية والسلم الأهلي والعيش المشترك والاستقرار. بل هو كان وما يزال المدخل لتعزيز دور الدولة. خلفنا عشرات السنوات من التراث الفولكلوري في مديح الجيش والتغني بالوحدة الوطنية. لكن الجيش يحتاج إلى قرار سياسي والوحدة الوطنية كذلك. ما لم نفعله حتى الآن هو أن نعطي الجيش ما يحتاجه ليكون على مستوى المواجهة مع العدو، والعذر الوحيد هنا أن هذا القرار له سقف دولي لا يسمح لأي جيش عربي أصلاً أن يمتلك القدرة على بناء التوازن العسكري. هذه الحقيقة المرّة هي التي تجعل «المقاومة» نموذجاً آخر ليس لأنها امتلكت أسلحة صاروخية، وهذا شأن عسكري خطير، بل لأنها تقاتل بالشكل الذي لا يستطيعه العدو. لا نعتقد أن أحداً يجهل ذلك لكن الخبث السياسي هو الذي يحرّك تلك الشعارات التي تهدف إلى إلغاء «نموذج المقاومة» باسم سلطة الدولة ودور الجيش.
لا ينفصل دور الدولة والجيش عن «القراءة السياسية» لأي دولة نريد. وما شروط بناء الدولة ومواصفاتها في المكان الذي هي فيه وبالمكوّنات الإنسانية التي تحتويها. المعطيات التاريخية هي التي وضعت لبنان في هذا الموقع الجغرافي السياسي، والمعطيات نفسها هي التي جعلت جماعة طائفية معينة تشغل المكان الصعب على الحدود مع الاحتلال الصهيوني. هذا الغرم التاريخي الذي تحملته هذه الجماعة لم يصبح بعد غنماً حقيقياً لنتوجس منه بهذا المستوى. فإذا كان لمثل هذا الدور الذي يصب الآن في حماية لبنان، من مضاعفات على التوازن الداخلي أو على المشروع السياسي اللبناني، فالمدخل لمعالجة ذلك هو مشروع الدولة لا أي مشروع طائفي آخر. لقد خبرنا في السنوات الخمس الماضية، حتى لا نتوغل في التاريخ، كيف أن الأجنحة الطائفية الأخرى من الطبقة السياسية كان همّها هو السلطة والسلطة وحدها، لا فكرة الدولة ولا السيادة ولا العدالة ولا الدفاع عن لبنان.
قادت هذه الأجنحة السياسية الطائفية انقلاباً صار في لحظة ما دموياً ودفعت ضريبته. لكن العنف الدموي كان ملازماً لهذا الانقلاب ووسيلة أساسية من وسائله، لأن القرار الدولي الذي أطلق شرارة التحوّل السياسي أراد ذلك أصلاً وهو يطرح على اللبنانيين مهمات خطيرة تستهدف سوريا والمقاومة والفلسطينيين.
تورّط هذا الفريق اللبناني في هذه المغامرة التي تفوق قدراته، فكان لا بد من المسرح الدموي لدفعه ولتجذير موقفه. ومَن أراد هذا المسرح الدموي هو نفسه الذي قرّر الحرب على لبنان في تموز، لأن الانقلابيين اللبنانيين فشلوا في أن يجعلوا «ثورتهم» نموذجاً، لأنها كانت «ردّة» حقيقية على ثوابت لبنان ومصالحه وموقعه ودوره. كان الدم الذي أريق بالاغتيال السياسي جزءاً من محرّضات تلك الانتفاضة المشوّهة وهو لا يخرج عن وسائل ذاك المشروع الخارجي الدولي خدمة لأمن إسرائيل. هذه هي الحقيقة الوحيدة السياسية وغير السياسية. ولأنها كذلك حين يراجع البعض مسلسل الأحداث والوقائع بعين نتائجها وبعين استهدافاتها، ويفهم مجدداً مغزى ذاك المشروع الانقلابي الدولي يجزم بأن الضحايا سواء أكانوا شهداء الاغتيال، أو شهداء الحرب العدوانية الإسرائيلية، أو شهداء التخريب والجاسوسية، هم ضحايا المشروع نفسه. ولهذا لم يكن التحقيق الدولي والمحكمة الدولية من خارج هذا المشهد ومن خارج هذه الوظيفة.
لا تتناقض الحقيقة السياسية مع تلك التي نبحث عنها في حيثيات «القرار الظني». إن لم يكن القرار الظني ساطعاً في وضوحه حاسماً في «الأدلة» لا الشبهات والقرائن، فهو تأويل سياسي آخر وقراءة سياسية من زاوية غير لبنانية. إذا توجّس اللبنانيون أو بعضهم من هذا القرار فلأن المقدمات التي أفضت إلى تلك المحكمة مثقلة بالشبهات والفضائح. كل تحقيق سابق، وكل إجراء حصل في السنوات الماضية كان يطعن في صدقية المسار ووقع في خانة الاتهام السياسي والتحريض السياسي. وكل ما يشاع الآن عن أسانيد هذا القرار المزعوم لا يشكّل حقيقة قضائية. قد يصح الظن وهو قرار ظني في معرض قضية عادية، لكنه في مثل هذه القضية السياسية بامتياز لا يصح أن يخرج إلى الناس ويستثمر في السياسة قبل أن يتم نقضه بالوقائع أو بالمنطق القانوني. يدعو البعض من أصحاب «النوايا الحسنة» لانتظار صدور القرار حتى نحكم له أو عليه. هذه خديعة بمستوى الفتنة في ضوء ما يشاع، لأنها لا تُعالج على سطح القانون حين تتفاعل في السياسة.
لا خيار لنا الآن لمواجهة الفتنة كما يزعم الزاعمون حرصهم على ذلك، إلا ببناء الثقة أصلاً بالعدالة الدولية والمحلية على أساس مراجعة الإجراءات وتصحيح الخلل الذي وقع ساطعاً تحت وطأة تسييس العدالة. ولا بد من قراءة سياسية موحدة للقول إن الجريمة كانت فصلاً من فصول مسرح الانقلاب السياسي وأهدافه الضخمة، وأن لبنان هو الضحية التي لا يجوز التضحية بها لأي سبب أو قضية أخرى.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى