صفحات ثقافية

السياسة في الدراما السورية: صورة رقابية تتبدل… وفن يقتحم المحظور!

null
محمد منصور
حتى سنوات قليلة خلت… كان الحديث عن السياسة في الدراما السورية، أشبه بالحديث عن أحلام وتخيلات ومغامرات غير قابلة للحياة إلا في خيال أصحابها… فالسياسة كانت أكثر من (خط أحمر) وأكثر من منطقة محظورة في الفضاء الدرامي التلفزيوني، وخصوصاً أن الرقابة تلقي بثقلها على صدر الأفكار الحرة مهما كان حيزها في هذه الدراما أو تلك محدوداً… وهي تراقب النصوص قبل أن تتملكها الجهات الإنتاجية وبعدها… وهي تحجب وتعطي موافقة التصوير عليها، حتى لو كانت من إنتاج شركات خاصة لا علاقة لها بالقطاع العام أو سياسات التلفزيون السوري كجهة منتجة… كما أن الرقابة تتحكم تالياً، بموافقات العرض والتصدير بعد تصوير وإنجاز الأعمال، وتستطيع بالتأكيد أن تجعل من أي عمل جريء كتبه كاتب متهور، وأنتجه منتج لا يقدر عواقب الأمور، كارثة بالنسبة لمنتجه، ودرساً قاسياً لكاتبه أو مخرجه!
ومن يطلع على تقارير الرقابة على النصوص الدرامية في التلفزيون السوري في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، سوف يصاب بلا شك بالذعر من حجم الممنوعات والمحظورات، التي كانت تعترض حتى على تعابير شعبية متداولة، فعبارة (ديرة فيها أولاد حرام) كانت تثير خشية الرقيب من أن يكون في تلك الديرة التي لم يحدد الكاتب اسمها، أناس مدعومون يخربون بيت من ذكرهم بسوء، وعبارة (النسوان مثل السمنة فيهن الصاغ وفيهن المغشوش) كانت تثير احتجاج الرقيب، ليس خشية على سمعة المرأة عموماً… بل خوفاً من الاتحاد النسائي العام كمنظمة شعبية ذات نفوذ وسلطة… وكان المرء عندما يقرأ مثل هذه التقارير، يقول بينه وبين نفسه: إذا كانت الاعتراضات تطال مثل هذه التفاصيل والإسقاطات التي ليس فيها أي بطولة بالتأكيد… فكيف سيكون الحال عندما نتحدث عن موضوعات سياسية كتاريخ وصراعات الأحزاب، وسطوة الأمن، وقضايا الحريات والفساد، والمتاجرة بالشعارات، وملف الاعتقال السياسي… وسوى ذلك من المشكلات والأمراض التي تمس الواقع السياسي ليس في سورية فحسب، بل في غير بلد عربي!
طبعا الصورة تغيرت في الدراما السورية اليوم بشكل كبير، ولم يأت هذا التطور بين ليلة وضحاها، إنما استغرق أكثر من عقدين من الزمن، حاول فيها الكتاب أن يعبروا عن الوجع السياسي العام، بكثير من التحفظ والخوف حيناً، وبرؤى معقمة ومبتورة لا تقول كل الحقيقة حينا آخر… وبكثير من الجرأة والتهور طوراً.كانت الكوميديا حلا من حلول الخوف… ولهذا سنجد أن أعمال دريد لحام، وسلسلة (مرايا) لياسر العظمة، لم تخل على مر سنوات من طروحات جريئة، تابعها المسلسل الكوميدي (بقعة ضوء) تالياً… وكانت أبرز مظاهر النقد السياسي هي صورة السلطة الأمنية التي زرعت الخوف في نفس المواطن السوري بأشكال وصور، بالغ المواطن نفسه في إعطائها ذلك الحجم الكبير في حياته، وبرع الفنانون في تحويلها إلى صورة تجمع المضحك والمبكي معاً… وكانت العودة إلى التاريخ حلاً للحديث عن السياسة أيضاً… فقدم مسلسل (خان الحرير) للكاتب نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي، نظرة ما على الأجواء السياسية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين في سورية… وجاء مسلسل (حمام القيشاني) الذي أنتجه التلفزيون السوري في تسعينيات القرن العشرين في عدة أجزاء عن نص لدياب عيد، أخرجه هاني الروماني… ليجري مسحاً شاملاً لشكل حضور السياسة في حياة سورية المعاصرة، منذ الاستقلال وحتى عهد الوحدة… صحيح أن الصورة في (حمام القيشاني) كانت معمقة… وأحياناً ذات نبرة حيادية لا تكشف ولا تدين، ولا تتبنى رؤية واضحة… لكن حتى العودة إلى الماضي لم تسلم من مقص الرقيب، ولم تسلم من حضور الرقيب في ذهن الكاتب أحياناً!
‘أيام الولدنة’ جرأة بلا خط رجعة!
لكن أهم مقاربة سياسية قامت بها الدراما السورية، هي اقترابها من الراهن والمعاصر… وجرأة بعض الكتابب على كسر حاجز الخوف، ونزع الأقنعة والحلول المستعارة التي كان يحتاجها بعضهم، كي يضمن وصول أفكاره إلى الشاشة، بدل أن تموت على الورق في نصوص مرفوضة رقابياً وإنتاجياً مصيرها الأدراج المغلقة… وإذا كنا منصفين، ونمتلك ذاكرة في تتبع هذا المسار الهام، فلا بد من الإشارة إلى أن الزميل الكاتب حكم البابا، كان أكثر الكتاب جرأة في كسر هذا المحظور الرقابي، وفي التعبير عن الهم السياسي من خلال امتزاجه بمشكلات الحياة اليومية للمواطن السوري… ففي مسلسل (أحلام أبو الهنا) الذي أنتج عام 1995 وشهد بداية التعاون مع الفنان دريد لحام، والذي قوبل في البداية برفض جماهيري ونقدي… ثمة غوص عميق وشامل في الهم اليومي للمواطن السوري على خلفية سياسية… وقد منع التلفزيون السوري عرض خمس حلقات من المسلسل، فيها الكثير من الأفكار التي رأى الرقيب أنها تتجاوز أي هامش رقابي متاح، حتى لو كان العمل كوميدياً، وبطله هو دريد لحام!
وفي موسم رمضان الحالي عرضت عددة من المحطات مسلسلاً آخر لحكم البابا هو اأيام الولدنةب الذي أخرجه مأمون البني وأنتج قبل عامين، وبقي ممنوعاً من العرض في التلفزيون السوري، وممنوعاً من التصدير إلى المحطات العربية… والواقع أن مسلسل اأيام الولدنة’، يمثل أجرأ محاولة درامية لتشريح بنية النظام السياسي السوري وأمراضه وعيوبه… ولو أن أحداً يحب أن يستفيد، وأن يرى صورة ما جرى ويجري كي يصحح ويصلح، ويفتح أفقاً أوسع وأجمل لحياة يستحقها المواطن السوري بكل فئاته وأطيافه دون شك… لجرى الاحتفاء بهذا العمل داخل الإعلام السوري، ولاعتبر عرضه دليل قوة، أو رغبة في مزيد من القوة القائمة على إصلاح الخلل، وتغيير آلية الخطأ… لكن مشكلة الإعلام السوري دائماً، أنه لا يحب أن ينظر في أي مرآة تعكس الصورة الحقيقية، ولا يحب أن يسمع أي صوت يهز حالة التواطؤ مع الخلل.
قصة ‘أيام الولدنة’ بسيطة وعميقة في الوقت نفسه… مليونير بنى ثروته من العمل والدأب والتقتير على نفسه والخوف على الثروة… يكتشف أنه مصاب بالسرطان وأيامه في الحياة معدودة… فيقرر أن يهرب من المشفى بصحبة ابنه المتشرد الذي كان قد طرده من بيته، ليعيش ما تبقى له من أيام في هذه الحياة، ويحقق كل أمنياته ورغباته القديمة التي منعه الخوف من أن يحققها في حينه… لكن في تلك الرحلة، يكشف لنا الصورة الحقيقية للوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القائم… ويصطدم مع آليات سلطوية كبيرة وصغيرة، صنعت لنفسها كياناً خاصاً يتنافى مع كل قيم الحياة الكريمة… يشرح العمل بدقة معالم الانهيار والألم والخوف والوجع والمرارة وحب الوطن حين يمتزج بكل هذا… ومعنى الحياة حين تصبح مسجونة خلف أسوار المحظور وامتيازات الحظوة… ويرفض الكاتب في النهاية التصالح مع الأخطاء التي انتقدها، مثلما يرفض فتح (خط رجعة تجميلي) يجُبْ كل ما قاله في الحلقة الأخيرة..كما تفعل الكثير من الأعمال الأخرى!
صحيح أن اأيام الولدنةب يقدم كل مقولاته بنبرة ذاتية، فيها نوع من التهكم الفضائحي المستفز الذي تتطلبه الكوميديا أحياناً… والذي يميز اندفاع الكاتب وراء هاجس تشريح عام وشامل بلا رقيب داخلي… لكن لو أردنا أن ننظر إلى العمل نظرة موضوعية، لوجدنا أن فيه الكثير من الصدق والشجاعة والألم الخفي… والحب الحقيقي لوطن ننتمي إليه، ونحب أن يكون أفضل!
‘رياح الخماسين’ دراما الاعتقال السياسي!
صورة أخرى من صور حضور السياسي الراهن في دراما موسم رمضان، نراها في مسلسل (رياح الخماسين) للكاتب أسامة إبراهيم والمخرج هشام شربتجي… الذي يروي قصة معتقل سياسي يخرج بعد خمسة عشر عاماً، ليبدأ حياته من جديد في وسط اجتماعي اختلفت قيمه، وانهارت أحلامه، وطحنت قسوة العيش وأحلام الثراء السريع الكثير من نماذجه وشخوصه.
يبدأ العمل بداية قوية، فيها الكثير من الشفافية وصدق القول، والانحياز إلى البطل المنبوذ سياسياً… وتصوير لحظات الترقب الإنساني في لقائه بعائلته بعد هذا الغياب الطويل والقاسي، وكيفية تعرفه على محيطه، وفي اختبار حالات تشويه السمعة التي تعرض لها أثناء سنوات سجنه، والتي صورته كجاسوس… ومنعت أقرباءه من التوظف تحت وطأة كتابة التقارير الأمنية، التي تأخذ الناس بجريرة معتقدات أقربائهم وتوجهاتهم السياسية… لكن العمل يغرق بعد ذلك في التطويل، وفي اجترار قصص جانبية باستفاضة، تفرضها آلية العمل التلفزيوني الذي يرغم الكتاب على تقديم المسلسل في ثلاثين حلقة على الأقل… ولولا ذلك لكان لـ (رياح الخماسين) شأن آخر في التأثير والنجاح الفني الذي قاربه بطبيعة الحال… رغم ما تعرض له من إشكالات في الرقابة.
‘بقعة ضوء’ السياسة ترسم أبعاد الصورة!
وإذا أضفنا إلى هذين العملين، بعض اللوحات الرائعة في الجزء السادس من (بقعة ضوء) والتي تحضر فيها صورة الحياة، متماهية مع خلفية سياسية تشكل الصورة برمتها، وترسم آفاق معاناة حياتية واقتصادية، تسعى لانتزاع هامش للعيش بكرامة، وتنجح في التعبير عن جوانب الخلل الصارخ بلا مواربة… لأمكن القول إننا أمام أعمال تخترق المحظور… وتغامر في اقتحام أكثر المناطق حساسية وسخونة، حيث يتمازج الأمني مع السياسي مع المعيشي، ليقدم شهادة حارة تستحق الكثير من التقدير والاحترام… شهادة قد يقول المتشائمون فيها: (أسمعت لو ناديت حياً) لكن بالنسبة لمن يراقب كيف تبدلت الصورة، وكيف تطورت المقاربة الدرامية للواقع السياسي السوري… فإنه سيشعر بلا شك بكثير من الأمل وأهمية الإنجاز… الأمل بأن الصمت ليس خياراً مطلقاً… وأن قوة هذه الدراما الناهضة، تكمن حقيقة في اتساع هامشها، أياً كانت دوافع هذا الاتساع وآفاقه المستقبلية!
طبعاً لا بد من التأكيد، أن هذه الأعمال وسواها، لم تنتزع هامشها وهي غارقة في العسل… ويجب الحذر من الترويج لمقولة أنها ما هي إلا محاولة تنفيس تتم برضا الأجهزة الأمنية… لأن هذا سوف لن يؤدي بالكتاب الذين غامروا وتجاوزوا حاجز الخوف مع رقيبهم الداخلي سوى إلى اليأس والانكفاء… وسوف يلغي من جهة أخرى، تفاصيل الكثير من المعاناة الرقابية التي ما زالوا يخوضونها، كي تصل هذه الأفكار إلى الشاشة… وفي اعتقادي الشخصي، أن ما شفع لها بالوصول إلى الشاشة، ليس قراراً بالتساهل الرقابي بالضرورة، بل تحول الدراما السورية إلى صناعة ومصدر دخل، قادرة على إيجاد وسائل وحلول لتمرير أهدافها الفنية والموضوعية المشروعة، وخصوصاً في عصر لم يعد محكوماً بمحطة رسمية محلية، تغلق أبوابها بجرة قلم… وينتهي الأمر!
ناقد فني من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى