صفحات ثقافية

مذكرات زوجة السجين

null
آشا بانديلي
ترجمة: خالد الجبيلي
هذه قصة حب
هذه قصة حب تشبه كل قصص الحب التي سمعت بها، لكنها لا تشبه أي قصة حب كان من الممكن أن أتخيّلها. إنها كل شيء جميل – ألوان براقة، غرف تعبق برائحة الشمع، حرير برتقالي، وخزامى أرجواني. إنها كل شيء غريب، متنافر – مشوّه. إنها جروح طويلة وملتوية، ناكئة وغير ملتئمة، أعصاب مهترئة، تالفة ومكشوفة.
هذه قصة حب، يقظة وحية. إنها وثيقة تنبض بالحياة، شاهد حيّ. قصة مفعمة بالإنسانية، بالأمل، وبالحياة. إنها التقاء الروح، استدعاء للأحلام. إنها إحدى رقصات ألفين أيلي، “قوس قزح حول كتفي” ، إنها أغنية من أغاني الحرية ، غيتار ذو إثني عشر وتراً، أغنية دلتا الحزينة. إنها قصة للتنفيس عن الروح.
هذه قصة حب، هزيلة وممجوجة، ومع ذلك فهي دسمة، مثقلة، ممطوطة وممتدة حتى تفقد شكلها في بعض الأحيان. إنها قصة اصطناعية، من صنع الإنسان، تحاول أن تبدو جميلة. قصة تحاول باستماتة أن تجمع خيوطها، هي قصة مليئة بالرقع عند الركب.
هذه قصة حب. قصة حبي وقصة حب آلاف النساء الأخريات: إنها قصة معروفة، موّثقة، مصوّرة، مصوّرة على شريط فيديو، ومسجّلة على شريط كاسيت، مصنّفة، ومستنسخة، ومحفوظة، وقد رسمت عنها رسوم كاريكاتيرية، وأجريت عنها أبحاث عديدة.
هذه قصة حب: قصة نحفظها في السر، نحميها من إطلاق الحكم عليها. القصة التي أنكرها المحبون المتحلقون على موائد العشاء العائلية وفي الحفلات المقامة في المكاتب. النظرات السرية التي تظهر في صور البولارويد. إنها أسماء تهمس همساً. إنها قصة مخبأة في جولات منتصف الليل بالحافلة وفي الرحلات في الشاحنة الصغيرة في الساعة الخامسة صباحاً، مخبأة وراء أجهزة كشف المعادن، خلف الأبواب الإلكترونية، والفولاذ الذي يصفق الفولاذ.
هذه قصة حب. القصة التي لا تتداول في المآدب عادة أو حتى في المناقشات العامة. لكن إذا كان ثمة شيء أعرفه عن نفسي، فهو أنني أعرف أنني أكره الأسرار، وأن الأسرار تعني العار، وأني لن أخجل لا الآن، ولا مستقبلاً، من كوني امرأة أحبت شخصاً، وأن ذلك الشخص قد أحبني.
ورغم أن الكثيرين سألوني إن كنت قد فقدت عقلي، إن كنت أشعر بالوحدة، أو إن كان اليأس قد تملكني، بل بات الكثيرون يتساءلون إن كنت أمرّ في أزمة، أو أنها مجرد نزوة في حياتي، فإني سأظل أحب ذاك الرجل الذي أحببت. سأحبه رغم أن له ماضياً قبيحاً، هياكل عظمية، وأحزان: رغم أنه ليس له عمل أو منصب مرموق أو نفوذ، ورغم أنه سجين في سجن إصلاحي تشتد حوله الحراسة، فهو زوجي، رشيد، وسأظل أحبه.
وهاهي قصتنا:
المرة الأولى التي دخلت فيها إلى السجن في حياتي كلها، كانت عندما كنت طالبة أدرس العلاقة بين السود والسجن في الولايات المتحدة. بعد أشهر، بعد انتهاء الامتحانات النهائية بفترة طويلة، وبعد حصولي على درجات جيدة، دعاني أستاذي السابق وسألني إن كان بوسعي أن أرافقه، مع عدد من الأشخاص إلى مكان يدعى سجن الإصلاحية الشرقي في شمال نيويورك. وكان لا يبعد سوى قرابة ثمانين ميلاً عن بروكلن، حيث أقيم. وقال إنه يريدني أن أشارك في برنامج تاريخ السود الذي يقام لمدة شهر.
ألا تكتبين قصائد؟ سألني.
يمكنك أن تلقي قصائدك، قال.
وافقت وذهبنا جميعا لتنفيذ البرنامج، وهكذا التقينا، رشيد وأنا، المتهم والطالبة، الشقي والشاعرة، نزيل السجن والطالبة الزائرة.
كان رشيد في غاية اللطف، وكنت قد حاولت أن لا أعيره انتباهي عندما لمحته لأول مرة، لكني لم أستطع. إنه يمثّل ذلك التناسق الأنيق بين أفريقيا والهند. إذ لم يكن ضخماً، ولم يكن له وجود طاغ، على عكس ما يقال عن السجناء السود. ولم يكن طوله يتجاوز الـ 160 سنتمتراً، وله ابتسامة رائعة وعينان براقتان. وكان حجمه، أذكر أنه خطر لي ذلك آنئذ، ملائما، وكان بوسعي أن أنظر إليه مباشرة، عيناً لعين. وراح صوته الخفيض يروي قصة شاب كاريبي أفريقي ُغرس في هذا المجتمع.
من أين أنت؟ أردت أن أعرف.
من “The Boogie Down، ردّ، وهو يقصد جنوب البرونكس.
وقبل ذلك؟
أوه، أوه، قال، وقد فهم سؤالي. غيانا. أمريكا الجنوبية. أجمل بقعة في العالم.إن أسوأ شيء في حياة المرء أن يرى أجمل بقعة في العالم وأكثر الأماكن شناعة، ولما يبلغ الثلاثين من العمر بعد!
بعد ذلك، اقترب مني عدد من الرجال الآخرين ليقولوا لي كم إنهم استمتعوا بطريقة إلقائي، وسألوني إن كنت مستعدة لإلقاء قصائدهم، ومتى سأعود، وهل يمكنهم أن يكاتبوني لمناقشة الشعر، وإن كنت أعرف أنني ذكرّتهم بتلك الأخت التي يعرفونها ؟ في خضم هذه الأسئلة، تركني رشيد. رحت أرقبه وهو يسير عبر الصالة الضخمة حيث أقمنا البرنامج. وقد انسل بسهولة بين الرجال المائة الذين تجمعوا هناك، بين الكراسي البرتقالية، وعبر خشبة المسرح، خلفها، ووجدت ضيفا آخر رحت أتكلم معه، شاعر مثلي. شاعر موهوب جداً، يمكنني القول، وجذاب جداً. انتظرته لكي يعود. حاولت أن أرغمه على العودة إليّ، شعرت بالانزعاج لأن رشيد لم يعد حتى حان وقت الوداع.
بعد أن أصبحنا عاشقين، قال لي رشيد، إنه وجد أنه كان من الصعب عليه أن يقترب مني، وإن الخطأ كان خطأي. وقال إنه فيما كنت مفعمة بالحيوية ومتقدة على المسرح، أصبحت هادئة، ومنعزلة، وباردة وسارحة خارجه. و قال لي الآن أيضا، وضحكات طفولية تتخلل كلماته، إن الشاب يعرف إنه عندما يريد حقا أن يتكلم مع إحدى الأخوات، فإنه لا يخطو نحوها مباشرة، بل يتجه نحو زميلتها ويتكلم إليها، وهذا ما فعله. وقال: لقد تحدثت إلى الأخت الأخرى، الشاعرة التي ألقت قصيدتها قبلك، لأني كنت أعرف أني بهذه الطريقة سألفت انتباهك. أعني، كيف كنت سأبدو وأنا أحاول أن أتحدث إليك والرجال الآخرون جميعهم ملتفون حولك؟ أتفهمين ما أقصد؟
السعادة تغمر رشيد وهو يروي لي هذه القصة بعد خمس سنوات من أول لقاء لنا. وكنا، في لحظة اعترافه في إحدى غرف الزيارة، وأنا مستلقية، بقدر ما أمكنني، بين انحناءة ذراعيه. وفي تلك اللحظة، ورغم كل الأوجاع التي اعترتني، وما لاقيته من أمرين في سبيل حب هذا الرجل، لا يوجد ثمة مكان آخر يمكنني أن ألجأ إليه.
عندما بدأت قصة حبنا، كنت في الخامسة والعشرين من العمر، طالبة وحياتي منتظمة، زوجة على وشك الطلاق من زوجي الأول، شاعرة مفعمة بالأسرار والأحزان، امرأة صاعدة يعوقها الإحساس بعدم الأمان والغضب، إنسانه تصارع الوحدة، وتسعى في الوقت نفسه إلى العزلة، تحتاج إلى حب جارف، إلى مناقشات طويلة صادقة ، إلى مسحة من الهدوء في قرارة نفسها.
عندما بدأت قصة حبنا، كان في التاسعة والعشرين من العمر، رقمه في السجن 83 * * * * *، قاتل محكوم عليه بالسجن المؤبد ويمكنه الطعن بعد مرور عشرين عاما، سجين نموذجي، منسق برامج، أبّ لصبي يبلغ من العمر تسع سنوات لم يتمكن من تنشئته وتربيته، محام لا يحمل شهادة في الحقوق، مسلم تقي، رجل على وشك الطلاق من زوجته الأولى، إنسان يقارع الوحدة، وفي الوقت نفسه يسعى إلى العزلة، يحتاج إلى حب جارف، إلى مناقشات طويلة وصادقة، إلى لمسة هدوء في قرارة نفسه.
كنا نشبه بعضنا شبها تاما، وكنا مختلفين اختلافاً تاماً.
لم يكن مقدراً لنا أن نكون معا أبداً.
كان مقدراً لنا أن يخلّص أحدنا الآخر دائماً.
****
البيت
عندما أنظر إلى ماضينا الآن، إلى مجموعة الطلاب التي قامت بزيارة السجون طوال تلك السنين لكي تشارك في مختلف البرامج، أذكر دائما الإحساس الذي كان ينتابنا وهو أن رشيد كان يعتبر واحدا منا منذ البداية. كان ثمة شيء فيه، دفئه، عدم وجود هدف محدد في حياته جعله يبدو أنه لا يوجد انقسام، أو اختلاف بينه وبيننا، بين عالمه وعالمنا.
قد يكون التكلم في السجن تجربة رائعة، حيث السجناء المعزولون يصبحون هم المستمعين الذين غالبا ما يبدون تقديرهم لك، وإن قلت أشياء تعبر عن آرائهم، فقد تنهال عليك الطلبات في نهاية اللقاء. فهم يبحثون عن أصدقاء لمراسلتهم، عن أشخاص يقومون بقراءة أشعارهم وكتاباتهم. إنهم يبحثون عن أي شكل من أشكال التواصل مع “الشارع.” ومهما كنا نرغب، يستحيل حقا على شخص أو شخصين أو أربعة أشخاص أن يلبوا هذه الحاجات الجماعية. وقبل أن نزور السجن لأول مرة، لم يكن لدينا أدنى فكرة عن الطريقة التي يمكننا أن نستجيب فيها لهذا الكم من الطلبات الذي كان يصل عادة إلى مائة طلب مختلف لمائة شيء متباين من مائة شخص متفاوت.
ولهذا السبب برز رشيد ، ليس بالنسبة لي فقط، بل بالنسبة لنا جميعا. وهو لم يطلب منا شيئا قط، بل لم يكن يتوقف عن التحدث إلينا. إذ كنا نتحدث عن النضال من أجل المساواة، عن السياسة العالمية وعن العدالة الاجتماعية. كنا نتحدث كما لو كنا رسامين، نستخدم الكلمات كضربات فرشاة على قماش الخيش العريض الذي كان يشكل خيالنا الجمعي. وكلما ازداد عدد زياراتنا، تحدثنا أكثر. وكنا نتفق أحيانا على بعض الأشياء، ونختلف أحيانا على أشياء أخرى، إلا أن المناقشة لم تبلغ قط حد الاحتدام ولم تصبح بغيضة أو غثة. كنا نتحدث كما لو كنا نريد أن نتعلم شيئا. كنا نتحدث كما لو كنا نريد أن نشفى.
كنا نتحدث كما لو كنا نعتقد بأن حديثنا يمكن أن يغير الأشياء، أو يعيد التوازن، أو يحرر الناس. كان حديثا يدور على نفس الوتيرة. وكان رشيد يعرف ذلك، وكنا جميعا نعرف ذلك. وكان رشيد يعرف، كما كنا نعرف، بأنه أصبح صديقا لنا، فردا في عصبتنا الصغيرة، وهذا ما كان يجعلنا نشعر بغصة ونحن نغادر السجن في نهاية البرنامج، بدونه. وكان يبدو أنه إذا كنا نعني شيئا كنا قد قلناه في تلك المناقشات السياسية الطويلة، فهو أنه كان علينا أن نغادر، ونتركه هناك آنذاك، ونتركه هناك الآن.
* * *
عندما كان الناس يسألوني كيف وقعت في غرام رجل متهم بجريمة قتل، كنت أبدأ بقولي إني كنت طالبة تطوعت بوقتها وكانت تأمل في إلقاء قصائدها وترغب في التحدث لكي تغير شخصا ما، بطريقة ما، إلى الأفضل. ثم كنت أحدثهم عن الرجل الذي كان سيصبح زوجي، وكيف أن روحه أسرتني، أسرتنا كلينا، وكيف تغيرت بفضل روحه المنفتحة.
في ذلك الوقت، في تلك الأيام الأولى من صداقتنا، بدأت أتعلم أن أقبل وجهات النظر المختلفة، وأن أنصت بعناية، وأن أتحفظ عند إطلاق الأحكام، وتعلمت أنه لا يتعين عليّ أن أخرج منتصرة بعد كل مناقشة لمجرد الانتصار. وتعلمت من ملاحظتي لرشيد، الذي لم يكن يتكلم إلا عندما يأتي دوره، والذي كان يتكلم بترو، والذي كان يعترف بأنه مخطئ إذا أثبت له أحد أنه على خطأ.
قال لي يوما: السجن يعلم الإنسان كيف يكون مؤدبا.
لا تعرفين كم يكون التوتر والتشنج شديدين هنا، ولا يريد أحد أن يزيد على ذلك بعدم قوله “المعذرة” إذا كان يجب عليه أن يقول “المعذرة”. وهذا شيء جيد، وأنا لم أكن هكذا دائما. لقد كنت متغطرسا جدا.
كنت أوضح للناس بأنني ، على الرغم مما كان يبدو، لم أقع في حب قاتل. بل وقعت في حب رجل أراد أن يصبح مخلوقا أكثر كمالا، رجل كان كل همه أن يغيّر نفسه، والعالم. والعالم الذي كان يتخيله هو العالم ذاته الذي كنت أتخيله أنا. مكان عادل ومنصف وصالح للعيش. كان بإمكاننا أن نلتقي هناك، في ذلك المكان، يمكننا أن نلتقي هناك كخالقين، كشخصين متساويين.
كنت أقول إلى أصدقائي: كان يحترم رأيي!.
وكنت أقول إلى كل من كان يستمع إليّ : هل يمكنكم أن تتخيلوا رجلا كهذا ؟ فهو يريد أن يستشيرني في كل شيء. كل شيء! إنه يأخذ بنصيحتي.
عندما كنت أتحدث عن أشياء لم يسبق لرشيد أن سمع بها، كان يدّون ملاحظات. لكن الأمر ليس مجرد هذا، كنت أقول وأنا أحاول أن أشرح كل نقطة كان بوسعي أن أشرحها وهم لا يزالون يصغون إليّ.
قلت لصديقتي ذات يوم: إنه يحترمني كثيرا عندما يجادلني.
وقلت لها: لم أكن أتصور ذلك، أن أدخل في نقاش معه. لا أعني الطريقة التي يتجادل فيها الرجال عادة مع النساء كأن يسايروهن بعبارة: حسنا، كما تريدين يا عزيزتي. لا! أعني الطريقة التي يتجادل فيها الرجال مع الرجال، كما لو أن الشخص الآخر كان خصما مهما. كان رشيد يستمع إليّ بتحد. هذا هو الرجل الذي وقعت في حبه، رحت أردد مرارا وتكرارا. رجل يؤمن بأنني امرأة وأنني جديرة بذلك.
وعندما كنت أقول للناس في بعض الأحيان هذه الأشياء، كانوا يقولون إنهم لا يستطيعون فهم ذلك. وكنت أسأل باستمرار: أين الشيء الكريه في ذلك؟. وأقول لهم نعم، هناك بعض النساء اللاتي تشكل القباحة والأوجاع قوام قصتهن، لكنها ليست هي الصورة التي سأقدمها.
آشا، كان بعضهم يقول، يا بنت، هل عيناك معمشتان. فقد يكون عظيما الآن، لكنه كيف سيكون عندما يعود إلى البيت؟
وأجيب: لا أعرف، ومن سأكون أنا؟
وحذروني: قد يعود رشيد إلى البيت ويكون فظا معك.
فأقول لهم: نعم، بالطبع هذا صحيح. لكن أليس من الممكن كذلك أن يعود رشيد إلى البيت ويكون رائعا معي. لا أحد يعرف ماذا سيحدث غدا، هذه اللحظة ، الآن، هذه البرهة فقط هي المسجلة في التاريخ.
وهذه اللحظة التي يقبلني فيها ويلاطفني، وأشعر بعدها بالاطمئنان الذي كان يمنحني إياه، هذه اللحظة هي الشيء الحقيقي الوحيد الذي أعرفه. وثمة شيء آخر أيضا: فالكثير من الناس يعيشون في وحدة، بدون حب وبدون عاطفة في حياتهم، وأنا أعرف ماذا يوجد لدي رغم الصعوبة التي قد تبدو عليها الأمور. إنها أثمن الهدايا جميعها.
وأنا لا أستطيع أن أستسلم بدون معركة، هذا الشيء النادر، المرغوب، الذي يجعل الحياة تستمر. وأسأل، هل يمكنني؟، هل يمكنهم؟ أريد أن أعرف. هل يمكنهم أن يرفضوا أعظم حب عرفوه في حياتهم، لأنه جاء فقط من أسوأ مكان يعرفونه ؟
* * *
ما زلت أدرك أن كل الأشياء تجري في سياقها، ورغم أنه صحيح أيضا أن صفات رشيد الجيدة العديدة، بالإضافة إلى الأحداث التي جرت في حياتي، ربما ساعدت كلها مجتمعة في أن يصبح مهما بالنسبة لي.
إن العالم في غاية الروعة، الطريقة التي يعيد فيها ولادة نفسه لك إن كنت سهل الانقياد. فإن كنت طيعا، ستكون الأشياء التي يأتي بها العالم مثيرة وجديدة في كل مرة، تكتسي ألوانا مختلفة، وتأخذ أشكالا متعددة.
بالنسبة لي، لقد ولد عالم جديد عندما أصبحت طالبة في جامعة ولاية نيويورك، وتخصصت في العلوم السياسة والدراسات عن السود. لم أكن أعرف أني سأجد في كل صف دراسي قطعا من نفسي، قطعا متناثرة من أنثى سوداء تنتظر أن تلملم نفسها، ويعاد تركيبها.
للمرة الأولى في حياتي، الحياة التي هيمن عليها تاريخ الرجل الأبيض ، ثقافة الرجل الأبيض ، أدب الرجل الأبيض ، موسيقى الرجل الأبيض ، أحاسيس الرجل الأبيض، الحياة التي يشكل فيها السود كناية عن شيء ما، رحت أقرأ كتبا عن شخصيات وتجارب بدأت أفهمها. وانكشف أمامي في نهاية الأمر تاريخ تجاوز العبودية ليشمل تاريخا فيه رجل أسود ناجح، رجل أسود ذكي، رجل أسود شجاع.
إن معرفة ذلك خلّف في نفسي مجموعة من العواطف أظنها مشتركة لأي شعب محتل. وكان أعظمها، أكثرها عمقا، المشاعر التي تملكتني، الحب، أخيرا من أجلي، أنا كامرأة سوداء، امرأة لها حقا موقع في التاريخ، إن لم يكن في كتب المدرسة الثانوية. وللمرة الأولى في حياتي الدراسية كلها، رحت أدرس أدب السود: جيمس بولدوين وزورا نيل هورستون، وبوتشي إميتشيتا وتشينوا أتشيب.
وتعلمت أنه يوجد لدى أسلافي أشياء أكثر من الرق وحركة الحقوق المدنية، التي كانت خلال سنوات دراستي الابتدائية والثانوية تشكل السياقات الوحيدة التي كنت أسمع أن مناقشات السود تجري حولها. وكان بوسعي ، في تلك الفترة المحورية من دراستي، أن أدرس مالكولم إكس، لا كمشروع للحصول على درجات أعلى، بل كشخصية سياسية دولية فذة انتقلت من السجن إلى مؤتمر باندونغ إلى منظمة الوحدة الأفرو أمريكانية. إني أشعر بالحرج عندما أعترف بذلك، لكني أعرف أن ذلك يجب أن يقال. للمرة الأولى في حياتي، شعرت بالفخر حقا لكوني سوداء. لم أشعر بذلك قط من قبل. لم ينتبني هذا الشعور ولا مرة واحدة من قبل.
لكن ما إن وقعت في حب تاريخي وثقافتي في نهاية الأمر حتى انتابني أيضا إحساس عظيم لما حدث لشعبي، لما فقده، لمن قتلوا. وبالتأكيد، اجتاحني غضب، غضب عارم، ضد الأشخاص الذين وضعوا السياسات والقوانين والمؤسسات التي لا يمكن تسميتها إلا بالشريرة.
أقول لك ذلك لكي تفهم كم كان سهلا في تلك الأيام أن تحدد من هو الصديق ومن هو العدو. وبعد ذلك، وبعد أن أصبحت ناضجة، وبدأت استوعب المعلومات أكثر وأكثر، لم يبق شيء بسيطا وواضحا. غير أن الأمر أصبح، فيما بعد، حرفيا ومجازيا، حالة من الأسود والأبيض. ومن خلال هذه العدسة لم أر رشيد فقط لأول مرة، بل رأيت جميع السجناء.
قلت لرشيد: كنت أرى في ذلك الوقت جميع السجناء ضحايا.
قال: نعم، كان الكثير منا يعتقد ذلك أيضا في البداية.
وبعض الناس هم حقا كذلك، ضحايا. في البداية كنا نقول إننا كلنا سجناء سياسيين بسبب سياسة نظام العدالة الجنائي. والعرق يشكل دائما قضية. لكنك تعرفين، كلما تقدم بك العمر، تريدين أن تتحملي مسؤولية حياتك كلها. لأنك إذا عشت لمدة طويلة بما فيه الكفاية، فإنك ستفعلين أشياء جيدة أيضا. وبدأت أريد أن أتذكر الأشياء الجيدة التي فعلتها. لكني إن كنت مسؤولا عن ذلك، فعلّي أن أكون مسؤولا أيضا عن الأعمال السيئة، صحيح؟
* * *
لم تكن وجهة النظر الشاملة تلك التي برزت هي التي أثرت على اختياراتي فقط. ففي الواقع كان ثمة أشياء ملموسة ومدمرة حدثت كلها في وقت واحد تقريبا، في السنة التي سبقت السنة التي وقعت فيها في حب رشيد. وفجأة بدأ كل شيء يتحول في حياتي، ورحت أبحث عن منفذ سريع، وكنت هناك، أجلس على الرصيف، وحدي، لا أستطيع الرؤية عبر المسافات، غير قادرة على التمييز.
جاءتني الضربة الأولى عندما طردت من الجامعة بسبب احتجاجي على رفع رسوم التعليم والتخفيضات في الميزانية التي أدت إلى خروج المزيد والمزيد من الطلاب من الجامعة. احتشدنا، تظاهرنا، مارسنا الضغط، ثم احتللنا مبنى الإدارة. ومن أجل ذلك وجهت إلى بضعنا بعض التهم، وتمت إدانتنا، وطردنا.
لسببين اثنين، كانت هذه خسارة أكبر مما كنت أتوقع. فأولا، كنت رئيسة اتحاد الطلاب، وثانيا، كان أبواي موظفين إداريين في الجامعة. وهما لم يوافقا على زيادة رسوم التعليم وتخفيض الميزانية أيضا، إلا أنهما كانا يرغبان، أكثر من أي شئ آخر، في أن أتخرج. قالا لي ذلك، وجعلتهما في الحقيقة ينتظران حوالي خمس سنوات قبل أن أسير في استعراض وأنا مرتدية الرداء الأسود على أنغام أنشودة Pomp and Circumstance الفخورة.
قبل أربع عشرة سنة، عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري، خرجت في استعراض مماثل على أنغام الأنشودة ذاتها وأنا أسير بين ممرات صالة مدرستي الثانوية. كان ثمة العديد من الأودية، قطرات كبيرة تهطل وتهطل بين هذين اليومين، وطوال ذلك الوقت، ورغم سلوكي الخارجي العدائي في أغلب الأحيان، فما كان دائما أهم شيء في حياتي، كان أيضا أهم شيء في حياة أطفال كثيرين.
كنت أريد بكل ما أوتيت من قوة أن أدخل السرور إلى نفس أبوي، وأجعلهما فخورين بي. وأنا أعرف أنهما قدما تضحيات كبيرة لي ولأختي، ليكون لدينا بيت جميل، ونذهب إلى مدارس جيدة، وأن نطلع على الفنون. فقد كنا من الطبقة المتوسطة، ولم نكن أغنياء على الإطلاق. وكل ما حصلنا عليه، أختي وأنا، جاء نتيجة ساعات طويلة، وفي أغلب الأحيان، ساعات صعبة وشاقة بذلها أبواي في عملهما.
ولم تكن وظيفتهما بالضرورة هي الوظيفة التي كانا يحلمان بها – وظائف لا تغني الروح. وكانت أمي وأبي يعملان لأتمكن أنا وأختي من الاختيار، لنتمكن من العمل في أي مجال نريد. ومضى وقت طويل قبل أن أنمو وأفهم ذلك جيدا، أن أعرف أننا، أنا وأختي، كنا الشغل الشاغل في حياة أبوي، أننا كنا أنا وأختي إرثا لهما. وعندها فقط أصبحت دراستي مسألة هامة. فقد كان أغلبنا، في جيلي، كما يبدو، يكافح من أجل المكانة والمقام. أما كفاح أبوي فكان من أجلنا، نحن ابنتيهما، وبدأت أؤمن بأني أدين لهما بالشيء الكثير.
أعرف أنني كنت مراهقة صعبة المراس، متجهمة، تلميذة أسوأ بكثير من أترابي الذين كان أبواي يعرفونهم. لقد سلبت أخطائي المختلفة، وتسكعي، وهروبي من المدرسة، وتعاطي للمخدرات، والشراب، من أبوي الفرصة لأن يكونا فخورين بي. وفي الواقع، لم أتمكن من دخول الجامعة إلا بوساطة أشخاص يعرفون أمي. وبعد ذلك، وبعد أن استقر بي الأمر بعد قرابة أربع سنوات، عندما انتقلت إلى جامعة الولاية وبدأت أحصل على درجات عالية، وما أعقب ذلك من احتجاجات وتهم، توجها الطرد من الجامعة.
إن فقداني لوضعي كطالبة في الشطر الأخير من السنة الأخيرة لي كان يعني أن يخسر أبواي كل شيء. وانتابني شعور بأنهما قد تخليا عني قليلا. كنت في العشرينات من عمري آنئذ، فماذا يمكنهما أن يفعلا أكثر من ذلك؟
***
إزاء هذه الخلفية الكارثية لخروجي من المدرسة، تهاوى زواجي المتزعزع. كنت آنذاك في الثالثة والعشرين من عمري، وقد مضى على زواجي سنتين.
لم تكن المسألة أننا لم نكن نحب بعضنا، زوجي الأول وأنا. بل كان الحب هو كل شيء نمتلكه، وكنا بحاجة إلى المزيد والمزيد. فكل الأزواج يحتاجون إلى ذلك. كنا بحاجة إلى عواطف واهتمامات وأهداف مشتركة. كنا بحاجة لأن يتكلم أحدنا إلى الآخر. كنا بحاجة آنذاك إلى قدرة إلهية تفسره لي، وتفسرني له.
وبدلا من ذلك كان الصمت هو الذي يكتنف حياتنا. وفي مواجهة هذا الهدوء القاسي، الهدوء غير الودي، كان زوجي يهرع إلى عمله كل صباح ويمكث هناك أحيانا اثنتي عشرة ساعة، أو ثلاث عشرة ساعة يوميا: وأنا بدوري هرعت إلى الجامعة وفعلت الشيء ذاته. وعندما كنا نعود إلى البيت، لم يكن هناك شيء نفعله سوى أن ننام؟
كنا نخلد إلى النوم. كنا ننام نوما متقطعا، بغضب، باتهام، ولكن أكثر من أي شيء آخر، كنا نغط في النوم: كنا ننام حتى لا يعود هناك شيء نفعله سوى أن نزحف من السرير، منفصلين، ونخرج إلى هذين العالمين المختلفين اللذين خلقناهما لأنفسنا، عالمه من ناحية من الكون، وعالمي من الناحية الأخرى.
أما أبواي ، اللذان دام زواجهما السعيد، الصحي، أربعة عقود، فلم يكونا يتصوران أو يفهمان كيف يمكن لزواج أن يتداعى بعد سنتين فقط. إذ كان قد بني كل شيء بعناية. واستمعت، واستمع كلانا إلى آراء الخبراء، وحاولنا أن نحذو حذوهم.
بدأنا، أنا وزوجي الأول، حياتنا بحفل زفاف رسمي ومكلف في شهر حزيران. ارتديت رداء وحجابا أبيض. وأمسك أبي يدي وقادني عبر الممر، ورقص الرقصة الأولى معي. كانت لدينا حسابات مصرفية وبطاقات ائتمان مشتركة. قال زوجي إنه لا يتعين علّي أن أعمل، بل يكفي أن أذهب إلى الجامعة. وذهبت إلى الجامعة، وطهوت ونظفت. كنا نقيم حفلات عشاء فخمة. إلا أن ذلك لم يؤثر على حياتنا الزوجية في نهاية الأمر، وذلك لأنه فيما كنا نؤدي دورنا الإداري، لم نكن نفعل شيئا من الجانب الإبداعي. إذ لم تكن هناك كلمات، أو حوار، أو نكات خاصة بيننا. وبالنسبة للكثيرين، لا يعتبر غياب اللغة سببا كافيا للتفكير في إنهاء الزواج. أما بالنسبة لي، فكان سببا رئيسيا لأن أفعل ذلك. أعرف ذلك الآن. لم أكن أعرف ذلك آنئذ، ولهذا السبب، لم أتمكن من أن أجري إليها في البيت، إلى أمي، التي، كنت واثقة، أنها تحملت الصمت طوال تلك السنين لتحافظ على زواجها مع أبي.
الخلاصة هي أنني لم أكن أسعى لأن أنقذ حياتي من نوع من الوحوش، من شخص لا يكف عن الضرب، من مدمن خمور ساخط. بل كنت أهرب من الرجل الذي أحبه الجميع، الرجل الذي أحببت. لذلك ألقوا اللوم عليّ. فأنا التي تسببت في زعزعة حياتي، ثم تجرأت وطلبت شيئا من العطف، كتفا أسند رأسي إليه، يدا تمد لي العون.
لم أستطع أن أواصل الدراسة في الجامعة. لم أقو على المحافظة على الزواج. لم يكن لدي عمل. فأين يمكنني أن أعيش؟ من يمكنني أن أحب؟ ماذا يمكنني أن أفعل؟ أي هدف يمكنني أن أحققه؟
في منتصف تلك الليلة، كانت هذه الأسئلة تطرق في رأسي طرقا شديدا. كانت تدق مثل أنابيب الرصاص السميكة على أطراف أحلامي، تطرق وتطرق حتى صحوت. صحوت وقد اعترتني نوبات من الخوف، من الحزن، من العزلة.
* * *
أردت أن يدخل الحب إلى حياتي مرة أخرى، أردت أن أكون مهمة لشخص ما مجددا. أردت أن يقبلني أحدهم كرة أخرى. إن خيبة أمل أبوي فيّ، وقلة اكتراث زوجي وإهماله، بدأت تدفعني دفعا وراحت تخزني كألف دبوس تخز باطن قدمي. وكنت عندما أسير، كان ألم رفضهم لي، الشيء الذي فسرته برفضهم لي، يجعلني أتلوى، وساورتني شكوك بأني غدوت أبدو كعرض جانبي. كان ذلك فشلا واضحا. ولم أعرف كيف أن لا أكون هذه الأشياء، كيف لا أبدو فظيعة، لا أبدو منبوذة في نظر عائلتي، وفي نظر الرجال. وهكذا بدأت أشعر بالانقسام، بدأت أشعر بأني قبيحة، مكروهة، غير مرغوبة.
في ذلك الوقت، لم يحملني على حب رشيد شيء واحد من تلك الأشياء، بل إن ما حملني على حب رشيد هو هذا الإعصار الهائل بالإحساس بالخسارة والحاجة. ولمدة سنة أو يزيد، أخذ يدعوني باستمرار إلى السجون لأصبح جزءا من تراثها الثقافي المختلف، وكنت ألبي دعوته في كل مرة وأذهب، وكنت أحضر معي شبانا آخرين. وفي ظهيرة أحد أيام الصيف، أحضرت معي شابين كنت أعرفهما ليلقيا قصائد الهيب هوب، وصعد أحد الشابين، أخ ذو وجه جميل حاد القسمات، وأمسك الميكروفون. وبدا وكأنه ينظر إلى كل شخص من الجمهور في الوقت ذاته، ينظر إليّ، إلى السجناء، إلى الشرطة، إلى الجميع. ثم قال، ولن أنسى ذلك:
أشعر بثورة غضب محاربي ، وأنا أمهد السبيل للمقاومة.
أريد أن أمد رأسي. الآن!

ما أن تفوه بهذه الكلمات وانطلقت في الأثير، حتى طوق عدد كبير من رجال الشرطة خشبة المسرح، عدد كبير منهم لم أره من قبل في السجن.
حسنا! هكذا إذن! قال أحد رجال الشرطة، وطلب منا مغادرة المكان بسبب “محاولة الشروع في إحداث اضطراب”.
قبل أن يدفعونا خارج السجن، أعطيت رشيد رقم هاتف بيتي. وقلت في نفسي: إن هم طردونا من السجن، فماذا سيفعلون برشيد لأنه هو الذي دعانا إلى هنا؟
قلت له: اتصل بي. وأطبقت يده حول قصاصة الورق الصغيرة التي خربشت عليها رقمي.
اتصل بي إذا سببوا لك أي مشكلة لهذا السبب.
ومرت أسابيع، ثمانية، ربما تسعة، بين تلك الحادثة، والمرة الأولى التي أجبت فيها على هاتفي وسمعت ما أصبح تسجيلا عاجلا ومألوفا الآن:
توجد مخابرة على حسابك من. . . رشيد . . . نزيل أحد سجون الإصلاحية. إذا أردت عدم قبول هذه المخابرة، أغلقي السماعة. وإذا قبلت المخابرة اضغطي رقم ثلاثة، الآن.
وفعلت ذلك. ضغطت رقم ثلاثة، وقد تغير كل جزء من حياتي، كيف أفكر، كيف أحب، كيف أحدد الأولويات، لأي شيء أصلي، ماذا أدّخر، ماذا يغضبني، ماذا أقدّر، كيف أنظم وقتي، مالي، كل شيء صغير وكل شيء كبير في حياتي. لقد تغيرت قبل أن تتاح لي الفرصة لأن أطلب استشارة أو أطرح سؤالا. لقد تغيرت قبل أن تتاح لي الفرصة لأن أتوقف أو لأعيد النظر، أو لأن أهرب.
هكذا تغازلين شاعرا
تغلف الأسابيع التي أفضت إلى زيارتنا الأولى حاليا غشاوة المكالمات الهاتفية اللاهثة والرسائل نصف الشهرية المفعمة بالعواطف. وكنت أقول لصديقاتي، اللاتي كن يسألنني، إن رشيد تمكن من إيقاعي في شباكه من خلال هذه المكالمات والرسائل. وكنت أقول لهن إن الرسائل هذه هي التي جعلتني أعلق في صنارته. وكنت أقول لهن إن المرأة التي لم تتلق رسالة غرامية من رجل في السجن، فهي لا تعرف ماذا تعني الرسالة الغرامية. وبخلاف صديقاتي اللاتي لديهن أحبة، واللاتي كانت مشاعرهن، كما كن يقلن، تتمحور حول أمرين: الغضب والشهوة، كان رشيد ينضح بالعواطف الجياشة. كل جزء منه، كل مسام فيه، كنت أقول لهن. ولم يكن رشيد يخفي عني شيئا كما يفعل الكثير من الرجال. وكان رشيد يصب كل مخاوفه وهمومه على الورق، من غير التباهي برجولته: حبيبتي، اتصلت بك الليلة الماضية، أين كنت؟ أو: آشا، لم أكن أريد أن أحبك بهذه الطريقة لأني أخشى أن تتركيني أيضا، لكن الأمر ليس بيدي… إنك حلوة جدا. لكنه كان يكتفي بالقول في غالب الأحيان: آه لو كان بإمكاني فقط أن أضمك الآن، لو كان بإمكاني فقط أن ألمسك. . .
لم يكن رشيد كاتبا جيدا، إذ لا توجد في كتاباته استعارات جميلة، ولا يتخللها فن رفيع، لكنه كان واضحا وصادقا ومعبّرا. كان مرهف الحس وكريم الروح. لقد منحني رشيد أشياء لم تكن لديّ. ولم يسبق أن غازلني أحد قبل أن تتوطد علاقتنا. الهدايا المفاجئة، البطاقات الشاعرية، الكلمات الناعمة المعسولة التي لم تطرق إذني من قبل.
عندما وقعت في حب رشيد، كنت قد تزوجت، وعشت أيضا مع بعض الأصدقاء ، وكنت لا أزال أعتقد بأن الرومانسية للفتيات الأخريات، الفتيات المرهفات، الفتيات اللاتي كنت أعرفهن في المدرسة الثانوية واللاتي كن يسمعن أسماءهن في مذياع المدرسة: أغنية “العينان السوداوان” مهداة إلى إيفون من مايكل مع عميق حبه دائما وأبدا. . .
كنت في الخامسة والعشرين من عمري، عندما أرسل لي رشيد أول رسالة غرامية، وأرفق معها أغنية للوثر فاندروز. ولعل امرأة أخرى في عمري كانت ستفكر بأن هذه الإيماءة سخيفة أو صبيانية. بكيت. اعتقدت أنها أوكسجين حياتي. وعندما أخذ رشيد يكتب لي، راح يكتب عن عينيّ. قال إنهما جميلتان، مثيرتان، حميمتان، عيون الخدر، وقال إنهما خطرتان. قال إنهما خطرتان على الأقل بالنسبة للرجال. ولم يكن أحد قد قال لي قط كيف كانت عيناي تبدوان. فمن ذا الذي ينظر إلى عينيك وأنت في الرابعة عشرة من عمرك ونهداك كبيران؟، ومن ذا الذي يتطلع إلى عينيك وأنت في الثانية والعشرين من عمرك؟
عندما قال لي رشيد لأول مرة إنه يرى أن عيني أجمل ما فيّ ، أحسست بالإهانة. ولم أكن أعرف أنه كان نوعا من الإطراء. فقد كنت أظن أن الإطراء لا يكون إلا على الساقين، الصدر، المؤخرة والردفين.
دعوني أقول لكم، إن الرجل كان يغازلني ويتودد إليّ بكلمات ناعمة لطيفة، ورغبة صافية. لا مخططات خفية، لا ألعاب، لا تخلف عاطفي، بل مجرد احترام وعاطفة مشبوبة تقبع وراء كل تلك الحجارة والخرسانة، ذلك الفولاذ والأسلاك الشائكة. إن الطريقة التي أحبني فيها رشيد، والطريقة التي أراد أن ُيحب فيها بالمقابل، كانت مشهدا من فيلم، قطعة من ملحمة رومانسية.
حتى يومنا هذا، كانت نظراته تلعقني لعقا حول خصري، بنعومة، وبدون عدوانية. حتى يومنا هذا، لم يكن رشيد عجولا، بل كان يتركني أوّجه الحركة والخطوة، وكان دائما يشعرني بأنه منفتح، في كل شيء، ومستعد لأي شيء أقدمه له، حينما أقدمه. وأجرؤ على القول إن أحدا لم يعاملني، ولست أبالغ في ذلك، بهذه الطريقة، بالطريقة التي يجب فيها أن تعامل المرأة باهتمام ورعاية.
كنت أضايق ساعي البريد خلال تلك الشهور القليلة الأولى. كنت أقف هناك، أحدق فيه وهو يضع الرسائل، والفواتير، والمجلات في صناديق الآخرين، ثم يتجه نحو صندوق بريدي. أتنفس الصعداء، بشكل مثير وثقيل. أنقل ثقلي من قدم إلى أخرى. وما أن يقترب مني في نهاية الأمر، حتى كنت أهرع نحوه وأختطف البريد من يده، وكنت أكاد أوقعه على الأرض وأنا أتجاوزه مندفعة نحو الدرج وأصعد مسرعة إلى شقتي.
وعندما أعود إلى البيت، كنت أرمي باشمئزاز، كل رسائل رفيقاتي في الغرفة، وجميع الرسائل المرسلة إليّ التي لا تحمل ختم سجن الإصلاحية الشرقية بوضوح.
كان طقسا مضحكا.
لم أكن أقرأ رسائل رشيد إلا بعد عدة ساعات، عندما كان الظلام يخيم، وبعد أن يمضي هزيع من الليل. كنت أريد أن أتأكد من أن صديقتي في الغرفة لن تقاطعني، أو هاتفا يشغلني. وبعد مضي كل هذه السنوات، لم أغيّر هذه العادة.
يجب أن تفهم، أن رسائل رشيد كانت كالمواعيد الغرامية، وكان يجب عليّ أن أستعد لها، وأن أمنحها كل ما تستحقه. وكنت قبل أن أبدأ في قراءة رسائله، كنت آخذ حماما معطرا برائحة المانجة وأمضي فيه وقتا طويلا. وكنت أشعل شموعا بيضاء أضعها حول حافة الحوض، وأشعل بخور الصندل، وأدندن أغنية نينا سايمون ( هل أحرك عواطفك، وهل أطيب لك).
وبعد أن أكون قد جففت نفسي، ودهنت جسدي بالزيت، وتمددت. وبعد أن أكون قد أعددت كوبا من شاي الفانيلا، وبعد أن أكون قد ارتديت شيئا فضفاضا من الحرير، كان بوسعي عندئذ أن أدعو رشيد. وكان بوسعي أن أقول له أدخل فيدخل. وكنا نجلس بعض الوقت، نتكلم بصوت خفيض ثم ننهض، ونقرر أن نخرج، لنتنشق الهواء العليل في الليل معا.
في تلك الرسائل، كنت أنا ورشيد نمشي الهوينى، ونعبر جسر بروكلن ويدينا متشابكتان. كانت تلك الرسائل أحاديث رخية، طلية، سلسة على مائدة العشاء. كانت همسات على باحة الرقص المضاءة باللون الأزرق. كانت حديث الفراش في الساعة الثالثة صباحا. كانت المعانقة التي كنت أشتهيها، تلك الرسائل. كنت أحلم من خلالها، وكانت تشعرني بالاطمئنان بعد ليلة مضطربة، قاسية، لا ترحم، إلى أن يبزغ الفجر. وكان الفجر يبزغ دائما.
عندما بدأنا نتبادل الرسائل والمكالمات، كان رشيد أيضا، في ما كنت متأكدة من أنها محاولة لإضفاء سياق على تاريخ علاقتنا، يحذف فقرات كاملة من رواية Soledad Brother . وعندما لم يكن يحذف منها كلمات، كان يحذف مجادلاتنا، حتى بدأت أتذمر في نهاية الأمر. قلت له إنه لا ينفع أن يكتب كما لو كان جورج جاكسون وكما لو كنت أنا أنجيلا ديفيس. قلت له إن هذه رومانسية، ولكن لدينا مسؤولية في أن نكون صادقين مع أنفسنا. ففي تلك المرحلة من الزمن، لم تكن لدينا مهارات حقيقية لنضع نظرية نحرر من خلالها جميع السود. ذات يوم: يمكنني أن أرى أن ذلك سيحدث ذات يوم: لكن هذا اليوم هو لنا فقط، مما جعلني أبدو في غاية الأنانية، شعرت بالجبن وأنا أقول ذلك.
ومع ذلك، فلو كنت واثقة من أي شئ، فهو أنه لا بد لنا أن نبدأ في تعلم كيف نحب أنفسنا أولا، نحب أنفسنا أولا حبا كاملا. قلت: إذا استطعنا إن نفعل ذلك، دون أن يتحكم فرد بآخر أو يسيطر عليه، فقد نصبح مفيدين حقا للسود الآخرين، مفيدين للعالم أجمعه.
الاكتشاف
نذر رشيد وأنا كل منا نفسه للآخر، على رؤوس الأشهاد، في المكالمات الهاتفية المراقبة، في الرسائل التي يتم فحصها بدقة، وأخيرا في أشرطة الفيديو المسجلة في غرف الزيارة في السجن. ومرت الشهور التي راح كل منا يتودد فيها إلى الآخر بدون ضابط، والتي شكلت جبالا من الزمن. وقبل أن ندرك ما كان يحدث حتى ارتبط أحدنا بالآخر، فريق صغير يتسلق أعالي الجبال، عينانا مغلقة بإحكام، لا ننظر إلى الأسفل أو إلى الوراء. ورغم أن ذلك قد استهلك منا محاولات كثيرة، واستنفذ قوانا على مدى سنوات كثيرة، فقد نجحنا. إذ تمكنا من بلوغ القمة، التي أسميناها الثقة. أسميناها الحب غير المشروط، وهكذا تمكنا من إعادة السنين بكاملها إلى كلّ بداية من بداياتنا.
في السنوات الثمان التي كنا فيها معا، أخذنا نبحث، من خلال أصوات خافتة، وأحيانا مترددة ، عن سنوات حياتنا كلها، سنوات حياتنا التي تصدعت من المركز، سنوات بدون أيام. وعكفنا على دراسة هذه السنين، وما تبقى منها. مددناها ووسمناها بعلامات، ولكن عندما كان التعب يأخذ منا كل مأخذ، ويصيبنا الإعياء في بعض الأحيان، كنا نركنها جانبا. كنا نتركها لفترة طويلة، لفترات طويلة، لكننا لم نيأس قط ونتخلى عن رحلتنا (عن أنفسنا). وكنا نعود دائما. فقد واجهنا سنواتنا التي كانت والتي لم تكن، وحاولنا، وهذا ما أنا واثقة من معرفته، أن نبذل كل ما بوسعنا كشخصين لنفعل شيئا في حياتنا، أن نقيم سلاما من نوع ما، سلاما مع حياتنا.
وكنت أرى منذ بدء علاقتنا بفترة طويلة، أن مشاركتنا، دراستنا لأنفسنا، بكل تأججها واتقادها، كانت هدية منحنا إياها السجن. فلو كان بوسع الغرباء، بل وحتى الأعداء أن يقرؤوا كل رسالة من رسائلنا، ويستمعوا إلى كل مكالمة من مكالماتنا الهاتفية، لو كان باستطاعتهم أن يروا مشاجراتنا ودموعنا، لو كان بوسعهم أن يراقبونا، والدموع تسيل على وجهي وأنا أهيج، وأنشج، وأصلي كي يمدني الله بالقوة، ماذا كان هناك لأخفيه عن الشخص الذي أحببته؟
وكما أن رحلتنا كانت ولا تزال لا تصدق، فهي أيضا معزولة تماما، ولهذا يسألني أصدقائي باستمرار. فقد كانوا يتساءلون غالبا بصوت عال إن كنت قد تسرعت في التورط في علاقة حب خطرة، وأنا أعترف أن هذه الشكوك التي كانت تراودني بين الحين والآخر منذ البدء، ليس حول رشيد، بل فيما إذا كان بوسعنا أن نقيم علاقة حقيقية، شيئا يمكننا أن نلمسه، شيئا يمكن أن يجعلنا نستمر.
في البدء قلت لرشيد إنه يجب ألا نتعجل، أن نسير ببطء.. أن نكتفي بكتابة الرسائل، أن نكتفي بالتحدث على الهاتف. قلت له إن الزيارات قد تأتي فيما بعد. لكن حتى تلك الشكوك، عندما أفكر فيها الآن، أعرف أنها في الحقيقة لم تكن أكثر من منغصات، وقد بددنا هذه الشكوك بسهولة بسبب حاجتنا، رغبتنا المستميتة في الحب، نعم، حتى بالضحك، لقد بددناها بالضحك أيضا.
على مدى شهرين، في اثنتين وثلاثين رسالة، في أربع وعشرين مكالمة هاتفية، وتخيلات لا تعد ولا تحصى، خلقنا أنفسنا في عينينا، رشيد، كزوج، رجل وامرأة عاديان مثل جميع الرجال والنساء الذين أراهم كل يوم، معا، يشبكون أيديهما، ونسلم جدلا بأننا نشبك أيدي بعضنا.
أما نحن، وأعني بنحن، نحن الاثنين اللذين عاشا دون أن ينقسما إلى نصفين وفق القانون والفولاذ، بل نحن الاثنين اللذين عاشا من خلال الرسائل والتخيلات، رومانسيتنا الحقيقة، في حين كان كل شيء آخر مجرد أكذوبة. هكذا كنا نؤمن يومئذ. وبطريقة ما، وقد تقطعت الكثير من أحلامنا، أو تصدعت أو دمرت إلى الأبد، هذا ما نعتقده الآن، اليوم، في هذه اللحظة من الكتابة.
كان إلى حد ما إحساسا عاطفيا إن لم يكن إحساسا جسديا، ومن الممكن أن تكون بدايتنا حقا مثل بداية أي شخص، مفعمة بالطاقة العصبية المألوفة التي ضعضعت صراعنا لتصبح ساحرة، ومحببة، ومتألقة في كل شيء نقوله.
وبالطبع، لم تعد حياتي، آنذاك، مشهدا طبيعيا، مدينة تقوم على خط متصدع. لم أكن أعرف آنذاك كيف ستكون حياتي، ورحت أعيش مع الرعب الذي يهددني كل يوم بأن كل شيء أعرفه قد يتحطم ويتناثر إلى شظايا في بضع ثواني غاضبة عنيفة. لم أكن أعرف آنئذ كيف أن الخوف سيطاردني وتتحطم البهجة الصغيرة التي قد خلقناها أنا ورشيد بسبب حدوث اضطراب في السجن، بل حتى بسبب خلاف قد ينشب مع أحد الحراس. لم أكن أعرف آنذاك ماذا يعني أن أتخلى عن إمكانية أن أتحكم بالسعادة عن وعي في حياتي. ليس كل السعادة، بل كثير منها. الكثير منها، التي تمسكها بإحكام قبضة حياة السجون المضطربة.
من ملفات الدفاع
لم يخطر لي قط أن الحرية ووجودي بالقرب من حبيبي سيكونان أمرين بعيدي المنال أو مستحيلين. وكم كنت أتمنى أن ُأمنح بضعة سنتمترات أكثر لكي نتمكن من أن نلمس بعضنا، أنا ورشيد ، أن تلمس أطراف أصابعه أطراف أصابعي. لقد أصبحت مهووسة وأنا أحاول أن أفهم كيف يمكنني أن أجسد ذلك. فهي تكاد تبتلعني، أقبضها بيدي لكنها تفلت مني، ثم أعود وأقبضها ثانية. لكني لم أفقد الأمل. فلا أزال أمد يدي، بإصرار، وقد أدمنت على ذلك. وقد ساهم رشيد في هذا أيضا، فهو ليس بريئا من ذلك.
كيف يمكنني أن أفسر كيف يبني الإيمان نفسه داخل مبنى المؤسسة الإصلاحية الضيق هذا ؟ فهذه السجون ليست طبيعية، إذ لا يوجد فيها مكان كاف لأن يعيش الإنسان فيه. لذلك، لا يوجد بالفعل خيار أمامك: فلكي تبقى على قيد الحياة، يجب أن لا توسع ما تؤمن به فحسب، بل عليك أيضا أن تواصل إيمانك به. يجب أن توسع ما تؤمن به حتى تكاد تصبح كالطفل، تقبل ما لا يصدق، تصدق الأسطوري.
لم يكن رشيد يصدق أنه سيمضي الأعوام العشرين كلها، وهي الحد الأدنى من الفترة التي تقتضيها الولاية لتنفيذ حكمه. لا أحد في السجن يصدق أنه ستسلب من حياته كل هذه الفترة، كل تلك الحياة. وقد أقنعني بذلك، بأنه سيأتي إلى البيت في أي لحظة. أقنعني لأنه هو نفسه مقتنع بذلك.
حتى عندما أكون وحدي، لا أستطيع أن أصدق أنهم سيبقون رشيد حبيسا في ذلك السجن، ذاك الرجل الذي أخذت أحبه بسرعة. ذاك الرجل الذي كان صديقي طوال سنتين، حبيبي منذ شهرين، فلا بد أنه سيكون الشخص الذي سيلتفتون إليه، الشخص الذي سيطلقون سراحه قبل انقضاء مدته: إذ إن السنوات العشر التي أمضاها في السجن قبل أنا أتعرف عليه تعتبر عقابا كافيا. ولاشك أنه آن الآوان لكي يطلقون سراحه ويرسلونه إليّ لأستقبله بين ذراعي.
لهذا رحت أبحث عنه بالطريقة التي دأبت فيها على البحث عنه. فقد كنت أبحث عنه دائما في الزوايا، أدقق في الوجوه في محطات مترو الأنفاق، أهرع إلى البيت متلهفة ظنا مني أنهم قد أطلقوا سراحه. لعل هذا اليوم سيكون هو ذلك اليوم، اليوم الذي أعود فيه إلى البيت وأجده هناك، واقفا أمام باب العمارة التي توجد فيها شقتي، ينتظرني، وابتسامة ترفرف على وجهه.
كنت أعرف أن هذا ليس إلا وهما طفوليا، لا يستند إلى المنطق أو الواقع: لكن هذا الوهم، هو الذي كان يمدني بالقوة. أن أفكر أن اليوم قد يكون هو اليوم: وإن لم يكن اليوم، فلعله نهار غد، أو بعد غد. وبهذه الطريقة تعلمت كيف أقيس غياب رشيد، أقيسه وأتجنب صدمات ذاك الوهم.
منذ فترة مبكرة جدا، أضحى غياب رشيد في كل يوم من حياتي شيئا وحشيا، شيئا أخذ يجعلني أترنح، مثل ملاكم عنيد شرس. ولم تكن هناك قواعد أو قوانين، لذلك كان عليّ أن أحصن نفسي وأرتب دفاعي، الدفاع الذي يعينني ويجعلني أتحمل هذه الجولة القاسية الطويلة. فعندما أحببنا بعضنا، كان قد تبقى له من الحكم أكثر من عقد من الزمن.
ورغم أنه كان هناك، في تلك الأسابيع الأولى من الرغبة اللاعجة، تلك الدفقات الصغيرة من المخاوف المزعجة التي كانت تنتابني عندما أتساءل، ماذا لو كان عليه حقا أن يمضي كل تلك الفترة، العقد الآخر بكامله؟ وعندما كانت تأتيني هذه اللحظات، كنت أشعر وكأنه يوجد لدي خيار، كأنني أقف على العتبة التي تفصل بين سلامة العقل والجنون، فلا أعود أستطيع أن أفكر كيف أتحرك، وإن كان عليّ أن أتحرك، فإلى أين سأذهب.
لم أستطع أن أتصور أن الله الذي أعرفه، والذي بعث لي الحب الذي كنت أرغبه دائما، الحب الذي كنت احتاجه دائما، قد وضعه خلف جدار عال لا يمكنني تسلقه. تضرعت إليه، صليت له، سألته: هل هذا هو عقابي لأني لم أكن حليمة عندما كنت طفلة؟ هل عليّ أن أتعلم الدرس الآن، الدرس الذي حاولت أمي أن تعلمني إياه لكنها لم تستطع، بأن الحلم فضيلة؟
عندما كانت تخيلاتي تخذلني، كما كانت تفعل في بعض الأحيان، كان الألم ينعتق ليختطفني تحت فوهة المسدس، يجعلني أمشي باتزان فوق رافدة خشبية ضيقة، لم أكن أمشي عليها بقدر ما كنت أجرى فوقها، أقفز قفزا. وربما واصلت طريقي عليها، وربما سقطت من فوقها. لم أكن أعرف، ولكن في أي من الحالين، أصبحت أعيش في خوف لم يترك لي فسحة أتحرك فيها. كنت أفكر بالسقوط، كيف يمكن أن يكون ثمة راحة وانفراج. لم تعد هناك حاجة لمحاولة الحفاظ على التوازن أكثر من ذلك. رحت أفكر بهذه الأشياء في الأسبوع الأول، الأسبوع الثاني، الأسبوع الخامس، والأسبوع السادس من علاقتنا. أفكر بهذه الأشياء، لكن أقل درجة الآن، ونحن في سنتنا الثامنة.
لكن تخيلاتي كانت تعود إليّ دائما، وأفكر وأفكر، وأنا عائدة إلى البيت سيرا على الأقدام من المتجر، من النادي، من حفلة قراءة الشعر، من لقائي مع المحرر، ماذا لو كان هناك ينتظرني؟ ماذا سأفعل؟ هل سأفقد وعيي، سأبكي، سأصرخ، هل سأضمه بين ذراعي فقط، هل سأدعوه إلى شقتي، وأقسم أنني لن أبرح ذلك المكان أبدا، إذا حدث ذلك؟
كانت هذه التخيلات أشبه بالدواء النفسي الذي أتجرعه. فهي تشعرني بالغبطة، ورغم أن مفعولها لا يدوم سوى لحظة واحدة، كانت تكفي لتجعلني أحافظ عليها، وأن أشعر أن لديّ التزاما، فأندفع إلى الرسالة التالية، إلى المكالمة الهاتفية القادمة، إلى المستوى التالي من الحب.
إني لست مجنونة. لست مجنونة. فمن حقي أن أحبه.
أدندن هذه الكلمات عندما أصحو، أنشدها قبل أن أنام، أغنيها عندما أكون في الشارع، أترنم بها وأنا في محطات المترو، كرة وأخرى، مرارا وتكرارا. أنشدتها حتى أخذ إنشادي شكلا طبيعيا، أصبح شيئا يمكنني أن أراه، صورة، لوحة زيتية. رأيت حبنا مرسوما داخل إطار بألوان زيتية داكنة. أستطيع أن أراها كما لو كانت معلقة على جداري، ولفترة من الزمن، لم يكن ثمة شيء آخر يمكنني أن أراه، لا شيء آخر يمكنني أن أتأمله. فأنا أعرف الآن كيف تمكنت مني تلك السنوات التي أمضيتها الآن، وأنا أروح إلى السجن وأعود منه. إنها تتقدم، ثم تصطف أمامي باستعداد، كفرقة إعدام لا ترحم.
على الطريق: ما استجد في التسعينيات
في المرة الأولى التي زرت فيها رشيد لا كمتطوعة، بل كصديقة، صديقته، كان اليوم الذي أعقب عيد الميلاد، في الشطر الأول من النهار، وكنت جالسة في حافلة صغيرة، واحدة من تلك الحافلات الصغيرة الكثيرة التي تنقل شريك حياة، أو أخت، أو أب أو أم إلى أحد السجون السبعين المتناثرة في ولاية نيويورك.
من نافذتي رحت أراقب الصباح ينشر ضوءه فوق ذؤابات المباني المحترقة في حي جنوب البرونكس، حيث يقع آخر موقف للحافلة قبل أن تشق طريقها إلى شمال الولاية. وكان هناك مقهى يمكننا أن نذهب فيه إلى الحمام أو نشتري طعام فطورنا. فتنزل معظم النسوة من الحافلة، وما هي إلا لحظات حتى يعدن ليتكدسن فيها.
وكانت تفوح دائما من الحافلة الصغيرة التي تنقل حوالي أربعة عشر شخصا إلى السجن رائحة ساندويتشات البيض ولحم الخنزير، ورائحة القهوة والشوكولاته الحارة، وعبق عطر رخيص، ومراهم الشعر، وطلاء الأظافر، ورائحة جلد النساء الذي التصقت به طبقة دخان آخر سيكارة كنّ قد دخنّها. ويلفنا الهواء الخانق مثل أنشوطة جلاد، أنشوطة دسسنا فيها رقابنا. وهكذا تبدأ الرحلة.
سنتان مضتا على علاقتي برشيد، عندما نقل إلى سجن يبعد حوالي ثماني ساعات عن مدينة نيويورك، في مكان يقع في جهنم الشمالية، ويبعد مسافة قليلة سيرا على الأقدام عن الحدود الكندية. ولم يكن ركوب الحافلة الصغيرة خيارا بالنسبة لنا، وبدأت أقدّر غيابه، بل جعلت أحزن له. إلا أن قرار نقله الذي اتخذ خطأ، ألغي في نهاية الأمر، ولكن بعد شهور وشهور من المعارك الإدارية والقانونية. وفي السنة التي سبقت عودة رشيد إلى جنوب الولاية، تعلمت كيف يمكن أن تصبح هذه الحياة قبيحة وشنيعة.
علمت منذ الدقيقة الأولى أنني وصلت إلى ساحة كولومبوس في مانهاتن في الساعة الحادية عشرة من إحدى ليالي الجمعة، لكي استقل الحافلة التي ستأخذني، أنا وعدة مئات من النساء الأخريات، إلى السجن البعيد، السجن الذي يقع بالقرب من كندا. وهناك، في ساحة كولومبوس، وفيما كنت أنتظر انطلاق الحافلة، وجدت أني لم أكن أبعد عن المكان الذي تربيت فيه سوى نصف ميل، مما جعلني أشعر بالصدمة، وأنا أقف في وسط مانهاتن، تحت رذاذ مطر نيسان الذي أخذ يهمي مسترسلا في منتصف تلك الليلة: وقد استحوذ على عقلي قرب موقف الحافلات من بيت أبويّ فلم أعبأ برذاذ المطر البارد الذي كان يتساقط عليّ، ولا بنشيج الأطفال الرضع، ودندنة تلك النساء المتذمرات، نساء مثلي، حبيسات، أراقب وجوههن المتجهمة.
رحت أتحسس في حقيبتي أبحث عن المظلة، وفكرت كم كان أبواي يريدان حمايتنا، أنا وأختي، من أي شئ، ومن أي شخص، ومن أي مكان قد يسلبنا قدرتنا على الاختيار في الحياة، أو قد يحد من حريتنا. المدارس الخاصة، والمعسكرات الصيفية، ودروس البيانو، ودروس الرقص، والسباحة، وركوب الخيل، ودروس الفن، والجمباز، ولم يكن أبواي يرفضان شيئا يمكن أن يجعل منا نساء مستقلات قويات عاطفيا. ماذا سيقولان، وكيف سيكون شعورهما إن هما شاهداني في ذلك الوقت، وأنا على وشك أن أستقل الحافلة التي لا تسمع فيها أول ما تسمع الاتجاه الذي ستقصده الحافلة عندما تصعد إليها، بل تسمع عبارة
ممنوع تدخين السكائر أو مخدر الكراك، ولا يسمح بشرب أي نوع من المشروبات أو البيرة.
عندما كنت مراهقة، كنت أنا وأعز صديقاتي نيكول نتجول في الشوارع القريبة من حينا في عطلة نهاية كل أسبوع، نحتسي البيرة والنبيذ الرخيص، وندخن السكائر، وسكائر الماريوانا، ونتحدث عن التدمير النووي، والجنس والحب، والعزلة، والمخدرات، والموسيقى. وكنا نجلس في بعض الأحيان، نحن الاثنتين، بقرب النافورة في مركز لينكولن. وكنا في أوقات أخرى نتمشى إلى حديقة سنترال بارك، باتجاه مدخل الحديقة في الشارع التاسع والخمسين مع ساحة كولومبوس، وكنا نمر من أمام كل تلك النساء الواقفات وسط الصناديق، والحقائب، وهن يحملن أطفالهن الرضع، في انتظار أن يستقللن الحافلات المتوجهة إلى أماكن لم نكن نعرفها أو نسمع بها.
لم نكن نعرف شيئا عن السجون آنئذ، أنا ونيكول ، ونحن نمر من أمام تلك النسوة ليلة كل يوم جمعة تقريبا. وعندما كنا نمر من أمامهن، ربما كنا نهمس، لكننا لم نتساءل عنهن أبدا، عن تلك النساء، من كنّ، بماذا يفكرن، ماذا كنّ يفعلن هناك. ولم نكن نخشى، على الأقل لم أكن أخشى أنا، بأن العالم القاسي الذي كان آباؤنا يحاولون أن يحذرونا منه، ويحاولون حمايتنا من عادياته، قد يأتي ويحطم أحلامنا. أينما كانت نيكول الآن، ربما كانت في أمان، ربما نجت بنفسها من الدمار. وهذا ما أتمناه لها حقا، وأتمنى أنها لم تنزف قط، بالطريقة التي أنزف فيها الآن، من صميم حياتي، من كل نبض فيها.
لكني عندما كنت مراهقة حزينة لم تتجاوز الحادية والعشرين من عمرها، لم يكن ثمة وسيلة تمكنني من توقع هذه اللحظة، عندما كانت حياتي، كل حياتي، على وشك أن تدفع دفعا داخل حافلة ثم تحشر في مقعد لم يخصص لجلوس شخصين بالغين بارتياح: كنا غرباء، أنا والمرأة منحشرتان على كرسي واحد، وقد أعيانا الإجهاد، وكنا نتمنى أن نغفو ولو نصف ساعة، أو ساعة. حاولنا أن ننام دون أن تلامس إحدانا الأخرى، ودون أن نأخذ مكانا ليس لنا.
عندما أعيد نقل رشيد أخيرا إلى جنوب الولاية، إلى السجن الذي يبعد ساعتين عن مدينة نيويورك، اتصلت بفريدي العجوز، سائق الحافلة الصغيرة، وقلت له إني قد عدت. قلت الحمد لله، مر بي، تعال وخذني، يوم الخميس للزيارة.
كان فريدي، سائق الحافلة الصغيرة، رجلا حاد الطباع، ، لكنه رجل طيب، نشيط، تماما مثل أبي. وبعودتي إلى الحافلة أحسست كأنني عدت إلى بيتي. كرهت أن ينتابني مثل هذا الشعور، لكن الوجوه المألوفة التي كنت أراها جالسة على المقاعد، والخدمة من الباب إلى الباب، ورؤية فريدي وهو يفتح الباب لي ويغلقه، جعلني أشعر بالارتياح.
عندما رأيت فريدي لأول مرة بعد مسلسل الرعب البعيد في شمال الولاية، تملكتني رغبة في أن أعانقه، لكنني بالطبع لم أفعل. فلا يليق بي أن أفعل ذلك في هذا العالم، إذ إن ذلك سيوحي بأمور كثيرة. فوجود رجلي في السجن، سيثير شكوكا بأنني، بأن النساء في ظروفي، وحيدات، بل يائسات. قلت لفريدي صباح الخير، ورد التحية مغمغما.
صاحت إحدى النساء، فريدي افتح تلك النافذة. وارفع صوت الموسيقى.
نظرت حولي إلى النساء في الحافلة الصغيرة، وجوههن الشابة والمتوسطة العمر والمسنة متغضنة ومكفهرة، مثل وجهي. وقد حشرن عواطفهن في زوايا وثنايا وتجاعيد لحمهن. وكانت المناديل القطنية تحمي تصفيفة شعرهن، وزينتهن تامة. أظافرهن طويلة، معقوفة، وملونة. وكانت ملابسهن، كملابسي، أفضل ثياب يمكنهن ارتداءها يوم الأحد. لقد استوعبت كل تلك النساء، أخواتي (نفسي)، كما لو كنا لوحة فنية نادرة.
كنا كمن يقوم باستعراض في عيد الفصح ونحن نرتدي ملابسنا الزاهية.
الحافة: طوبوغرافيا أول موعد غرامي في السجن
عندما ذهبت لرؤية رشيد، وصلنا في حوالي الساعة التاسعة صباحا لنقوم بزيارتنا المحددة بست ساعات. الآن، وبعد هذه السنوات الثماني من الذهاب والإياب، تبدو الرحلة وكأن لا نهاية لها، تلك الساعات الأربع الطويلة التي نقضيها ونحن نتنقل من باب إلى آخر. أما في المرة الأولى، فقد كنت متلهفة جدا وعصبية جدا، إذ ظننت أننا وصلنا إلى هناك، إلى السجن، حتى قبل أن أجد مقعدا في الحافلة الصغيرة.
توقفنا عند ساحة وقوف الحافلات في السجن، السجن الذي بت أعرفه جيدا، السجن الذي كان يبدو أشبه بقلعة، السجن الذي تطوعت لقراءة الشعر فيه مدة سنتين تقريبا، السجن الذي يقبع فيه رشيد. تبعت الزوار الأكثر خبرة في الممر، عبر مجموعتين من الأبواب الحديدية الثقيلة السميكة إلى حد لا يصدق. ولم أكن قد استخدمت هذا المدخل من قبل. إلا أن هذا لم يكن الشيء الوحيد المختلف خلال زيارتي هذه.
فقد تغيرت معاملة الشرطة لي أيضا، إذ لم أعد متطوعة الآن، بل أصبحت حبيبة أحد السجناء، امرأته، شريكة حياته. فكوني متطوعة كان يمنحني شيئا من المجاملة، أما كوني حبيبة، صديقة، فكان يجلب لي، في أغلب الأحيان، العداوة والشك. وكنا جميعا نعامل بعدوانية، وينظر إلينا بعين الريبة والشك، نحن الأمهات، الأخوات، الصديقات، الآباء، بنات العم، والزوجات.
دخلت إلى غرفة فيها خزائن رمادية وكراسي بلاستيكية سوداء، وحمامان، وجهاز لكشف المعادن. وكان هناك شرطيان قابعان وراء منضدة بدون كراسي. وكما طلب مني، فقد ملأت استمارة، وعندما نادى الشرطي اسمي، لا ليس اسمي، بل رقم رشيد ، توجهت نحو المنضدة. أودعت كل أشيائي في إحدى الخزائن، ماعدا محفظتي، وأحمر الشفاه، ومشط، وقلم. عندما كنت متطوعة، كنت أستطيع دائما أن أحضر معي حقيبتي. أما كزائرة، فقد أصبحت الحقيبة نفسها من الممنوعات. سلمت محفظتي، والاستمارة، وهويتي إلى الضابط الذي لم يتطلع إلى وجهي.
اخلعي حذائك ومعطفك وانزعي حليك. ضعيهم على الطاولة.
فعلت كما طلب مني، ثم مشيت عبر جهاز كشف المعادن.
قال محذرا، انتظري!. ارجعي إلى الطرف الآخر من الجهاز وانتظري حتى يصبح جاهزا.
القلم وأحمر الشفاه ممنوعان. سأبقيهما معي إلى أن تخرجي، أو يمكنك أن تضعيهما في الخزانة. قال ذلك، ثم أضاف: الآن، امشي عبر الجهاز مرة أخرى.
خطوت عبره فانطلق عنه صوت رنين.
عودي ثانية ولا تلمسي الجانبين.
فعلت كما طلب مني، ومررت عبر الجهاز ثانية فلم يصدر رنينا.
أشار إليّ الضابط بأن أمرّ عبر بابين يغلقان إلكترونيا. ُفتح الباب الأول، دخلت. أُغلق، ثم فُتح الباب الثاني، ودخلت غرفة كبيرة أخرى فيها صفوف وصفوف من الكراسي البرتقالية والسوداء، وآلات بيع المشروبات الخفيفة ومناضد. سلمت استمارة دخولي إلى شرطي كان يجلس إلى طاولة في مقدمة الغرفة. جلست إلى طاولة في إحدى زاويا الغرفة. انتظرت، وانتابني شعور بالعصبية، شعور بالضيق من عملية التفتيش.
سيأتي وقت بعد سنوات قليلة، تصبح فيه عملية التفتيش تبدو وكأنها لعبة من لعب الأطفال، وكأنها أمر مألوف ويكاد يكون وديا. وجاء ذلك الوقت بعد أن تزوجت رشيد، وهذا يذكرني بقصة. جزء من التاريخ الذي غصصت به منذ أن سمعت عنها. علق هناك وأخذ يتعفن.
إنها قصة فينوس هوتينتوت. فلم أكن أعرف، عندما قرأت عن تلك المرأة لأول مرة، لم يكن بالإمكان أن أعرف كيف أنها ستلاحقني كظلي. غير أني بعد أن قرأت عن فينوس هوتينتوت، المرأة السوداء من جنوب إفريقيا في القرن الثامن عشر، المرأة التي ُخدعت وُهجرت إلى إنكلترا، المرأة التي ُعرّيت وُأرغمت على دخول قفص في سيرك بريطاني، حيث كان الناس يأتون ويتفرجون عليها، يتحدثون عنها، وتدوسها آلاف من عيون البيض بقسوة. لم أكن قد دخلت السجن في حياتي بعد. فماذا كنت أعرف آنذاك عن الأقفاص، عن الإذلال والمهانة، عن العرض أمام الناس بالقوة؟
إن التفتيش بغية الدخول إلى غرف الزيارة في سجون ولاية نيويورك يعني أن للشرطة الحق حتى في تفتيش وتدقيق فوطي النسائية التي يرفعونها لفحصها أمام الضوء. وكان الرجال دائما هم الذين يقومون بهذا النوع من التفتيش، تقريبا في كل مرة.
بعد أن تزوجنا وُسمح لنا بإجراء زيارات زوجية، كان رجال الشرطة، قبل أن أدخل مكان المقطورة حيث سنمضي أنا ورشيد وقتنا، يرفعون سروالي الداخلي واللولب ومرهم “ك جيلي” أمام الناس، على الملأ، حيث تقف غالبا مجموعة من السجناء على مسافة لا تبعد عنا سوى خمسة أقدام، وربما ثمانية. وكانوا يتحسسون بأصابعهم سروالي الداخلي الحريري الأسود، الذي كنت قد اشتريته لكي يراه رشيد فقط. وكانوا يهزون حمالة صدري، وروب نومي، رغم أنهما كانا شفافين.
في المرتين الأوليين، أو في المرات الثلاث الأولى التي حدث فيها ذلك لي، بدوت وكأنني عديمة الحياء والحشمة. انتابني شعور بالخجل والحرج. أما الآن، فقد أصبحت أشعر بوجود صداقة حميمة بيني وبين النساء اللاتي يرقصن عاريات ليكسبن قوتهن. وبالطبع، فإن الفرق الوحيد بيننا هو أني لا أقبض أجرا. لكن أظن أنه يجب أن أحصل على أجر لقاء كل نظرة طويلة، كل مرة يتحسس فيها أحد هؤلاء الشرطة بأصابعه ملابسي الداخلية، أولاد القحبة هؤلاء، إنهم مدينون لي، على أقل تقدير، بشيء من المال. وفي صباح ذات يوم تسبب السلك المعدني في حمالة صدري بإطلاق رنين جهاز كشف المعادن. نظر العريف إلى صدري، ثم قال:
بالطبع لا داعي لأن تكرري هذا النوع من التفتيش مرة أخرى. لكن إذا أردت إتمام هذه الزيارة، عليك أن تفتحي قميصك وتدعي الشرطية تفتشك بالجهاز. في الحمام طبعا. إنه إجراء أمني عادي والتعليمات معلقة هناك إن رغبت في قراءتها.
هل أمامي خيار ؟ وتبعت الشرطية، امرأة من بورتوريكو بدا أنها في سن أمي، إلى غرفة استراحة النساء. ولم تشأ أن تفتشني أكثر مما أردت أن ُأفتش. فقد كانت تعرف، كما كنت أعرف، أنه ليس ضروريا. إذ كان بالإمكان تمرير ماسح ضوئي يدوي فوق بلوزتي المصنوعة من المخمل. أما أولئك السجانون، الذين يتمتعون بأدنى درجات السلطة، فهم لا يحتاجون إلى أن يوجههم المنطق أو الحشمة في أثناء اتخاذ قراراتهم. فلو اخترت أن أدافع عن وجهة نظري، وحتى إن انتصرت، فستكون ساعات الزيارة قد انقضت.
ولأنه لم يكن بوسع هذه الشرطية أن تستعدي الرجل المسؤول عنها، فقد استعدتني أنا. أين مشاعر الأخوة بين البشر في العالم، بل أين هي حتى محليا. على كل، فقد تحولت إلى امرأة شريرة وشرسة، وأخذت تنبح وهي تصدر الأوامر كما لو كنت قد أسأت إليها.
كنت قد تلاشيت حتى قبل أن أدخل إلى ذلك الحمام، تلاشت روحي مني، خرجت من جسدي. كنت أتحرك لكني لم أكن موجودة، كنت محطمة، منهارة، جسدي منفصل عن روحي. واتبعت حيلة كنت أمارسها أثناء ممارستي للجنس. إنها حيلة قديمة. فقد فككت أزرار بلوزتي القليلة الأولى بيدي، في حين أخذ عقلي يرسم صورا على الجدران، خطوطا برتقالية وخضراء انغمست في صيحاتي. رأيت نفسي أرقص بين الألوان على الجدار، دون كابح ودون أن أكون مثقلة بالهموم. كان جسدي أزرق شفافا، موجة من موجات المحيط الكاريبي. كنت أرتفع بحركة بطيئة، كلي قوة وعنفوان، أهدر، ثم أنطلق نحو السماء بعد أن أصبح لي جناحان.
قالت الشرطية: افتحي قميصك كله. لا يزال الرنين يصدر عنك، وبنطال الجينز، أنزليه تحت فخذيك.
حللت أزراري، شددت البنطال إلى الأسفل، استدرت إلى الأمام والخلف. مددت ذراعي، هززت حمالة صدري، وكنت طوال الوقت، داخل نفسي، أدندن وأغني، أتخيل صورا وأتأمل.
في النهاية، تركتني واقفة هناك وقميصي وحمالة صدري مفتوحين وبنطالي مشدود إلى الأسفل. ومع كل ذلك، لم تجد بحوزتي أشياء ممنوعة، ولم يكن يتوقع أن يكون معي شيء منها. فلو كانوا يخشون بالفعل إن كنت أخفي سلاحا يجعل رنين الجهاز ينطلق، فلماذا أرسلوني إلى غرفة مغلقة مع إحدى شرطياتهم وهي لا تحمل سلاحا، فقد كان عمرها في ضعف عمري وحجمها بنصف حجمي؟
دمدمت: حسنا، ارتدي ثيابك وفي المرة القادمة لا ترتدي حمالة صدر فيها سلك معدني.
منذ أن كنت مراهقة،لم أكن أرتدي سوى حمالات صدر ذات سلك معدني، ربما منذ كنت في الرابعة عشرة من عمري. وطوال تلك السنوات التي دخلت فيها إلى السجون ومررت عبر أجهزة كشف المعادن، لم أكن أرتدي سوى ذلك النوع من حمالات الصدر.
إلا أنه يمكن معايرة هذه الأجهزة بدرجات متفاوتة من الحساسية، مما يجعلنا دائما، نحن الزوار، نتساءل إن كان الهدف من الجهاز هو مضايقة الزوار وممارسة السلطة عليهم أكثر من التركيز على مسألة الأمن. يا ليت الأمر كان يتعلق بالأمن، قلت ذات مرة إلى امرأة أخرى كانت قد تعرضت أيضا لتوها لمأساة هذا الجهاز، الجهاز الذي يكشف دائما أني أرتدي حمالة صدر ذات سلك معدني.
قالت: نعم، إنك محقة في ذلك. وهزت رأسها وزمت شفتيها، وهي تشعر بالإحباط. وأردفت،
أعني أن الأمر سيكون دائما شديد الحساسية، ما لم تر الشرطة بالطبع أنه لا بأس من تهريب سكاكين أو مسدسات سرا ذات يوم، ولكن ليس في اليوم التالي. تفهمين ما أقصد، ووافقت على ذلك.
لذلك، لم أفاجأ عندما لم يعد الجهاز يصدر رنينا في السنوات التي أعقبت الحادثة، السنوات التي كانت فيها جميع حمالات صدري ذات سلك معدني. ولا مرة واحدة.
عندما أخبرت رشيد بما حدث لي، توقعت أنه سيستشيط غضبا، لكنه حافظ على هدوئه ولم يغضب. ربما أحس بالضيق، وقال إنه يأسف لما عانيته أثناء التفتيش، إلا أنه لم يغضب، وأسرع إلى الكمبيوتر ليطبع مذكرة وشكاوى إلى المسؤولين في ألباني* (*عاصمة ولاية نيويورك، المترجم).
في فترة ما بدأت أدرك لماذا بدت محنتي ضئيلة في نظره. فبعد كل زيارة كنت أقوم بها إليه أو يقوم بها أي شخص آخر، كان حبيبي يخضع إلى تفتيش دقيق بعد أن تتم تعريته، وغالبا ما يقوم بذلك رجال يكنون له مشاعر الكراهية والحقد. إذ يطلبون منه أن يخلع كل ملابسه وينفضها قطعة قطعة وذلك في مقصورة صغيرة. ويطلبون منه أن يمرر يديه عبر شعره، وأن يفتح فمه واسعا، ويرفع لسانه، ويرفع خصيتيه، ويستدير ويقرفص، ثم يقف ثانية، ويعرض باطن قدميه، ثم يستدير ويواجه الشرطة. وذات مرة، وفيما كنت أنتظر التفتيش، قالت إحدى الشرطيات لي ولامرأتين أخريين بتفاخر كيف أنه يمكنها أن تعرّي سجينا ذكرا وتفتشه إن هي أرادت. قالت إنه القانون، وارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة واثقة.
أصبت بالصدمة عندما علمت بأمر التفتيش بعد تعرية الشخص، وما يستتبعه ذلك. أحسست بتلبك في معدتي. ومهما بلغ خيالي من الجموح فلن يرقى إلى مستوى الوصف الذي وصفه لي رشيد، وعرفت أنه رغم الحجج التي تقدم لتبرير ضرورة هذا العمل، فليس بوسعي أن أفعل ذلك أبدا. مهما كان الأمر. فأنا لا أستطيع أن أشارك في ممارسة هذا الضرب من الإذلال والمهانة على أي شخص مهما كان، وفي أي وقت كان. رحت أتساءل عن أفراد الشرطة الذين يفعلون ذلك يوميا، وخاصة أولئك الذين يتباهون بذلك أمام زوجاتهم وصديقاتهم. ماذا يقولون لأطفالهم عندما يعودون إلى البيت؟ بابا ينظر في است الرجال لكسب قوته.
عرفت لماذا لم يستشط رشيد غضبا لما حدث لي، لأن عمليات التفتيش جعلت مشاعره تتحجر وتتبلد، إذ إن المهانة كانت النسيج اليومي الذي يرتديه حتى يبلى ويهترئ في الحياة التي يحياها وفي الحياة التي اخترت أن أحياها معه.
كنا نعرف نحن الاثنين، وقال ذلك كلّ منا للآخر، إن أمامنا مسؤولية لخوض بعض المعارك التي كان نظام السجن يدفعنا إليها دفعا، لكننا إذا قاتلنا كل معركة تعترض سبيلنا، فهل سيبقى أمامنا وقت لكي نضحك ونحلم، أو نتمنى أو لكي نعيش فقط في سكينة وسلام؟ ثم، من سيكون المنتصر الحقيقي؟
نأخذ التجربة ونرميها في أعماقنا. نسحقها كما تسحق النفايات لكي تعبأ في أكياس، ُتضغط، ُتنقل، وفي النهاية، ُتحرق.
التفتيش، التحقيق، الاستجواب، التدقيق والشكوك، ثمة ضرب من الحرية في أن ُترغم على أن تضع نفسك في أيدي أناس يكرهونك، يرفعونك أمام الضوء، يفحصونك، يمعنون النظر إليك. وقد خلصت، أخيرا، إلى أن هناك نقاوة في المشاركة عندما لا يبقى ثمة شيء تخفيه، لا يبقى ثمة مكان للتواضع أو التراجع.
أعرف أن رشيد يفهمني تماما كما لا يفهم حبيب حبيبه. أعرف أني لا أحمل عبئا على كاهلي معه، ولا ينتابني قلق أبدا بأنه سيكتشف المرأة التي هي أنا حقا، المرأة التي خبأت، أو حاولت أن تنكر الرجل الذي ارتبطت به.
لا ألعاب، لا كذب، لا تمويه. إننا مكشوفان وعاريان مثل فينوس هوتينتوت، أنا ورشيد. كل ما لدينا، كل ما نحن عليه، وكل ما نتمناه ملقى على الطاولة، واضح ومكشوف. إما أن نذبل ونتلاشى ونستسلم للجنون، أو نكافح ونفي بوعودنا، رغم كل شيء. فلا يزال بوسعنا أن نحب ونجعل من الحب شيئا لذيذا.
نلبس حبنا كما تتعانق الجذور الطويلة الراسخة تحت الأرض. نتلفع به ونلفه حولنا كما يلف الأطفال ملاءاتهم حول أنفسهم. بطانيات مكسيكية جميلة من القطن السميك بألوان زاهية وأشكال بارزة. هكذا يبدو حبنا. ونضم بعضنا بقوة، تحت البطانيات، تحت الأرض، ونشعر بالدفء يسري في أوصالنا. وفي البرد، في غرف الزيارة العارية، نهمس بأن ذلك لا يمكن أن يدوم إلى الأبد، ونحن نشعر بالدفء.
* * *
بيد أنني لم أكن أعرف تماما، في زيارتي الأولى تلك، كيف يتسنى للمرء أن يعيش داخل جدران السجن. في المرة الأولى، تعمدت أن أجلس إلى طاولة تبعد عن منضدة الحارس قدر الإمكان. ظننت أن ذلك سيمنحنا خصوصية، لكني عرفت فيما بعد، أنني جلست مباشرة أمام مرآة مزدوجة. لكن في ذلك الصباح، جلست وكل الثياب التي كنت أرتديها بيضاء، لم أحسب حساب مثل هذه الانتهاكات، بل شعرت فقط بغرابة تلك الغرفة الكبيرة ذات النباتات الاصطناعية، وذات الكراسي البلاستيكية، والأطفال يتراكضون في كل اتجاه، والنساء ينشقن دموعهن، وجميع أولئك الرجال، الرجال الذين معظمهم من السود، الرجال الأقوياء الوسيمون يتحركون بضيق في المكان وهم يرتدون سراويل خضراء قبيحة توزعها عليهم الولاية.
وانطلق فجأة صرير مزعج عال، ثم فتح باب بالقرب مني، ودخل رشيد. عرفته على الفور، رغم أني في الليلة الماضية فقط، عندما حاولت لدقائق عديدة أن أتذكر وجهه، وجدت أني لا أستطيع ذلك. لا يمكنني أن أراه هناك، كان يقبع وراء عيني.
كيف يمكنني الآن أن أعزو صوته وخط يده، اللذين كنت أعرفهما بحميمية، إلى ذلك الفم، إلى اليد اليمنى تلك ؟ حياني، حياني رشيد، بابتسامة عريضة كالزمن الذي أمضاه بين هذه الجدران الحجرية. رددت له الابتسامة، لكني لم أقف، ولم أتحرك. لم أعرف ما يجب عليّ أن أفعله. فخلال السنتين التي كنا فيها أصدقاء، لم يعانق أحدنا الآخر، لم نقّبل بعضنا، ولم تتشابك أيادينا. في السنتين اللتين عرفنا فيهما بعضنا، لم أذكر أننا لمسنا بعضنا لأكثر من بضع ثوان قصيرة ولو مرة واحدة. ومع ذلك فها نحن هنا، معا بشكل ما، في هذا المكان الغريب، نعلن حبنا، لكن لم يضم أحدنا الأخر.
يجب أن أقبله، قبلة كاملة، قبلة من الفم إلى الفم.
هكذا قلت لنفسي وهو يدنو مني.
يجب أن أضمه إليّ، أشده نحوي كي يشعر بأحاسيسي التي تختلج في جسدي ذي الخامسة والعشرين ربيعا.
يجب أن أمرر يدي على شعره، وأرخي أصابعي على ظهره.
يجب أن أهمس كلمات مثيرة في أذنه.
فكرت بهذه الأمور، لكني لم أفعلها. لم أتحرك ولم أتكلم، إلى أن قال رشيد،
هيه.. يا صبية، هل يمكنني أن أضمك إلى صدري؟
نهضت، أخذته بين ذراعيّ، لا كما كنت أرغب، بل كما أحسست أنه يليق بالمقام. ضممته ولكن ليس بقوة: لم أشد جسدي إلى جسده. طبع قبلة على خدي.
كبحنا نفسينا، لكننا ظللنا واقفين فترة طويلة بعد أن ضمني إليه. وقفنا وأيدينا متشابكة، ولو كان لدى أحدنا الشجاعة لقول شيء في ذلك الوقت، في تلك الدقائق البطيئة، لقال: أحبك. وأنا واثقة من ذلك.
كنا سنقولها بذات الإيمان الذي كنا نقوله في الرسائل، بل وحتى على الهاتف. لكن الأمر مختلف الآن، إنه يختلف عن المكالمات والرسائل، وأصبحنا فجأة بلا عوائق أو حواجز: عيناي مثبتتان في عينيه وليس ثمة تراجع. وبدا لي أن تلك الزيارة هي الفرق بين أن تتحدث عن مدى رغبتك في القفز قفزة حرة من السماء، وأن تتكلم عنها لشهور وشهور، ثم يأتي أخيرا ذلك اليوم، حيث ُيطلب منك أن تقف عند باب الطائرة المفتوح. يمكن للشجاعة أن تتلاشى في تلك اللحظة، يمكنها أن تتقوقع عند الزاوية، وأن تدور في مكان لا يمكنك أن تراها فيه ثانية.
هكذا كنا: وأنا أجثم على طرف طائرة، تحلق فوق أرض شاسعة مترامية الأطراف ومجهولة على ارتفاع آلاف الأميال ، وأتساءل، عندما يحين الأوان، هل ستفتح مظلاتنا، هل ستنفعنا كل هذه الدروس، الدروس التي تعلمناها والتي أهلتنا لهذا اليوم، لو أخذنا نفسا عميقا، لو تلونا الدعوات، ولو أغلقنا عيوننا، ولو فعلناها فقط، لو مضينا، لو قفزنا؟
المحادثة الأولى: السقوط
إن أردت أن تعيش في السجن، فيجب أن تكون رابط الجأش في الدقائق الأولى من وصولك. أنظر حواليك إلى أن تتمكن من قراءة اللوائح، لترى ماذا ينتظرك.
في زيارتنا الأولى كانت أسئلة كثيرة تدور في رأسي عن رشيد، عن السجن، عن الحياة في السجن. كنا نجلس إلى المنضدة بالقرب من بعضنا، حتى كاد جسدانا يلتصقان ببعضهما. تلامست ساقانا فسرت قشعريرة في أسفل ظهري، وقال رشيد في أثناء ذلك، إنه يريدني أن أعرف كل شيء عن قضيته. وكانت نسخة من قضيته ملقاة أمامنا على الطاولة.
يجب أن تعرفي إن رغبت في أن تكوني معي.
لم أكن أعرف شيئا عن نظام السجن، ولم أكن أعرف أن الناس نادرا ما يتحدثون عن جرائمهم حتى مع زوجاتهم. وكنت أتحدث في بعض الأحيان مع النساء، النساء اللاتي كن يركبن الحافلة الصغيرة معي، وكن يقلن لي كم إنهن لم يكنّ يعرفن سوى القليل عن قضايا أزواجهن، وكم كن يسألن ويسألن، وكم كن لا يحصلن على التفاصيل التي تتجاوز طبيعة الجريمة.
ما فعله رشيد في زيارتنا الأولى، كان يهدف إلى توطيد الثقة والإخلاص بيننا. بوسعي أن أرى ذلك الآن، لكني لم أكن مستعدة له، ولم أكن أفهمه آنذاك. لم أكن مستعدة لرشيد بعد، الرجل الذي أخذت أحبه، الرجل الذي بدأت أتمتع بمحبته.
هل يمكننا أن نتحدث عن أشياء أخرى أولا؟
كدت أتوسل إليه، ووافق رشيد، وبدلا من ذلك راح يحكي لي عن الحياة في السجون.
ستتبدى لك الأشياء هنا – في نهاية الأمر – لكن إذا تعجلت الأمور، سترتكبين أخطاء وتؤذين مشاعر شخص ما، ومن ثم ستنشب معركة كبيرة، ومن منا يريد ذلك، أتفهمين قصدي؟
عندما دخلت السجن لأول مرة، كنت أتحرك بسهولة. وأحد الأشياء التي لاحظتها للتو الطريقة التي كان يتصرف فيها الأخوة في قاعة الطعام. فمثلا، قد تكونين جالسة إلى الطاولة مع شخص لا تعرفينه، وتظلان أنتما الاثنان صامتين طوال الوقت، لا تتكلمان، صمت مطبق، ومع ذلك فإنك لا تنهضين عن الطاولة أو تديرين له ظهرك. وعندما تستعدين للقيام بذلك، تنقرين على الطاولة مرتين. هكذا.
ونقر رشيد نقرتين قويتين سريعتين، على طاولة غرفة الزيارة.
قلت، حقا؟.
فقال، نعم. وسألني، أتعرفين من أين أتى ذلك؟ لكنه تابع قبل أن أجيبه،
في فترة ما، لم يكن رجال الشرطة يتحدثون إلى السجناء، بل كانوا يضربون بعصيهم على الجدران لإبلاغهم متى يتوقفون ومتى يذهبون. ضربة واحدة تعني قف، وضربتان تعنيان اذهب. لذلك، أدخل السجناء ذلك في طريقتهم في التواصل. لا يتكلّمون بل يقرعون. جميعنا يفعل ذلك.
في تلك اللحظة قاطعنا زوجان كانا يمران من أمام طاولتنا. قدمهما رشيد إليّ وقال لي بعد ذلك إن الشاب نزيل زنزانة بالقرب من زنزانته. وقال إنهما على وشك أن يصبحا صديقين.
سألته، ماذا فعل؟.
لا أعرف يا حبيبتي.
لكنه صديقك.
نعم، لكننا لا نتكلم عن هذه الأشياء. هنا لا يتكلم الرجال عن جرائمهم كثيرا. أعني أن ذلك لا يحدث أبدا. والطريقة الوحيدة التي تجعلني أعرف هي إن قمت بمساعدته في قضيته، مثلا.
قلت بتحد، السبب الوحيد؟ وماذا لو كان مغتصبا أو معتديا على طفل؟
هيا الآن، يا حبيبتي. أنا أعرف الأشخاص المحكومين بهذا النوع من القضايا، وبالطبع فأنا لا أختلط بهم.
ماذا لو كان يضرب زوجته؟ ماذا لو كان قد قتل زوجته؟ هل قتل امرأة أفضل من اغتصابها؟
وعلق هذا السؤال بيننا بحبل رفيع جدا إلى أن سقط أخيرا، سقطة عنيفة صدر عنها صوت ارتطام شديد. وتناثرت القطع في كل مكان. لملمت بعض القطع ولملم رشيد بعضها الآخر، لكن الفوضى بقيت هناك. محبطان، أخذنا نسير بعيدا عنها. قلنا إننا سنعود. قلنا إننا سننظفها فيما بعد.
المحادثة الثانية:
هل انطلقت بسرعة، هل انطلقت ببطء؟
هل أتتك كوابيس فظيعة تشق الليل وتجعله عديم الفائدة؟ هل استيقظت مذهولاً، مجفلاً، كما في الأفلام؟ هل تصببت عرقاً؟ هل مارست الحب مع امرأتك؟ هل قبلتها قبلات حارة؟ هل حدقت في حلمتيها قبل أن تلتقمهما بفمك؟ هل أحستا بالانزعاج وأنت تحدق فيهما؟ هل قالت لك أرجوك يا بوب افعلها، فأنا لا أطيق صبرا على الانتظار؟ هل قلت لها إنها يجب أن تفعل ذلك؟ هل قلت إنك إن أبطأت فستتذكر دائما؟
وهل؟ تذكرت؟
هل رقصت يا رجل؟ هل وضعت شريط لوثر في المسجلة؟ هل سحبت امرأتك من السرير، وطوقت خصرها، وهل كانت ذراعاك عاريتين، وهل كان خصرها عاريا؟ ألم تغني مع لوثر عندما قال: الكرسي قد يكون كرسيا، لكن المنزل ليس بيتا إذا لم يكن يعيش فيه أحد ؟
هل مررت يديك فوق كتبك وسجلاتك، على قماش أريكتك، فوق الملابس المعلقة في خزانتك؟ هل خشخشت مفاتيحك؟ هل أقفلت بابك وفتحته ثانية؟ هل فتحت نافذتك على مصراعيها، ومددت رأسك إلى الخارج بدون قيود؟
هل رأيت أولادك على ناصية الشارع؟ هل ذهبت وأعطيت كل واحد منهم دولارا؟ هل دخنتم جميعكم سكائر معا؟ هل دخنتم جميعكم لفافة حشيش؟ هل تجولت في حارتك وقلت إنك تظن أن جنوب البرونكس* في غاية الجمال؟ هل قال أولادك لأنك مجنون، من الأفضل أن تترك تلك الحشيشة وشأنها؟ هل ضحكت عندما قالوا هذا؟ هل كانت ضحكتك أكذوبة؟
هل انطلقت بسيارتك إلى جيرسي** لترى ابنك؟ هل قبلته، هل همهم، هل همست له إنك تحبه؟ هل تركت مالا لأمه؟ هل طلبت منها أن تذهب وتشتري لنفسها شيئا جميلا؟ هل لاحظت أنك بدوت مختلفا؟ هل قلت نعم؟ نعم.
بعد أن قدت سيارتك بسرعة، هل رحت تسير ببطء ؟ هل نظرت في مرآة سيارتك الخلفية ولم تر انعكاسا ينظر إلى الخلف؟ هل انتابك الفزع في تلك اللحظة، هل انهار كل ذلك التبجح الشقي؟ هل ألقيت نظرة ثانية، في المرآة التي لم تعكس صورتك، وهل صرخت، في المرة الثانية تلك، هل صرخت، هل عرفت؟
ماذا فعلت في اليوم الذي جاؤوا فيه، اليوم الذي أوقفوك فيه، يوم ألقوا القبض عليك؟ هل شعرت بنذير شؤم؟ هل أحسست أنه كان قادما؟
سألت رشيد هذه الأسئلة عندما أصبحنا زوجين لأول مرة، وتمعن فيها لفترة طويلة.
قال، لا تستطيعين التنبؤ بما هو آت يا آشا، فلن يكون هناك كثير من الموتى، ولن يكون هناك كثير من الناس هنا، فقط لو استطعنا أن نعرف ما هو آت.
حي من أفقر أحياء نيويورك، أغلب سكانه من السود والأقليات الأخرى، اندلعت فيه حوادث عرقية وتنتشر فيه الجريمة والمخدرات.
مدينة في ولاية نيوجيرسي مجاورة لمدينة نيويورك.
المحادثة الثالثة: التهمة جريمة قتل
كانت التهمة الموجهة إليه جريمة قتل من الدرجة الثانية. والرجل الذي ُقتل كان زوج إحداهن. كان أب أحدهم. كان رشيد حينها في التاسعة عشرة من عمره، وكان يعمل شريكا لأخيه الكبير في عمله ومع رجل أكبر سنا منه اسمه لوو. قرأت ذلك في الأوراق.
قال لي رشيد، كان الرجل شريك لوو: قال لوو إنه كان يسرقه، وقد أزعجني ذلك لأني كنت أعتبر لوو في مقام أبي.
لكني كنت أخشاه قليلا، أعني، لوو. تم كل شيء عندما أعلمني بمخططه، وأحسست عندها أني إن تراجعت، فربما ورطني أيضا.
توقف رشيد ، ثم أردف،
إنه ليس عذرا. لكن هكذا كان.
وهذا ما أردت أن أعرفه أكثر من أي شيء آخر، كيف كان كل شيء في ذلك اليوم، كيف كان؟ أريد أن أعرف من رشيد، هل كان الجو حارا كالحرارة التي يقولون إنها يمكن أن تدفع رجلا إلى حافة الجنون؟ هل كان الجو باردا، جليديا، تلك البرودة الرطبة القارصة؟ هل كان القمر بدرا؟ عندما ناقشنا القضية برمتها، أردت أن أعرف أمورا تتجاوز ما تم تسجيله في المحكمة. أعطني سببا، سببا هاما فظيعا، سببا يجعلك تفقد السيطرة على نفسك. رحت أحث رشيد، توسلت إليه، ناشدته قل لي، أخبرني، لكنه لم يقل شيئا. لم يقل إلا هذا:
لا يمكنني أن أذكر ذلك اليوم جيدا. ليس بالتفاصيل التي تطلبينها يا آشا. حاولت أن لا أفكر فيها طوال هذه السنوات. إن التفكير فيها أسوأ من ارتكابها، إن كنت تصدقين ما أقول. إنه أسوأ بكثير. ولهذا كان عليّ أن أتخلص من ذلك الشخص، ذلك الرجل الذي كنته.وبقدر ما أمكنني كان عليّ أن أمحو كل تلك الأمور السيئة من تلك الأيام. ولو لم أفعل ذلك لكنت فقدت عقلي. أقول لك يا فتاتي، لكنت قد جننت.
فهمت قصده وقلت لرشيد ذلك، وتركت الموضوع حاليا. ورحنا نناقش أمورا أخرى، أمورا صغيرة، أشياء تتعلق بالحب والمحبين. أمسك أحدنا بيد الآخر. وفي الساعة الثالثة والنصف، أعلن الحارس انتهاء ساعات الزيارة. تعانقنا قبل أن أغادر، وعندما استدرت متجهة نحو الباب، طلب مني رشيد أن أنتظر لحظة.
بعد أن تقيأت، بقيت لأيام عديدة طريحة الفراش. أذكر ذلك، أذكر ذلك.
* * *
لا يمكنك أن تنسى القتل، لا، ليس إلى الأبد. فمهما فعلنا، لا شيء يجعلك تنساه، لا بالقسر أو بالإكراه، لا بالإقناع، أو بالرشوة، لا بالاستجداء، أو بقوة الطبيعة، لا بالصفع أو بالصراخ، لا بالنكران أو بأداء أعمال طيبة، لا بالإيمان بالله أو بالحياة أو بالحب. وفي أحسن الأحوال، فهو يعود لفترة من الوقت، في أحسن الأحوال.
ذات مرّة، وفي غمرة نقاشنا عن الأطفال، مدى حبنا لهم، نحن الاثنين، أقحمت السؤال. سألت رشيد، كيف تمكن من مواجهة الأمر؟
لا يمكنك أن تمحيها من ذاكرتك طوال الوقت، أليس كذلك؟ قلت ذلك بصيغة سؤال، لكنه كان اتهاما، حقا: كيف تتعامل مع الأمر؟
ليس أمامي اختيار لعمل شئ آخر.
كان صوت رشيد خافتا، لكنه لم يكن ساخرا. كان ينظر إلى الجهة الأخرى.
وأنا أصلي. أصلي طلبا للمغفرة.
سألته: من من؟ منها؟ من زوجته؟
ردّ، من الله، وأردف:
لا أعرف كيف أطلب منها المغفرة: لكني حاولت على كل حال. طلبت ذلك في صلواتي. صليت لكي تغفر لي. وله أيضا. أعني مغفرة الطفل، ابن الرجل. ابنه، وابني أيضا. وزم شفتيه، وأومأ برأسه ببطء، ثم توقف عن الكلام.
كان ذلك عندما غيرت الموضوع، مرة أخرى، كما كنت أفعل دائما. ففي النهاية، كنت أغيّر الموضوع دائما.
المحادثة الرابعة: رؤى وزيارات
تعلمت أن أنظر إلى الجريمة كأجزاء صغيرة منفصلة، وليس ككل. فإن نظرت إليها ككل فستكون هائلة جدا. وإن فعلت ذلك، فقد يقضى عليّ ، قد تقطع أنفاسي. وقد عرفت ذلك على الفور، فرحت أدرسها، جزءا جزءا، قطعة قطعة، من النهاية إلى البداية، من رشيد اليوم إلى رشيد الأمس.
كانت هناك مجموعة من الشبان الذين يقومون بزيارة السجون كجزء من برنامج إصلاحي يسعى لإبعاد الأحداث عن طريق الجنوح والجريمة. وكان رشيد يرأس هذا البرنامج منذ سنين عديدة. وعندما كان يتحدث عنه في بعض الأحيان، كان يقول لي إنه يعرف كيف يصاب أولئك الشباب بالأذى، لا كيف فقط، بل وأين أيضا.
أقول له، ولذلك فإنهم يحبونك. لذلك يقول الكثير منهم إنك أنقذت حياتهم.
أقول هذا لرشيد، وأنا أفكر بالرسائل التي ُكتبت عنه وعن برنامج الشباب الموجهة إلى إدارة السجن. هز رشيد رأسه، وكادت ترتسم على وجهه ابتسامة ثم أطرق إلى الأرض. وعندما كان يفعل ذلك، تلك الحركات الذكية الثلاث، كنت أعرف أنه يشعر بالحرج. ولم يكن يعير إطراءاتي أو إطراءات الشباب الآخرين أي اهتمام. لقد أصبح شريك حياتي رجلا في غاية التواضع.
وأغمض عيني حول تلك الصورة، صورة شريك حياتي الذي أنقذ حياتي، شريك حياتي الكريم، شريك حياتي المتواضع، شريك حياتي المحب. ألصقها في مخيلتي، أجعلها جزءا دائما من نظري. وأعود إليها، صورة رشيد الحالية، تلك الصورة، عندما لا يعود بإمكاني أن أتفادى جريمة القتل أو وجه قاتل.
* * *
عندما كانت تأتي إليّ تلك الأرملة، في تلك الأوقات المتأخرة من الليل حين يسود الهدوء والسكون، تلك المرأة الوحيدة. كانت هادئة دائما، ولم تكن مهيبة أبدا، ولا وضيعة. كانت تأتي إليّ في غرفتي، الغرفة المليئة بصوري أنا ورشيد ونحن نضم بعضنا بقوة، أنا ورشيد العاشقين. تجلس هناك على سريري، وتنظر إليّ، لكن نظرتها لم تكن عدوانية، بل فضولية، نظرة تطرح الكثير من الأسئلة، نظرة مفعمة بالتساؤل، ربما، من أنا ، من هو رشيد، بالنسبة لي إنه ذاك الرجل الذي أحبه بالطريقة التي أحببته فيها.
كانت عيناي تلتقيان بعينيها دائما في كل زيارة. وكان ذلك أقل شيء تستحقه، هكذا أحسست، على أقل تقدير في الواقع. عندما كانت تأتي، كنت أنظر إليها بثبات وباستمرار إلى أن ترغب في المغادرة. لم يكن القيام بذلك أمرا سهلا البته. لكن في كل مرّة أتمكن فيها من عمل ذلك، أن أحدق فيها بثبات، من امرأة إلى امرأة عبر تاريخ ُاختصر وُبتر وُقطع بشكل مثلم، ينتابني إحساس بأني أكثر رسوخا في الحب الذي ُمنح لي.
لو كان بوسعي أن أظل أحب رشيد في تلك اللحظة وأنا أنظر في وجهها، هل يمكن أن نكون مخطئتين، هل يحتمل أن نكون أكذوبة؟ أسألها هذه الأسئلة، كنت أهمس لها بهذه الأسئلة في كل مرّة تأتيني فيها، لكنها لم تكن تجيبني قط، ولم تكن تبقى.
المكان الذي نذهب إليه،
الطريق الذي نصل فيه إلى هناك
منذ بداية علاقتنا، كنا نرقص، أنا ورشيد، هناك في غرفة الزيارات، بين الطاولات البلاستيكية والكراسي البلاستيكية، وبجانب ضوء النهار الذي يتسلل متعثرا من وراء تلك الستارة القديمة المحكمة الإغلاق، والتي تشدها إلى الأسفل سنوات من الغبار، سنوات وسنوات منه. نرقص على أنغام موسيقى هادئة، نرقص بخطوات متئدة، وأنا أدندن أغنية في أذنه، وإذا ألقى أحدهم، سواء كان زائرا أو سجينا أو حتى شرطيا، نظرة باتجاهنا، لم نكن نلقي بالا إليه.
في تلك الغرفة، لا نزال نعرف، مع كل اختلافاتنا وكلّ ما يفصلنا، هذا الشيء. نعرف أنه لكي نعيش في السجن، يجب أن لا نغير أنفسنا فقط، بل وأن نغير فضاءاتنا، تخيلاتنا، تلك الطاولة، هذا الكرسي، كل شيء يجب أن يتغير، كل شيء.
هذا ما أفكر فيه، ليس دائما، بل أحيانا، ونحن نرقص، وعندما تصبح غرفة الزيارات غرفتنا، وتتداعى الحانات، وتنهار الأبواب والأقفال، ولا يبقى شيء سوى جسدينا، عينينا البنيتين، أيدينا المتشابكة، أقدامنا التي تكاد تتحرك، والموسيقى التي ندندنها معا. هذا كان كل شيء، لا شيء آخر سوى ذلك، لا شيء آخر.
ما هي اللحظة التي تغير فيها حياتك مسارها إلى الأبد؟ في عصر يوم كنت أضم رشيد ونحن نرقص، وخطر لي هذا السؤال. تساءلت كيف يمكنك أن تعرف تلك اللحظة لكي تميزها، لكي تمسكها في الهواء؟ ظننت أنها قد لا تكون هي اللحظة الواضحة، اللحظة التي تعلن وصولها، اللحظة التي تتحطم وتتناثر، اللحظة التي نراها في مجلاتنا، ونخبر أصدقاءنا عنها، بل وحتى نخبر الغرباء عنها. قلت لو كانت بالفعل تلك اللحظة، عندها يمكننا أن نسيطر عليها عندما تبدأ تجري نحونا. حينها يمكننا إما أن نتخذ قرارا بأن نبتعد عن الطريق أو أن نطرقه.
في فترة لاحقة تناقشت مع إحدى الصديقات حول هذا النقطة. قلت لها كيف لا تشعرين أبدا بلحظة التغيير التي لا رجعة فيها، لكنها قالت لي إني مخطئة. قالت إنها فعلا اللحظة الكبيرة، اللحظة المؤثرة. طلبت منها أن تتخيل أنها تعبر شارعا ثم، وفجأة يسرع سائق ثمل نحوها ويصدمها بسيارته في اللحظة التي تنزل فيها من الرصيف. سألتها ما هي لحظة التغيير؟ هل كانت هي اللحظة التي صدمتها فيها السيارة، أو اللحظة التي جلس فيها السائق وراء المقود، أو عندما بدأ يشرب في تلك الليلة، أو عندما نزلت، صديقتي، من الرصيف؟
لقد جعلني الرقص مع رشيد أعتقد أن حياتي لم تتغير عندما قلت للناس إنها تغيرت. لقد تغيرت حياتي قبل المكالمة الهاتفية، أو الرسالة، أو الزيارة الأولى بفترة طويلة، وأنا أتساءل الآن إن كانت قد تغيرت عندما عرفت أنه لن يكون لزوجي السابق وجود عاطفي كبير في حياتي، وأدركت أني أحتاج إلى ذلك. أحتاجه أكثر من احتياجي إلى حضور جسدي، أكثر من النوم بجانب رجل كل ليلة، أكثر من الجلوس أمامه إلى مائدة العشاء كل أمسية.
ربما كانت لحظة الإدراك تلك قد حدثت عندما تغيرت حياتي، لكن ربما لا. ربما تحدث لحظة من التغير في كل مرة يأخذني فيها رشيد بين ذراعيه بقوة في الغرفة التي جعلناها غرفتنا الخاصة، ويبدأ يهتز ويهزني على أنغام الموسيقى الهادئة التي نعزفها في رأسينا، وبطريقة ما، لا يبدأ وجودنا إلا في حرية الخيال الذي نتقاسمه، كما لو كنا عقلا واحدا وجسدا واحدا، رؤية واحدة وفكرة واحدة نمضي وراء الشمس إلى مكان في نفسينا لا يتسنى لأحد آخر أبدا أن يراه، أو يفصله، أو يمسه، أو يبعده عنا، أو يعزله أو يسجنه.
عندما كنت طفلة
كنا أنا ورشيد نعود دائما إلى الحديث عن التغيير، إمكانية التغيير. فقد كانت هذه الفكرة تعتمل في نفوسنا. وقد بدأنا بالحديث عن الحاجة إلى الإصلاح في السجن، وفي العالم خارجه، غير أننا كلما تحدثنا أكثر، وجدنا أن هناك حاجة للتركيز على العالم الكامن في داخلنا. لقد أصبح أحدنا مرآة للآخر.
وبطبيعة الحال، فقد كانت حاجة رشيد إلى التغيير ورغبته في ذلك واضحتين، وذلك لأن تاريخه يتطلب ذلك. إلا أنه كانت لدي أيضا أموري الخاصة التي كانت بحاجة إلى التمحيص والتغيير. بيد أن ذلك لم يظهر على الفور، فقد تراءى لي في بادئ الأمر أني كنت أجد متعة ولذة كبيرتين بسبب الإعجاب الذي أخذ رشيد يبديه بي.
فبعد كل تلك البرامج التي كنت أعدها في السجون، وبعد الاستماع إلى جميع قصائدي وأفكاري، جعل مني رشيد تلك المرأة المستقلة القوية الصارمة، المرأة الحديدية ذات اللسان الناري، التي يمكنها أن تجادل دون هوادة. لقد كنت، في نظره، امرأة ذات روح من فولاذ، امرأة لا تكسر ولا تهزم.
وبالطبع، كان في هذه الصورة شيء من الحقيقة، كما ينطوي أي وهم على شيء من الحقيقة في عيني من يؤمن به، وكان رشيد يؤمن بذلك، ولعلي كنت أنا كذلك. أما أنا فقد صدّقت القناع الذي ألبسته نفسي. ولم أصدقه فحسب، بل رحت أعمل بموجبه، وأركن إليه. ولم أعد أتصور آشا الزائفة رديفا لي، بل بديلا عني، تماما كما في الأفلام، تخرج من ظل الجوقة وتقوم بتأدية دوري. (لقد تهاويت في مكان ما خارج المسرح)
ومنذ اللحظة التي كدت أظهر فيها، أبدى الجمهور إعجابه بآشا البديلة. فقد كانت ثقتها بنفسها أكبر بكثير من ثقتي بنفسي، وكانت طاقتها أكبر بكثير من طاقتي. إذ كان بوسعها أن تؤدي القفزات التي لم تكن ساقاي تطاوعاني على تأديتها دائما. لقد كانت البديلة أكثر إثارة، أكثر تسلية، وسحرا وجمالا، البديلة التي كان الناس يتذكرونها دائما والابتسامة تعلو وجوههم.
لقد اعتدت أن تكون هي أنا، واعتدنا أنا ورشيد على ذلك، لذلك، أصبح الأمر مدمرا تماما عندما تركت العرض واضطررت لأن أعود إلى نفسي بدون سابق إنذار، وبدون أي توجيه، وحتى بدون أي بروفة مسبقة.
وهذا ما حدث:
قررت أنا ورشيد أن يخبر أحدنا الآخر كل شيء، وأن لا تكون بيننا أسرار أبدا. ولم نعرف آنذاك ماذا كان يعني ذلك، كيف كان سيعرّينا، كيف سيجعلنا مكشوفين أمام بعضنا بعضا، مجردين من السلاح، أو الدروع، أو الأقنعة.
وهذا ما عرفناه:
فقد حسبنا أننا إذا أخبرنا بعضنا بكل شيء ، فهي الطريقة الوحيدة التي تمكننا من فهم كيف وصلنا إلى هذا المكان. واكتشفنا أنها الطريقة الوحيدة التي تجعلنا نفهم كيف يمكننا أن ننطلق ذات يوم، كما قال جورج جاكسون، لا تترك شيئا وراءك.
عندما تحدثنا، اكتشفنا أنه يمكننا أن ننطلق خارج السجن، وفي بعض الأحيان خارج أمريكا. إذ كان، ولا يزال تواصلنا التام، طريقنا إلى خارج السجن، طريق عودتنا إلى البيت.

هل ستأخذني إلى غيانا ؟
سألت رشيد أثناء إحدى زيارات يوم الثلاثاء، فيما كان المطر ينهمر في الخارج، وكنا نميل فوق بعضنا ونتحدث همسا. قال رشيد إنه سيأخذني إلى غيانا. قال:
طبعا، فما أن يطلق سراحي، حتى ننطلق إلى هناك على الفور.
قلت أفسر قصدي: أعني الآن. هل يمكنك أن تأخذني إلى هناك الآن؟
وهكذا فعل، أخذني إلى هناك. فقد رسم لي أكثر الصور إثارة للدهشة، وأكثرها حيوية وتفصيلا عن حياته، كيف شبّ وترعرع في غيانا . وكان باستطاعتي أن أحسها، أن أتذوقها، وكان بإمكاني أن أراها، وأن أشمها. كنت أشعر برذاذ ذلك البحر الدافئ المائل للخضرة وطعمه المالح. وكان بوسعي أن أراه هناك، رشيد.
استطعت أن أرى كيف كان رشيد ذات مرّة: صبي صغير يلعب، يجري، يثير المشاكل، وجميع الأمهات يوبخنه، والرجال المسنون جميعهم يلعبون الدومينو عند ناصية الشارع، والأولاد يتسلقون أشجار جوز الهند، والفتيات في ستراتهن المدرسية الموحدة. رأيت الخضرة تكسو كل بقعة من الأرض، رأيت الجبال، والدكاكين الصغيرة، والسوق العريضة، الواسعة، حتى الفقر رأيته.
كيف أثّر السجن في رشيد. فقد بدأ رشيد وانتهى في لحظة واحدة، في مكان واحد، كمجرم، كمتهم، لكني كنت أعرف أن هناك المزيد. أعرف أن صورته تمتد ثلاثين سنة إلى الوراء. وكنت أعرف أن صورته عبارة عن هيكل مركب من الألوان والأضواء. ففي كل مرّة كنت أنظر فيها إليها، كنت أرى شيئا مختلفا، لذلك بدأت أدرك أنه عليّ أن أتركها معلقة هناك على جداري، حيث يمكنني أن أعود إليها، وأنظر إليها في كل مرة، مرارا وتكرارا.
أتمنى لو أن قدمي لم تطأ هذا البلد.
لم يقل رشيد هذه الكلمات أبدا، إذ كان الممكن أن ُيفسر قوله هذا بأنه نوع من تخليه عن حبنا، لكني كنت واثقة من أن ذلك كان يدور في خلده. حتى لو كان يعني أننا لم نكن نوجد، لكننا التقينا، وتوطدت علاقتنا بسرعة كبيرة، بعد اللقاءات القليلة الأولى، بسبب انفتاحنا، وحاجتنا.
نعم، كنا أنا وهو زوجين، رغم أنه لم تكن بيننا مواعيد، ولم نكن نلتقي في السينما في أمسيات أيام السبت. وكان تواصلنا البرهان الوحيد لدينا، البرهان الملموس الوحيد، وقد تشبثنا به. لقد أصبح شيئا رائعا في علاقتنا. فعندما كنا نتكلم على الهاتف، كنت أغمض عيني، وأضغط بخدي على السماعة. كانت ردة فعل فطرية. كنت أريد أن ازداد قربا منه، وعندما كنت أقوم بهذه الحركة بدون وعي تقريبا، كنت ازداد التصاقا به. كنت قريبة منه من الداخل.
في أثناء المكالمات التلفونية المبكرة تلك، كنت أتكور في سريري، وأضيء شموعي، وأحرق بخوري، وأستمع إلى أغنية كولتران “الأكمام الخضراء” ولم أكن أسمح لنفسي أن يكون السجن هو الحكم الوحيد الذي يقرر لنا المكان الذي سنعيش فيه، الذي سنبني حبنا فيه هذا. وكانت تصدر حتى الآن، ليس دائما، ولكن غالبا، صوت الموسيقى الصادر عن جهاز قرص السي دي، فيما البخور والشموع تحترق.
إن الحديث مع رشيد على الهاتف أو التكلم معه وجها لوجه، جعلني أفكر كيف دخل الحب في حياتي كلها كما لو كنت أدخل منطقة حربية، أدخل أرضا مزروعة بالألغام. حاولت أن أتسلل وأنا أرتدي اللباس المموه، والمسدسات مشدودة على خصري، وحقيبة الإسعافات الأولية على ظهري. وكنت أحس أن كل خطوة أخطوها كانت تزيدني ضعفا، وكنت أحس أنني في النهاية سأتجمد. في النهاية، سأتوقف عن المضي قدما. لا أستطيع أن أفكر أبدا أني سأكون شخصا آخر.
قبل أن أتعرف على رشيد، لم أكن أشعر بالراحة إزاء الحب، لم يكن يشعرني بالاسترخاء والراحة، لم أرتم أبدا في أحضانه، لم أكن أثق به. أما مع رشيد فكان كل شيء مختلفا تماما. فمنذ أول حديث بيننا، استطعت أن أكون منفتحة معه، أن أكون أنا بكاملي، أفضل وأسوأ مما كنت، وقد بدا إحساسا غريبا، لكنه لم يبد مخيفا. لم أشعر بالخوف، حتى عندما التقيته لأول مرة. لقد أحببته منذ اليوم الأول: أحببته دون أي استعدادات وقائية.
كنا أنا ورشيد صديقين قبل أن نصبح حبيبين. لقد أحببنا بعضنا بحميمية حتى قبل أن يلمس أحدنا الآخر بحميمية، وأنا واثقة من أنه هو الذي حطم خطوطي الدفاعية، ولم يخطر في بالي أو في باله أن ثمة سبيلا آخر لكي نكون مع بعضنا سوى أن نكون منفتحين.
وكنت واثقة أيضا، أن الشيء الهام الذي أحدث فرقا في حياتي هو أني أحسست بأن تاريخ رشيد لن يجعله يحكم على تاريخي. خلصت إلى ذلك أخيرا عندما رحت أتساءل، بصوت مسموع، وبحضور حبيبي، كيف أصبحت المرأة التي هي أنا. لماذا كانت تجتاحني نوبات من الخوف منذ فترة طويلة، لماذا لم تكن لي ثقة بنفسي، ولم كنت متبرمة جدا في علاقاتي؟ ومن كتاب كنت أقرأه آنذاك، عرفت أنه لكي أستكشف كل جزء من نفسي، لكي أبحث عن أجوبة وحلول، يجب أن أكون في مكان يحتضنني ويحميني، مكان أشعر فيه وكأني في بيتي. وعرفت أن ذلك المكان هو مع رشيد، ليس معه فقط، بل في داخله، كله، لصق عروقه وقلبه ورئتيه. كنت هناك، وكان هو هناك أيضا، كلانا كان هناك.
ومع ذلك، ومهما كان قلبانا منفتحين وتواقين، يجب أن أقرّ أننا لم نكن وحدنا فقط. فقد لعب السجن نفسه دورا هاما في توطيد علاقتنا، والطريقة التي كنا فيها مع بعضنا. فلقد أصبح السجن خصمي، رغم كل محاولاته لكي لا ننعم بالاستقرار، لكي ينغص حياتنا، وأن لا نقوى على الحب. وقد جعلني موقفه المعادي للحب هذا أتخذ موقفا تجاه الحب بشكل آلي. لقد جعلني أصبح مقاتلة. وعندما دخلت الحرب، فيما بعد، انتابني إحساس بأنني أقاتل القضبان والفولاذ، السلاسل والزنزانات، الفصل الوحشي. كنت مقاتلة شرسة.
ولكن، وبعد مرور فترة من الزمن، أتيح لي قدر كاف من الرؤية. إذ بدأت أرى المعارك من منظور مختلف تماما. وعندما استنفدت كل وسائلي وخططي، عندما رحت ألعن وأركل وأطلق على الشرطة كل أنواع النعوت والصفات، وفي النهاية، كان الشخص الوحيد الذي تحطم هو أنا. وعندما بدأت الصدمة التي جعلتني أرى نفسي محطمة تخفت وتتلاشى، أخذت أدرك أن الأمر لم يكن بهذه الدرجة من الفظاعة.
الأنا التي قُتلت هي الأنا التي عاشت حياتها من خلال عينين زائغتين، العينين اللتين كانتا دائما تحييان الحب بازدراء، تنظران إليه بارتياب، تعتبرانه دائما عدوا محتملا. كنت أقول ذلك لرشيد، أقول له كيف كنت أنظر إلى الحب ذات مرة، وقال إنه يفهم. قال إنه كان يشعر هكذا إزاء الحب ذات مرة، قبلي، قبلنا. وبهذه الطريقة بدأنا نرى نفسينا كثائرين.
لقد نذرنا نفسينا، أنا ورشيد، للدخول في معارك مدى العمر ضد أي شئ، وضد أي شخص قد تسول له نفسه أن يضع عوائق في طريق حبنا. لقد آلينا على نفسينا أن ندخل في معارك طوال العمر ضد أي شخص أو شئ يمكنه أن يقودنا ويجرنا إلى طرق خطرة. وفيما عاهدنا نفسينا، بحضورنا نحن ، وبحضور آبائنا وبوجود ربنا والحراس، بدأنا نشعر أن كبتنا ومخاوفنا بدأت تتلاشى، وكانت هناك، وكنا هناك، وتساقطنا مثل قطع الألغاز المركبة.
رحنا نحدق ونلعب بتلك القطع المختلطة من نفسينا، القطع المكوّمة فوق بعضها، القطع التي تعلق أحيانا على الجانب الخاطئ من اللغز. وسيمضي وقت طويل قبل أن يتم وضع كل قطعة في مكانها، قبل أن يصبح للأشياء معنى بسنوات طويلة. إلا أن الشيء المثير فيها كانت العملية الأولى من الاكتشاف تلك، كما لو كنا على وشك أن نكتشف العلاج المعجزة.
* * *
أردت أن أعرف كل شيء عن رشيد، كررت ذلك على مسامعه غير ذات مرة. أردت أن أعرف كل شاردة وكل واردة عنه. قلت له يجب ألا يحذف شيئا، ألا ينسى شيئا، وهكذا كان. وحكى لي رشيد قصصا عن طفولة منافقة، طفولة بوجهين. بلد جميل أحبه ورعاه وترعرع في أحضانه، لكنه بلد يضرب فيه الرجال كل شيء في معظم الأحيان يصادفونه في طريقهم، بمن فيهم النساء والأطفال.
هذه هي الطريقة المتبعة في غيانا .
أوه، يا إلهي.
تركتني أمي وأنا طفل رضيع.
لماذا لم تأخذك؟
لا أعرف.
هيا. لا تقل لي إنها تركتك وحدك هكذا؟
لا. تركتني في حقيبة. عند جدتي. هكذا يقولون.
وبعد ذلك؟
بعد ذلك، وفي نهاية الأمر اجتمعنا جميعنا مرة أخرى. أنا وأخي مع أبي وعائلته الجديدة.
كانت القصص التي حكاها لي رشيد أشبه بسعادة حبيسة في صندوق مقلوب رأسا على عقب وقد خرج من مكانه الصحيح. إن ما بدأ بألوان عديدة، كحكايات ملونة بألوان قوس قزح عن صبي صغير، وعن المحيط والريف وعن المخابئ السرية، ستنتهي بحكايات بلون واحد، مملة على نحو ممض، أحيانا كدمات أرجوانية اللون، وأحيانا أخرى جروح قرمزية اللون على الظهور العارية، والمؤخرات، والسيقان.
كنت أدفعه إلى الكلام دفعا، وكان رشيد يتكلم، وكانت الألوان في القصص تسيل، يتسرب كل لون منها ويسقط، ثم تسيل جميعها وتلتئم مع بعضها. من لون أرجواني إلى قرمزي وأخيرا إلى مجرد لون أسود. لكنه كان على الأقل أسود آمنا، قال لي رشيد. كان أسود كالظل، أسود كالظلام الذي يغشى عينيك قبل أن يغمى عليك، ثم لا يعود هناك شيء. لا ألوان، لا ظلال، لا شيء على الإطلاق.
ولهذا كنت أهرب كثيرا. كنت أحاول أن لا أكون ولدا شقيا، لكن الحياة كانت قاسية، يا آشا. حتى أنني لا أستطيع أن أحكيها لك.
لا تخبرني، أردت أن أقولها له، لكني لم أقلها أبدا. لم أرفع يدي أبدا من أمام فمي. بقيت هناك، لتكتم كل نشيج وأنة، وكل صيحة كانت تصدر من هناك، هناك، كنت أكتمها خلف راحة يدي وأسناني. كنت أكتمها، رغم أني أصبحت أعتقد الآن أنه كان يجب عليّ أن أتركها تنطلق بحرية. لكنني قلت في نفسي بعد ذلك، إن كان رشيد لم يصرخ، فكيف يمكنني أن أفعل ذلك ؟ فإن كان يستطيع أن يخفي مشاعره، فأنني أيضا يمكنني إخفاؤها، وهذا ما فعلناه معا. استعرضنا قصص شبابه، كما لو كانت قصصا عادية، كما لو كانت خبزنا اليومي. ذات مرة قلت له، أخيرا:
أنا أكره أسرتك.
فرد رشيد، لا، لا، يا آشا، لا تقولي هذا. لا تشعري بهذه الطريقة. لقد كان الزمن والمكان مختلفين. هكذا كانت تسير الأمور. لم يكن في الأمر إساءة. وإن كان ثمة إساءة فإنها لم تكن مقصودة. لكني أذكر أني شربت زيت التربنتين ذات مرة.
التربنتين؟
نعم، كنت أفضل أن أموت. تفهمين قصدي؟
حاولت أن تقتل نفسك؟
لا أعرف شيئا عن كل ذلك. فقط كنت لا أريد أن ُأضرب.
هناك فرق بين أن ترغب في أن تموت وبين أن ترغب في ألا تعيش. هذا ما أؤمن به وهذا ما قلته لرشيد . قلت له ذلك، لأني تذكرت فجأة، فيما كان يتحدث عن التربنتين، شيئا عن طفولتي. تذكرت أني رغبت في إحدى المرات في أن أموت، ثم تذكرت أني في مرات أخرى شعرت أني لم أكن أرغب في أن أعيش. إن الرغبة في الموت موقف فاعل، لعبة ضارة ومؤذية، تنطوي على تخطيط وتفكير بإمعان. أما عدم الرغبة في العيش فهي لعبة سلبية. إن عدم الرغبة في العيش هي ببساطة انكفاء، تقهقر.
أثارت فيّ قصة رشيد وهو في التاسعة من العمر وهو يشرب التربنتين، بالطريقة التي صدمتني فيها، في البداية ألما جعلني أشفق عليه، ثم أثارت فيّ تعاطفا نحوه، ثم أحدثت خطا فاصلا في الذاكرة. وذكرى بطريقة لم يكن لدي فيها ذاكرة، ذاكرة ذات تفاصيل دقيقة، وجوه، وأصوات.
عندما كنا نتحدث، وكان رشيد يصف لي طفولته، سرى في جسدي إحساس بالضيق والانزعاج. وأصابني صداع شديد. فقد كانت جميع ذكرياته تعود إلى زمن بعيد، لقطات تخيلية من زمن بعيد، مع أناس وأماكن لم يرها منذ خمس عشرة سنة.
كيف تتذكر كل هذه الأشياء؟ سألته، وحاولت أن لا أبدو في موقف دفاعي. ولسبب ما، لم أعرف لماذا – وكنت أعرف أن ذلك سيأتي في وقت لاحق – كانت ذكرياتي عن الطفولة متقطعة وسطحية في أفضل الأحوال، لكنها كانت مسروقة في معظم الأحيان.
كانت ذكرياتي في الغالب تدور حول قصص كنت قد التقطتها من فم أمي وأختي. فعندما كان أفراد عائلتي يجتمعون في عيد الميلاد، كنت أطلب إليهم أن يعيدوا لي رواية الحكايات القديمة نفسها مرارا وتكرارا. وعندما أكون وحدي، كنت أحاول تسجيل هذه الحكايات في بقعة مقدسة، مأمونة في عقلي، إلا أن ذلك لم ينفع. إذ كانت تتسرب منه، كانت هناك ثقوب، كان لا بد من ذلك! ورغم كل الجهود التي بذلتها،لم أتمكن من الاحتفاظ بقصص طفولتي لفترة طويلة من الزمن.
وعندما كنا نتناقش أنا ورشيد، ويأتي دوري لأروي له قصة، بعضا من التفاصيل عن حياتي، كنت أستخدم عبارات كبيرة وعامة. وكنت أتمنى ألا يلاحظ رشيد، إذ لم يكن يبدو أن أحدا قد لا حظ من قبل، حتى أنا. حتى أني لم ألحظ الصعوبة التي كانت تعترضني في الاحتفاظ بتجاربي، وخاصة تجاربي مع الرجال، حتى هذه العلاقة. فقبل رشيد، لم يكن أحد يتطرق كثيرا إلى الماضي، لا أنا، ولا زوجي الأول، أو حتى أعز صديقة لي، أو أختي، أو حتى أي شخص كنت أعرفه. كنا جميعا نعيش في اللحظة الحاضرة، أو في هذه اللحظة بالذات.
أما مع رشيد، فكان الأمر مختلفا. إذ توقف الزمن عنده، أي في عام 1983، السنة التي ألقي القبض فيها عليه. فقد توقفت الشوارع ومحطات مترو الأنفاق، توقف بيته، وسياراته، وأصدقاؤه، ونساؤه ومغامراته. كل شيء توقف عند تلك اللحظة في أحد أيام شهر كانون الثاني عندما اقتيد إلى السجن. ولكي يبقى على قيد الحياة، لكي يصبح له كيان يقبع وراء أسوار السجن، كان عليه أن يعود في ذاكرته إلى الوراء. إن الرجوع إلى الماضي، وإخباري عن نفسه قبل أن يتعرض للتفتيش الجسدي، والزنزانات، وقبل أن يحل الرقم محل اسمه، كل ذلك جعل رشيد يتشبث بإنسانيته. كانت برهانا على أنه كان له وجود ذات يوم، وأنه مع مرور الزمن، سيعود ثانية ويصبح رجلا، كاملا، يتحكم ببيئته وذاته.
لكن عندما جاء دوري لأتكلم، خشيت أن يظن رشيد أني أخفي ذكرياتي رغم الوعد الذي قطعناه على نفسينا بأن يخبر الواحد منا الآخر كل شيء، أن نسافر معا عبر السنين الماضية. فإن كانت حياة رشيد فيلما طويلا، فإن حياتي ليست إلا مجرد فيلم قصير. فليس في حياتي حوار، أو محور قصة واضح. وحاولت أن أملأ الفجوات بأوصاف طويلة، شاملة عن الحي الذي عشت فيه في مانهاتن*، عن أبويّ اللذين كانا يعملان في التدريس، عن المدارس الخاصة، عن دروس الباليه ودروس الفن، لكني أعرف أن الصورة كانت باهتة.
وكنت أعرف أن الصورة، في حقيقة الأمر، كانت أقل من فيلم، وأكثر من مجموعة غير منتهية من صور ملصقة جبنا إلى جنب، ربما لم تكن منتهية، لكن الصور فيها كانت ممزقة، صور جف لصاقها فاقتلعت وطارت في مهب الريح. لذلك أصبحت قصة التربنتين هامة جدا. إذ لم تثر في نفسي صورة واحدة فقط، بل أثارت ألبوما مليئا بالصور، بالأسود والأبيض، سلايدات، صورا مجسمة، مرّكزة، مفصّلة. عندما أخبرني رشيد أنه تجرع السم، قلت له:
حاولت ذات مرة. قلت ذلك بسرعة، وبعصبية.
حاولت ماذا؟ ظن أني أعني أني شربت زيت التربنتين أيضا. خمنت ذلك من نبرة صوته.
حاولت أن أضع حدا لحياتي.
صحيح؟ قال رشيد بصوت تغلفه الدهشة وعدم التصديق. ماذا فعلت يا آشا؟
ابتلعت حبوبا. لكن لا أتذكر متى، ما أعرفه هو أن هذا الشيء حدث، جرحت رسغي. لكنه لم يكن جرحا عميقا. انتابني شعور بالخوف عندما رأيت قطرات الدم القليلة الأولى. كما أحسست بالألم. كنت أحاول أن أوقف الألم.
وفيما كنا نتكلم، تذكرت أشياء لم أفكر بها منذ سنوات. وأصبحت أراها، وأضحت عيناي شاشة سينمائية، وظهر عليها المشهد الأول، غرفتي في بيت الطالبات، وأنا في السادسة عشرة من عمري، أبتلع خمسا وعشرين حبة، وربما ثلاثين. ثم المشهد الثاني، الحبوب في جوفي، لم أشعر بالغثيان، بل شعرت بالوحدة، بالانغلاق على نفسي. شعرت باشتياق شديد لأعز صديقة لي كانت بعيدة عني، وشعرت بألم ممض من حبيبي الذي لم يكن يظهر لي احتراما. كنت أتوجع فقط. وفجأة لم أعد أرى رفيقتي المتعجرفة في بيت الطالبات. وكان هذا المشهد الثالث. رفيقتي في الغرفة التي قرأت مفكرتي عندما كنت قابعة في المستشفى وأخبرت أناسا آخرين عن الأشياء التي كانت تضمها مفكرتي. قالت لهم إنها تظن أني مجنونة. قال لي أحدهم فيما بعد ما فعلت رفيقتي في الغرفة، ولسنوات كثيرة بعد ذلك، لم أعد أسجل شيئا عن حياتي في أي مكان، لا على الورق، لا في داخل نفسي، ولا في أي مكان.
أما في الليلة التي ابتلعت فيها الحبوب، عندما كنت لا أزال أظن أن صداقتنا وثقتنا كانتا لا تزالان قويتين، رجعت رفيقتي في الغرفة إلى غرفتنا.لم أكن أعرف أنها ستعود إلى الغرفة. كان من المفترض أنها ذهبت إلى حفلة، لكنها نسيت شيئا ما. خيّل إليّ ذلك فيما بعد، لكني لم أكن واثقة. لم أعلم قط علم اليقين لماذا عادت إلى الغرفة في تلك الليلة، في ذلك الوقت. وبعد ابتلاعي الحبوب وفور خروجي من المستشفى تركت المدرسة، وقطعت علاقتي برفيقتي في الغرفة، لما سمعت عن خيانتها لي، تصرفت كما تقول أغنية بيتر توش: امش ولا تنظر إلى الوراء. غير أني قلت لرشيد إني لا أتذكر التسلسل الدقيق للأشياء التي حدثت في ذلك الوقت، لكني تذكرت رفيقة غرفتي، تلك الفتاة، كيف عادت إلى بيت الطالبات، وكيف رأتني، وكيف صرخت. كيف وقفت فوقي وراحت تصرخ.
كنت مستلقية على الأرض فاقدة الوعي تقريبا. وطلب أحدهم، لم تكن رفيقتي في الغرفة ، سيارة الإسعاف. وفيما كنا ننتظر وصولها، جاء طلاب آخرون، ومراقب بيت الطالبات، إلى غرفتي وراحوا يصفعونني. أخذوا يصفعونني وينهضونني كي أقف على قدميّ، وجعلوني أمشي كي أبقى صاحية، واعية. وأخذت أمشي في المدخل ذهابا وإيابا، امرأة تمسكني من كل جانب، وتنهضني. بقيت صاحية، واعية إلى حد أني بدأت أشعر بالخجل لأني جعلت الآخرين ينظرون إليّ. لقد حاولت أن أبتعد، أن أهرب، أن أجتث نفسي، أن لا يشاهدني أحد أبدا، لكني، عوضا عن ذلك، وجدت أني نجحت في أن أفضح نفسي وأكشفها أكثر أمام الآخرين.
ولم أكن قد حسبت حساب أن أصبح مرئية أكثر. ولم أتخيل قط أن ينتهي ابتلاعي للحبوب بإمكانية إنقاذي. ومن المؤكد أنني لم أكن أتصور هذا النوع من الإنقاذ، الذي تمثل في سحبي وشدي ذهابا وإيابا في البهو وأنا لا أرتدي سوى ثوب النوم. وعندما رويت القصة لرشيد، قلت له إنني لا أزال عندما أذكر تلك الحادثة، وقلما كنت أتذكرها ، أظل أحس بملمس السجادة المفروشة عند المدخل ووبرها يحتك تحت قدمي العاريتين. لا أزال أحس بالكدمات وهي تندفع من جلدي في المكان الذي كانت المرأتان تمسكان بعضدي بقوة، بشدة، مهما تشدان، وتشدان. قلت لرشيد:
لم يضطروا لغسل معدتي في المستشفى. بل كل ما فعلوه هو أنهم جعلوني أتقيأ. إنهم يجعلونك تتقيأ إذا لم يكن قد مضى على ابتلاعك الحبوب وقتا طويلا.
حدثته عن الطبيبة التي كانت تداويني. كانت امرأة جامايكية، وإحدى طبيبتين سوداوين قامتا بعلاجي. وربما لهذا السبب أتذكرها جيدا، لماذا لا أزال أرى وجهها، لا أراه بدقة، لكني أرى ملامحها العامة.
قلت: هي التي أخبرتني بذلك، عن التقيؤ وعن الحبوب.
لقد أخبرتني بذلك عندما جلست على حافة سريري، في غرفة فيها جهاز تصوير بقي مصوبا نحوي لمدة أربع وعشرين ساعة، وكان أشبه بإصبع أو بندقية تهتز أمامي.
لماذا فعلت ذلك يا آشا؟ سألني رشيد. كانت المرة الأولى التي يسألني فيها هذا السؤال.
قلت له: لا أعرف، كنت حزينة.
وأضفت: لم أكن على ما يرام. كنت أشعر كما لو أن العالم كله لم يكن على ما يرام. كنت أشعر وكأني لم أكن في مكاني الصحيح. كنت قد تجاوزت بعض الصفوف وتخرجت من الثانوية وأنا لا أزال في الخامسة عشرة من عمري. كنت حقا صغيرة جدا على الالتحاق بالمعهد. لكن لم يكن بإمكان أحد آنذاك أن يقنعني بذلك. لذلك، عندما ذهبت إلى هناك – كان المعهد في واشنطن العاصمة – عرفت للتو أني لم أكن في المكان الصحيح. حتى أني لم أكمل الفصل الدراسي كله. ومنذ اللحظة التي وصلت فيها، شعرت وكأني أعيش في زمن ليس زمني، وفي مكان ليس مكاني، وكنت غالبا ما أغلط في اختيار الأصدقاء، وأعجب دائما بالرجل غير المناسب.
لم يكن أي شيء يبدو صحيحا، قلت ثانية، لأني بدأت أشعر أن ذلك كان أمرا مؤكدا. كنت دائما أفكر كيف أن كل شيء لم يكن على ما يرام ، كنت أتذكر بصوت مرتفع. تذكرت أني كنت أريد أن أموت لأني كنت أفكر بذلك.
وبعد ذلك، قلت لرشيد ، حاولت مرة أخرى. أخذت بعض الحبوب مرة أخرى، لكن ذلك كان بعد ست سنوات ولم تكن هذه المرة مثل سابقتها. إذ لم أحاول بنفس القدر من الجدية الذي حاولته في المرّة الأولى.
وفي المرة الثانية، وأنا أفعل ذلك، بدأت أفهم أيضا ما لم أفهمه في المرّة السابقة، في المرّة الثانية لم أكن أرغب في أن أموت بقدر ما لم أكن أريد أن أعيش.
تذكرت كم كانت الحياة التي كنت أعيشها وحيدة جدا، وحيدة لأننا افترقنا أنا وزوجي الأول. فرغم أننا كنا نعيش معا، لكننا كنا لا نزال مفترقين. كنا نعيش في بيت لا يدور فيه حديث على مائدة العشاء، لا توجد فيه نزهات مسائية سيرا على الأقدام، لم نكن نتقاسم مشاكلنا، لم تكن توجد لمسات، أو حنان. ثم، وأنا في الثانية والعشرين من العمر، لم أكن أعرف وسيلة أخرى لأترك هذه الحياة سوى بالموت. لكن ذلك لم يكن يعني أنني كنت أريد أن أموت، كل ما كنت أريده هو أني لم أكن أريد أن أعيش في فراغ.
هذا هو الفرق بين الرغبة في الموت وعدم الرغبة في العيش. هل يعني ذلك شيئا لك؟ سألت رشيد.
أظن ذلك. قالها ببطء بعد توقف طويل، ثم تابع، نعم أفهم قصدك، قال، نعم.
* * *
استيقظت ذات صباح، ولم تكن قد مضت فترة طويلة على وقوعي في حب رشيد. في البداية، بدا لي كل شيء كما لو كنت قد أغمضت عيني وغفوت. لكن الطيف كان سرابا وقد أدركت ذلك، الخدعة، عندما تركت شقتي في بروكلن*، وبدأت رحلتي سيرا على القدمين التي تستغرق مني خمس دقائق في شارع فولتن باتجاه محطة القطار.
وكالعادة، كانت تتناثر فوق الأرض زجاجات مشروخة، متصدعة، مثل فتات الخبز التي تدلك إلى طريق غابة موحشة. بدأت أعد الزجاجات، أعدها ثم أنسى عددها، وفجأة، ولأسباب لم أفهمها آنذاك، ومازلت لا أفهمها الآن، سمعت صوتا. لم يكن ذلك الصوت يوائم تلك اللحظة. فقد كان صوتا نشازا، في غير وقته، صوت عتيق ومجرد. وكان أيضا صوتا مألوفا أشبه بمعزوفة تعاد وتتكرر في أسطوانة مشروخة. وسمعت صوت رجل يقول لي مرارا: لقد علمتك العناق، لقد علمتك العناق. أخذت أنصت وأستمع إلى الكلمات أكثر وأكثر، إلا أني لم أسمع شيئا آخر. كان الصوت يجلجل في رأسي، صوت رجل، ولم يقل شيئا آخر، وأنا لم أقل شيئا قط. لم يكن جزءا من حوار. كنت أقف هناك فقط، صامتة، أحدق فيه. تذكرت ذلك فجأة: وتذكرت أني كنت في السابعة أو الثامنة من عمري، فتاة صغيرة أقوم بزيارة أمي في مكتبها في البناية الضخمة في الحرم الجامعي حيث علمني الرجل، حيث اصطحبني إلى أحد الصفوف وشرح لي بعض الحيل في الرياضيات، ثم طلب مني أن أجلس فوق حضنه، وهكذا فعلت. فعلت ذلك لأني كنت أحبه، الجميع كانوا يحبونه. ولعلي لهذا السبب لم أصرخ أو أتساءل أو أتحرك عندما بدأت يده تجوس فوق ساقي، فوق فخذي، ثم لم تعد تسعفني ذاكرتي ما حدث بعد ذلك. لقد توقف كل شيء عند اليد المتحركة. توقف كل شيء ماعدا عندما كنت أنا وهو نمشي عبر الحرم الجامعي، وقال بأني أصبحت الآن أعرف كيف أعانق.
في اليوم الذي راودتني فيه هذه الذكريات اتصلت بأمي. اتصلت بها في مكان عملها وحدثتها عن هذه الذكريات. وصفت لها الرجل، وأخبرتني باسمه. قالت إنها لا تستطيع أن تصدق أنه فعل شيئا كهذا، وعندما قالت لي ذلك، بأنها لا يمكن أن تصدق ذلك، قلت ببساطة، وأنا أيضا. لكن الشيء الذي فكرت فيه هو شعوري بالحزن العميق الذي كان يطاردني منذ أمد طويل. ورحت أفكر بالمخدرات والشراب، وبأن حياتي كانت تسير في طريق خاطئ وخطر، وتعين عليّ في نهاية الأمر أن أواجهها، وأن أفهم سبب ذلك.
بعد شهور وشهور مما حدث لي في ذلك اليوم في شارع فولتن في بروكلن، قرأت كتابا عن الاعتداء الجنسي، وقرأت في الكتاب أن الذكريات المقموعة تعود في معظم الأحيان عندما يكون بوسعك مواجهتها. وقرأت كذلك أن الذكريات تطفو على السطح في الغالب عندما يكون لديك من القوة العاطفية ما يمكنك من مواجهتها، أو عندما تحيط بك أنظمة تدعمك وتشد من أزرك، أو عندما تشعر بالأمان، وربما كان ذلك صحيحا.
ربما كان وجود رشيد في حياتي، واستقراره العاطفي، وعدم كونه متعسفا ومسيئا، ومحبته لي، مكنتني كلها من مواجهة ذلك الذي جعلني أتلوى وأنحرف سنوات عديدة. وقد أصبح بوسعي الآن أن أتمعن في ذلك، لأنه عندما دهمتني الذكريات، كانت في غاية البشاعة والقبح بحيث لم يكن ثمة وقت أو مكان أو طاقة لأتساءل لماذا. لقد دهمتني فقط، هذا كل ما في الأمر. ولم يكن بإمكاني أن أحتوي هذه الذكريات، فقد كانت تندفع في أي وقت تشاء، وحيثما كنت. كانت تخرج إليّ وتقف أمامي. تحجب رؤيتي وتشوهها. وكانت تجعل الأصدقاء يبدون أعداء. كنت أقاتل كل شخص كان بقربي، وخاصة رشيد .
وعندما كانت هذه الذكريات تدهمني، كانت تندفع نحوي بسرعة كبيرة، كما تندفع المياه الهائجة عندما تترافد وتصب في البحر. تلك الذكريات، كانت كموجات قوية هائجة تفتت الصخور وتمحو مشهدا من الوجود. تمحوه إلى الأبد.
* * *
لم تكن القصة هي أن شيئا قد حدث لي، بل ما هو ذلك الشيء الذي حدث، وعلى من يجب أن ألقي اللوم؟ كان ذلك هو الاضطراب الذي استحوذ عليّ وهيمن على حياتي، وحجب نور شمسي، وجعلني أتحرك في الظل، أعود إلى ماضيّ وإلى حطام نفسي المتناثر.
وبالطبع عرفت أن رجل الجامعة لم يكن حقيقيا، وذلك لأني كنت صغيرة جدا. لكن بالتأكيد، لم يكن ذلك الرجل يكفي ليفسد طفولتي ويحيلها إلى رماد وسخام. لم يكن رجلا واحدا فقط.
* * *
لا يمكنني أن أتذكر، لا أستطيع أن أتذكر.
أصرخ قائلة إلى رشيد إن لا شيء واضح. وأقول له إني لا أستطيع أن أجد أجوبة، بل لا أجد سوى أسئلة. إني محبطة، إني منهكة، قلت لرشيد. قلت إن السنوات التي أريد أن أعرف عنها وأفهمها هي سنوات ملتوية، وقد لطخها، ورماها، وركلها الصمت والأكاذيب.
قلت لرشيد إن ذكرياتي أشبه بوثائق مكتب التحقيقات الفيدرالي التي يتم التعتيم عليها لأيام وشهور هنا، وسنوات هناك. قد لا أكون قد كبتها، لكني لم أطلقها، أو فكرت فيها كثيرا في السنوات الخمس، أو العشر، أو العشرين الأخيرة. كيف يمكنني الآن أن أربط الوجوه، الأيدي، والمسؤولية، بتلك اللقطات السريعة التي انفجرت في رأسي، انفجرت ثم تبخرت؟ كيف أفعل ذلك وأظل أبدو موضع ثقة؟
إن الوسيلة التي تعمل الإساءة من خلالها تكمن في التخلص من الرعب ذاته حتى أثناء حدوثه. لكن ليس الرعب فقط، بل ضحيته أيضا، آراؤها، ما تراه وما تحس به.
(أنت تعرفين أنك تريدين هذا، قولي إنك تريدين هذا، قوليها الآن، يا عاهرة، تأتين هنا وأنت بهذه الهيئة، ماذا تتوقعين، قولي إنك بحاجة إليه – أحتاجه – قولي إنك تريدينه – أريده – قولي إنك تحبينه – أحبه – قولي فرج من هذا -إنه فرجك، فرجك).
لشهور عديدة كانت تجول هذه المحادثات في رأسي، تدوس في داخله، حتى أضحت في النهاية الأصوات الوحيدة التي أسمعها، وعندما كان يحدث ذلك، عندما لا أسمع أي أصوات أخرى، كنت أرى أشياء. رحت أرى حياتي، ليس كما كانت آنئذ، بل حياتي كما كانت ذات مرّة. وأصبحت حياتي القديمة مرة أخرى فيلما سينمائيا، ولكنها أصبحت هذه المرّة مشهدا واحدا فقط يدور ويدور فوق جدران شقتي، فوق نوافذ محطة المترو، في الشوارع التي أسير فيها. وبقيت أرى نفسي التي كانت ذات مرّة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، قلت لرشيد في نهاية الأمر.
عندما أصبحت في الثالثة عشرة وحصلت على أوراق عمل، اشتغلت في سلسلة من الأعمال لوقت جزئي، وفي هذه الأعمال، في كل عمل تقريبا، كان هناك جميع هؤلاء الرجال، وكانوا أكبر سنا مني، عادة بعشر سنوات، وفي معظم الأحيان، بخمس عشرة أو عشرين سنة.
قلت لرشيد إن ذلك كان عندما بدأت الأشياء تحدث في تعاقب فظيع. وأوضحت له إنه بخلاف الكثيرين ممن نجوا وممن قرأت عنهم، كان بيتي مكانا آمنا. وكان العالم الخارجي بالنسبة لي، عالما مليئا بالعنف والخطر، ورغم أني كنت أعرف ذلك، كنت أخاطر بنفسي بكامل إرادتي، وألج جميع الشقوق والفجوات والصدوع التي تمتلئ بها مدينة نيويورك. وكنت تجدني هناك، في تلك الشقوق والصدوع.
لذلك أعتقد أنها ربما لم تكن إساءة. (ُ همس هذا الجزء همسا ) أتذكر أني كنت أحب، لا الجنس، لا اللمس، بل أن أكون مرغوبة، كان ذلك يجعلني أشعر أني ذات قيمة بشكل ما. كان ذلك يجعلني أبدو متميزة. كان يجعلني أبدو إنسانة.
إن كوني مرغوبة كان يجعلني أبدو إنسانة.
عندما قلت ذلك، أحسست أني على استعداد لوضع المسألة برمتها جانبا، أن أعترف بمسؤوليتي ، وأن أمضي قدما، لكن رشيد أخذ يجادلني. كان أول شخص يقول ذلك، أن يؤكد أن ما تعرضت له كان اعتداء وإساءة. قال:
لأنك كنت طفلة يا آشا. وهذا ما جعل الأمر إساءة. لقد كنت طفلة.
كان رشيد لطيفا عندما قال هذا، لكنه كان حازما، مقتنعا تماما بموقفه. إلا أنني لم أكن كذلك، وقلت له ذلك.
قلت له بسرعة لا يمكنني أن أذكر ذلك، لكن بعد أن نهض رشيد وذهب إلى الحمام، أغلقت عيني وحاولت أن أرى ما قال إنه يمكنه أن يرى: أنا كفتاة صغيرة. ومع ذلك لم أفلح، ليس آنئذ، وعندما عاد قلت له مرة أخرى،
لا أستطيع أن أتذكر كوني فتاة صغيرة. ففي الوقت الذي كنت فيه في الثانية عشرة كنت أشعر بأني كبيرة. أقسم بذلك. وإني لا أبالغ. فلو رأيتني في ذلك الوقت يا رشيد لفهمت. الطريقة التي كان جسمي فيها، الأشياء التي كنت أفكر فيها.
حدّق رشيد في كلماتي، قطب فيها، وكان ذلك عندما طلب مني أن أصفها بأكبر قدر من التفصيل لكي نتمكن من أن ننظر إلى تلك الفترة معا. وقال، ربما تمكنا معا من فهم تلك الأيام فهما جديدا. قال رشيد، لكني كنت خائفة جدا. تيقنت أني حكيت له كل ما تذكرته في تلك اللحظة، وسأكون إلى الأبد امرأة أخرى في عينيه، وهل سيبقى يحبني؟
سألته، هل يمكننا أن نفعل ذلك فيما بعد؟ ، لكن رشيد لم يقبل. ذّكرني أنني أنا التي قلت إنه ليس بوسعك أن تختبئ من ماضيك، من حياتك، من نفسك. وعندما ذكرني بكلماتي، رحت أقول له أشياء، ببطء. وخلال الكثير من الشهور والعديد من الزيارات، أمطت اللثام عن السنين بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة. في البداية كنت شديدة الغموض، لا أحكي سوى النذر اليسير، لكن رشيد ألح، ورويت له أخيرا في عصر ذات يوم تفاصيل دقيقة.
قلت له رغم أن الوجوه قد تكون قد تغيرت، وكذلك قد تكون الأماكن قد تغيرت أيضا، فإن هناك بعض الأشياء التي لا يطرأ عليها تغيير: الشد، والمسك، والقرص، والصفع، وكل تلك الكلمات البذيئة، وجميع تلك الأسماء السيئة، الشبق، المعاكسات. وقلت لرشيد إنه من بين جميع أولئك الرجال، برز أمامي رجل واحد. كان هناك رجل دنيء لا أكف عن التفكير فيه، إنه لا يشبه الآخرين، وحجبت الآخرين. حتى أني لا أتذكر معظم أسمائهم، أما ذلك الرجل، فقد كنت أفكر فيه مرارا وتكرارا. كان يأتي إليّ في الليل ويركلني من أحلامي. وكان يأتي إليّ في النهار، عندما أكون بين ذراعي رجل آخر. وعندما كان يأتي إليّ، كان يجعل جميع الرجال الطيبين يبدون سيئين، مخيفين، وقذرين. قلت لرشيد ذلك. أستعيد صورا من الماضي، صورا متقطعة عن ذلك الرجل، وكنت أرى دائما كوابيس عنه. وفي بعض الأحيان لم يكن يشبهه، وفي أحيان أخرى كان وجهه يبدو مختلفا، لكن لم يكن بالإمكان خداعي. كنت دائما أعرف من هو، قلت لرشيد ، ثم قلت اسم الرجل بصوت عال. قلته ورأيت الدهشة ترتسم على وجهه.
قلت إن الرجل كان صديقك يا آشا وقلت إنه كان وسيما!
قلت موضحة، كان كذلك، لم يكن صديقي لكنه كان وسيما.
وصفت لرشيد كيف كان يبدو: أسمر طويلا، رجلا من السكان الأصليين من أمة سيوكس* ذات النفوذ، أميرا غير معترف به ذا ضفيرة تتدلى أسفل ظهره، يحمل ثلاثة أحزمة سوداء، وله ضحكة سريعة وعريضة، وكان يتعاطى الكوكائين بمقدار 200 دولار في اليوم.
هكذا رأيته عندما التقينا لأول مرة.
قال لي الرجل إني أجمل فتاة رآها في حياته. قال لي الرجل إن الحب هو الشيء المهم، ليس العمر، ليس الواقع بأنه كان في الثامنة والعشرين، وأنا كنت في الرابعة عشرة. وماذا في ذلك؟ قال لي، ولا أزال أسمعه يقولها.
كان يعمل حارس أمن في إحدى صالات السينما. وكانت صديقتي تعمل في تلك الصالة أيضا، وكنت في بعض الأحيان أحل مكانها، وكنت أذهب أحيانا إلى هناك لأصطحبها. هكذا التقيت به.
حكيت لرشيد عن تلك الأمسية التي ذهبت فيها إلى قاعة السينما بعد بضعة أسابيع من لقائي به. حكيت له كيف أن الرجل قال إنه يريد أن يتحدث إليّ، وابتسمت في سريرتي. شعرت في سريرتي أني فتاة متميزة، وتبعته ونحن نهبط الدرج إلى غرفة الموظفين، ومرة أخرى همس في أذني بأن العمر لا يهم. ومرة أخرى، صدقته. أردت أن أصدقه. صدقته حتى عندما دفعني وجعلني أسند ظهري إلى إحدى الخزائن، وحتى عندما بدأ يفك أزرار بلوزتي، وحتى عندما طلبت منه أن يتمهل لكنه لم ينصت إليّ، لا في ذلك الوقت، ولا عندما، عندما قلت له مرة أخرى، تمهل! أرجوك!
قلت لرشيد: قلت له إني لم أكن مستعدة، رغم أني كنت أظن أني كنت مستعدة. إلا أن النقطة لم تكن في أني كنت مستعدة أم لا. بل كانت النقطة تتمثل في أني كنت أريد أن يحبني الرجل وأن يحترمني، وقد تعلمت طوال حياتي أنه عندما تقولين لا فإنك تحصلين على هذين الشيئين: الحب والاحترام.
قلت لرشيد كيف إن هذا القرار كان عن وعي مني، عندما قلت له أن يتمهل. تذكرت بوضوح أنه خيل إليّ أني إن طلبت منه أن يتمهل فسيفعل ذلك أولا، ثم سيعتقد أني فتاة لطيفة، فتاة مهذبة. وبعدها سيزرر بلوزتي ثانية، ويمسد شعري. وبعدها، ربما ليس في تلك الليلة، بل لعل في ليلة قادمة، سيجلب لي أزهارا، ثم سيقع في حبي، وبعدها سيبدأ وجودي في الكون كشخص ذي أهمية، شخص ضروري لأني كنت محبوبة. لست محبوبة فقط، بل محبوبة منه. هذا هو الشيء المهم، لأنه كان بالغا، كان في الثامنة والعشرين، وكان وسيما. وكنت أنا في الرابعة عشرة ومخطئة. هكذا شعرت آنئذ. في الثانية عشرة ومخطئة. في الثالثة عشرة ومخطئة. في الرابعة عشرة ومخطئة. حية ومخطئة ومخطئة ومخطئة.
كنت أريد أن أضع نفسي في مكانتها الصحيحة لمرة واحدة فقط، فقط في تلك المرّة، أمامه. كان وسيما، وكنت أنا مخطئة. هذا ما كنت أفكر فيه في الوقت نفسه، في اللحظة ذاتها، ولهذا رحت أقول له، مهلا، فأنا لست مستعدة. قلتها له، ثم حضّرت نفسي لأن ُأحب، وأُداعب وأُحترم.
لكن ذلك لم يحدث. لم يقل لي الرجل إنه يحبني. لم يقل سوى أني فتاة مثيرة جنسيا، قحبة قبيحة، مجرد فرج. صفعني على وجهي، ثم خبط الخزانة التي كنت أستند إليها، فتمايلت إلى الوراء ثم إلى الأمام، وأصابتني في رأسي، واندفع الألم في سائر جسدي، كبّلني، لم أعد أتنشق الهواء، وللحظة لم أعد أرى، لكني عدت ورأيت. لقد عاد إليّ بصري.
وكان أول شيء أراه بعد الظلمة التي غشيت عيني هو أن الرجل كان يرفع قبضته ثانية، ولم أعرف إن كان سيضربني أو سيضرب الخزانة، لكن بأي حال، عرفت أني الخاسرة، وكان ذلك عندما أزحت رأسي ورحت أجري. توجهت صوب الدرج والتوى حذائي، وكاد ينزلق خارج قدمي، لكنه بقي في قدمي، ورحت أجري وأنا أهبط الدرج، وخرجت إلى الجادة الثامنة والرجل ورائي يصيح، أيتها الفرج المقرف، أتظنين نفسك جميلة، أيتها الدميمة!! وفي هذه الأثناء وصلت سيارة أجرة، اندفعت نحوها واستقليتها، وانطلقت مسرعة. لكني قلت لرشيد إن هذا ليس الجزء القبيح من القصة.
ولم يحصل الجزء البشع من القصة إلا بعد أسابيع وأسابيع، وكان الوقت صيفا عندما صادفت الرجل نفسه في حديقة سنترال بارك. كان وحده، وكنت وحدي. ولم نكن قد رأينا بعضنا منذ تلك الليلة في قاعة السينما، لكنه عندما حياني، ابتسم ولم يذكر العنف الذي حصل بيننا. قال لي إني أبدو جميلة وإنه يود أن يجلس معي. سألني إن كنت أرغب في الجلوس معه؟ وسألني إن كنت أرغب في أن أدخن معه لفافة من الحشيش .
والآن، اليوم، بدأت أعرف نفسي جيدا، وبدأت أفهم أن هناك جزءًا مني يريد دائما أن يحول القبيح بطريقة ما إلى جميل. وهذا أحد الأسباب الذي جعلني أكتب، وجعلني أحب الفنون، بكل ضروبها. لكني لم أعرف آنئذ، في عصر ذلك اليوم الصيفي، بأن السبب الذي جعلني أذهب معه هو لكي أخلق ذاكرة جديدة، ذاكرة يمكنني أن أستمتع بها، ذاكرة يمكنها أن تشد من أزري. في عصر ذلك اليوم الصيفي، ما عرفته هو أني كنت أشعر وكأني منومة مغنطيسيا ومفتونة بكل شيء، الحرارة الناعمة على بشرتي، وسامته، والواقع بأنه لا يزال يريدني، واللحظات الجميلة التي يمكننا أن نخلقها معا.
كنت أنا. أنا التي قلتها. قلتها بكامل إرادتي، قلت له نعم، لنذهب. وسرنا إلى مكان بعيد في الحديقة، وجلسنا ودخّنا، ومن بعيد سمعنا صوت موسيقى ينطلق من مذياع، وأخذنا نتحرك على أنغام الموسيقى، وذراعه مرخية فوق كتفي، وراح يقول لي كم أنا جميلة، وبدأت أحسها بطريقة ما، أعني جميلة، ، ولفترة من الوقت لم يعد العالم بأكمله أكثر مني والموسيقى والهواء الصيفي، وكان جسدانا قريبين، دافئين وناعمين. وكان العالم كله هو الشمس، التي تغادر السماء بكل هذه النعمة والكرامة، والقمر، الذي كان كبيرا وذهبيا، وذراع الرجل حول كتفي، يلفني.
ولكن وفجأة أحسست بوزنه، وزنه يقهر جسدي، وفجأة أصبح هذا العالم. ثم بدأت الموسيقى تتلاشى وأخذ القمر يختفي، وحتى فصل الصيف بدأ يختفي، وبالطبع بدأت أختفي أنا أيضا. أختفي. لن تكون المرّة الأخيرة. ولم تكن المرة الأولى.
بعد أن ذهبت معه، لم يتبق مني سوى الجسد الذي لم يعد جسدي، الجسد الذي أخذ الرجل يغمره بقبلاته. كان يقبّله بعنف وغضب شديدين، وكان في واقع الأمر يعض شفتي العليا التي كانت ذات مرة شفتي. لكن الجسد الذي كان جسدي ذات مرّة لم يصرخ أو يتلوى. لم يتحرك، بل بقى هامدا إلى أن أخذ الرجل يربت على باطن أحد فخذي يعلمني أنه حان الوقت كي أفتح ساقي له، وأفتح له الجسد الذي كان يوجد ذات مرّة، الجسد الذي لم يعد جسدي، وتباعد الساقان على أي حال، واستلقى الرجل بينهما.
فك الرجل بنطاله وحاول أن يندفع في الجسد الذي كان جسدي، لكنه وجد صعوبة، إذ كانت هذه الملابس كلها تحول دون ذلك، وكان ذلك عندما أسقط ذراعه على وجه جسدي السابق. كانت يده فوق عيني ذلك الجسد، مرفقه ينخز في أذنه. توازن فوقي. وقال، إنه سيضاجعني حتى لا يتبقى فيّ نفس.
ومهما كان الوقت الذي أمضاه فوقي، في الجسد الذي كان، والذي لم يعد جسدي، كان ذلك بالفعل ما كان يحاول أن يفعله. وهذا ما حققه تقريبا، إذ قضى على الحياة التي كانت تمور في جسدي في تلك الليلة الصيفية، وراء الأجمات اليابسة، فوق العشب الميت. وعندما افترقنا تلك الليلة، لم تكن هناك كلمة وداع، لم تكن هناك كلمة سأخابرك، لم تكن هناك كلمة سأراك قريبا. وعندما افترقنا في تلك الليلة، أدركت أني لن أراه ثانية.
ولن أدعو هذا اغتصابا أو اعتداء لأني ذهبت معه بإرادتي، انتشيت معه برغبتي، ولم أصرخ، ولا مرة واحدة. لكني تعلمت أشياء كثيرة منه، منذ ذلك الوقت. قلت لرشيد، أصبحت أراها الآن.
تعلمت كيف أن قول “لا” يمكن أن يوصلك إلى الضرب. تعلمت كيف أن عمري لا يهم لأن لا شيء عن حياتي يهم. تعلمت كيف يمكنني أن أتخلى فقط عن جسدي إذا أصبحت الأشياء قبيحة، وبأنه يمكن لجسدي أن يتصرف من تلقاء نفسه، وأنا جالسة على الأسقف، فوق قطع من السماء، وأراقب الشيء المقرف كله.
النادلون، العاملون في الحانات، تجار المخدرات، الموسيقيون، كبار الطهاة، الممثلون، الطلاب، المرشدون الاجتماعيون، المديرون، لا يعود يوجد فرق بينهم عندما ينتهي يوم العمل، وتنفك ربطات العنق. ومن بين الدروس الأخرى التي تعلمتها، كان أهم درس تعلمته هو كيف تكون مراهقا في مدينة نيويورك في الثمانينات.
* * *
اكتشفت أن المحاولة التي بذلتها لكي ألملم جراحي وأشفى مما حدث، لم تكن عملية ثابتة ومستمرة، ولا بشطحة من الخيال. فرغم كل الشموع التي أشعلتها، شموع محددة لكل يوم من أيام الأسبوع، ورغم التأملات في الصباحات الباكرة، وما كتبته في يومياتي، والصلوات، وتمارين الشفاء التي استقيتها من أحد الكتب الثلاثين أو يقارب عن الاعتداء الجنسي على الأطفال التي كنت قد اشتريتها، لم تسر الأمور في خط مستقيم متوقع من فظيع إلى سيئ إلى حسن إلى جيد.
فقد كان من الممكن أن أستيقظ في الصباح وأشعر بالأمل يغمرني، يملأ نفسي بأشعة الشمس المبكرة، وعند العصر كان من الممكن أن أتساءل ما هي أسرع وسيلة لأتخلص فيها من حياتي. كان هناك العديد من الدوافع المحتملة لليأس المطلق: خبر عن طفل اعتدي عليه جنسيا، رجل في الشارع قال لي شيئا بذيئا، صديق يلمس ساقي بطريقة تبدو مألوفة وقديمة وفظيعة. كان أحد أجزاء المشكلة يكمن في أسلوبي في الشفاء. لم أكن أعرف ذلك في ذلك الحين.
كنت على الدوام برمة ومتأففة ومتذمرة، منذ أن كنت فتاة صغيرة، طفلة سرعان ما تلقي بلعبة وتأخذ أخرى، تجري من زاوية في الغرفة إلى زاوية أخرى. وعندما كبرت، أصبح يعرف عني أني أغفل الجزء الأكثر أهمية في كتيب الإرشادات، أو أحاول أن أحمل أشياء عديدة في وقت واحد. ثم أضطر إلى إسقاط شيء أو شيئين، فينكسر في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى لا ينكسر، لكني كنت دائما أسبب اضطرابا وفوضى.
والشيء الذي كنت أفعله عندما بدأت أتماثل للشفاء هو أني كنت أقفز إلى نهاية الكتاب الذي أقرأه حيث توجد كل هذه الشهادات عن النساء اللاتي تمكن من تجاوز محنتهن. وفي البداية كنت أهمل الأجزاء التي تقدم تعاريف عن الاعتداء والإساءة، والخطوات التي يجب أن أتخذها، وبدلا من ذلك رحت استوعب أكثر القصص إيلاما عن نساء ُشطرن من أعماقهن على يد آباء، أو أزواج أمهات، أو أعمام، أو أخوة، وقضين طفولتهن وهن يتنقلن بين غرف الطوارئ والمرشدين الاجتماعيين.
لم أر قصة واحدة من القصص التي قرأتها تشبه قصتي. وهذا ما ساعدني على أن أؤكد في عقلي أني كاذبة، دجالة. فالشهادات الثماني أو التسع التي قرأتها وأعدت قراءتها، أصبحت لفترة من الوقت التعاريف الوحيدة التي قبلتها عن الاعتداء الجنسي. وكانت شهادات عن السفاح أو عن مغتصب عازب: عم، صديق عائلة، يعتدي على طفلة مرارا وتكرارا. أما قصتي فلم تكن تقع ضمن هذه الفئة. ففي قصتي شخصيات كثيرة، تضم العديد من الرجال، والذين كانوا بصورة عامة، يتركوني وشأني بعد أن كانوا يفعلونها أول مرة.
بصورة عامة.
وكان ثمة شيء آخر. فقد كان لدي أبوان طيبان، محبان. أبوان قدما كل شيء كان بوسعهما أن يقدماه إليّ وإلى أختي. والمرة الوحيدة التي ذهبت فيها إلى المستشفى كانت عندما ابتلعت أشياء وعلقت في حنجرتي، وعندما رحت أفكر بذلك، كيف ذهبت إلى المستشفى، قلت لا بد أني كنت دجالة ومحتالة. وفكرة أن أكون، فوق كل شيء آخر، كذابة كانت أيضا تفوق طاقتي على التحمل، ودفعتني إلى العالم بحثا عن الدم.
أحسست أنه يجب عليّ أن أعثر على أثر واضح من الدم، وإن لم أعثر عليه، فعلى الأقل أن أعثر على جرح بشع، كدمة مشوهة منتفخة، بثرة جرح، أي شئ. أي شئ. لكن ذلك لم يحدث أبدا. لم أجده، وأعرف أني أكتب ذلك كله الآن، لأني متأكدة أنه توجد هناك نساء أخريات في العالم يبحثن عن نقطة دم، كما كنت أبحث عنها، ولم يعثرن عليها كما لم أعثر عليها أنا، لكن يجب أن يعرفن أنهن لسن محتالات أو دجالات. وأنا لم أكن محتالة ولا دجالة.
كنت صبية بدأت ذكرياتها تتدفق في وقت أخذت فيه مصطلحات مثل متلازمة الذاكرة الزائفة تلقى هنا وهناك، عندما وجه اتهام إلى المعالجين النفسانيين بأنهم يزرعون الأفكار في رؤوس مرضاهم، وأنها كانت وراء ظاهرة انتشار وباء الاعتداءات الجنسية في مجتمعنا. وسيمضي وقت طويل قبل أن تصبح لدي القوة التي تمكنني من الدفاع عن نفسي إزاء هذه المشاعر.
بل وسيمضي وقت أطول قبل أن أتعلم كيف أن أعمال سيجموند فرويد الأصلية وثقّت موضوع الاعتداءات الجنسية في حياة مريضاته. تعلمت أنه كان هناك ردّ فعل اجتماعي عنيف عندما خرج بنتائجه. تعلمت أنه إذا كان على المجتمع أن يصدق نساءه، فما هي النتائج التي سيخرج بها عن رجاله، الرجال الذين يديرون الحكومة والمصارف والشركات التجارية؟ وتعلمت أن فرويد تراجع عن نتائجه. لكني لم أكن أعرف شيئا عن كل ذلك في تلك الليالي عندما كنت أقفل على نفسي الباب في غرفة نومي، وأرتعش، وتصطك أسناني، ويتفصد العرق مني، ويسيل المخاط على وجهي، وأنسى أن أتنفس وأحاول أن أقنع نفسي أن هناك سببا يجعلني أن أعيش. حتى لو لم أتذكره في ذلك الحين. فلقد كان هناك سبب.
لا، في ذلك الوقت، لم أقرأ شيئا عن أعمال فرويد، بل كنت أقرأ كتبا كتبها نابكوف: قرأت رواية لوليتا، ورأيت نفسي هناك، أقرفص بين الصفحات، فتاة شريرة، مهووسة، شاذة.
وبالطبع كان ثمة منطق بسيط لكل هذا: فإذا لمت نفسي على كل شيء، كما فعلت طوال حياتي، فمن الممكن أن أنتقم من نفسي. لقد ذهب الرجال، لكني لا أزال هنا، ويمكنني أن أهاجم نفسي كما كنت أفعل دائما. أعرف كيف أدمر ذاتي، بالمخدرات والكحول، بالجرعات الزائدة، بالعلاقات غير المتكافئة والمسيئة، بالطعام. يمكنني أن أحول أي شئ إلى سلاح. يمكنني أن أستخدم أيّ شئ ضد نفسي. كان ثمة إشباع للرغبة في ذلك. لقد استغرقت وقتا طويلا لكي أتغير، استغرقت فترة أطول مما أمضتها جميع صديقاتي اللاتي كن يصلن إلى النشوة بسبب المخدر وكن يفعلن أشياء غبية وخطرة في سن المراهقة. أشياء فعلتها وأنا في العشرينات من عمري. وكان من الممكن أن أستمر في عملها لو لم ألتق برشيد، ونتعلق ببعضنا.
عندما توطدت علاقتي برشيد، كنت لا أزال أشرب الكحول رغم أنه كان يسبب لي الغثيان والمرض. فزجاجة بيرة واحدة كانت تجعلني أشعر بالإغماء. وكنت لا أزال أدخن سكائر ولفافات الحشيش رغم أني كنت أكره الشعور بالنشوة وكنت أشعر بألم دائم في حنجرتي. وكانت لا تزال لدي صداقات متنوعة.
ولم أكن أعتبر رشيد معجزة. فقد كان زوجي رجل، من لحم ودم، ويخطئ كأيّ شخص آخر مثلنا. أما رشيد فكان يريد قراءة الكتب، وكان رشيد يرغب في كظم غيظه عندما أجعله يستشيط غضبا. وكان، أكثر من أي شخص آخر، يقف في خط النار، لكنه لم يتزحزح. وكانت هناك أوقات عرفت أنه لم يكن يرغب في أن يبتعد عني. ولم يكن يريد أن يعترف بذلك، لكني كنت أعرف ذلك. وهذا هو الشيء الذي خدم فيه السجن علاقتنا حقا، فقد أرغمنا على أن ننفصل عن بعضنا، ربما كان ذلك شيئا جيدا، خلال ذلك الوقت. ورغم أني أكره أن أقولها، لكن الافتراق ربما أنقذنا. إذ لا يمكن لأحد أن يعيش في نوبات من ذلك النوع من التوتر والغضب لمدة طويلة، وعندما كانت الأمور تصبح فظيعة بيننا، ينقطع خط الهاتف، أو تنتهي الزيارة، وينسحب كلّ منا ويعود هو إلى زاويته. وأتسلل أنا إلى زاويتي.
وكان ثمة شيء آخر. فلم يكن بوسعي أنا ورشيد أن نمارس الجنس. إذ لم نكن قد تزوجنا بعد في ذلك الوقت، مما يعني أنه لم يكن باستطاعتنا أن نجري زيارات زوجية. وبشكل مؤلم كما بدا آنذاك، – كنا نسترسل في الحديث عن حاجتنا لأن نكون معا – وفي الواقع لم أكن بحاجة إلى إقامة علاقة جسدية مع أي شخص، والحقيقة هي أنني لم أكن مستعدة عاطفيا للقيام بذلك.
ولم يكن هناك أشياء كثيرة تصرف اهتمامنا عن المسألة التي بين أيدينا، وعندما كنت أبدأ أتحلل من مخاوفي كلها، وكوابيسي، وعدم الشعور بالأمان، كان رشيد يكرر قائلا:
كنت طفلة يا آشا .
لم أكن أشعر أني كنت طفلة لذلك هل كنت حقا طفلة؟
ماذا لو كانت ابنتك؟
(لا تقل لي ذلك. لا أريدك أن تقول لي ذلك)
ماذا لو كنت أنت ابنة نفسك؟
(أرجوك كفى )
تخيلي ذلك.
(لا)
مرة واحدة فقط.
(لا أستطيع! )
أرجوك!
وبعد أن دفعني لما بدا للمرة الألف، حاولت. غطيت وجهي بيدي، وحاولت أن أستحضر الصورة بأنني أنا ابنتي، فتاة صغيرة، مراهقة. حاولت ذلك ثانية وبعدها مرة ثالثة ثم رابعة، وخامسة، وأخيرا، تحركت أخيرا الصورة التي أراها من خلال عدسة مغبشة. وكنت إن رمشت عيني، كانت تختفي. تختفي. عرفت ذلك ولذلك رحت أركز، وفيما كنت أفعل ذلك، بدأ شيء في داخلي يتحرك.
عندما قرأت كتابا ورد في أحد مقاطعه: ماذا لو رجعت إلى البيت في إحدى الليالي ووجدت أن كل شيء قد نهب، وفقدت بعض الأشياء، وكسر بعضها الآخر ؟ ماذا لو كانت النافذة مهشمة ، والباب محطما؟ ستعرفين عندئذ أنك سرقت، حتى لو لم يكن هناك لص في ذلك الوقت، في الجوار. أخيرا بدأت أفهم كيف أنه كان اعتداء. حتى بدون أثر للدم، كان ثمة دليل، والدليل هو أنا، بيتي، دروج خزانتي التي استخدم العنف في فتحها وتم العبث في محتوياتها، وبعثرت على أرضه في كل مكان شظايا الزجاج والمسامير الصدأة. بيتي الذي فقدت منه أشياؤه الثمينة.
وعندما كان بوسعي أن أرى هذا، عرفت أن ذلك لم يكن مجرد الشعور بالقلق الذي ينتاب المراهقة الذي يستبد بها شعور بالذنب، لم يكن سن البلوغ هو الذي داهم بيتي وجعلني افقد عقلي: فقد كان الضرر كذلك شديدا ومدمرا، وكاملا. ولأنه كان كذلك، لن تكون هناك قصة حياة كالتي كان أبوايّ يحلمان لي بها وبذلا كل ما بوسعهما لتحقيق ذلك. ومهما كان، لم يكن بوسعي أن أغيّر تاريخي أو أنساه أو أخدّره أو أحلله أو حتى أحبه، وأفضل ما يمكن أن أفعله، هو أن أعيد بناءه. وهذا ما جعلني أغرق في الحزن لفترة من الوقت.
لفترة من الوقت كل ما كنت أفكر فيه هو كيف كانت ستبدو آشا غير آشا المنتهكة حرمتها؟ وقد جعل ذلك السؤال حركاتي، ونفسي، وبصري تتعثر وتتلعثم. هل كنت سأحصل على الشهادة الجامعية في أربع سنوات بدلا من أربع عشرة سنة؟ هل كنت سأبتعد عن المخدرات؟ هل كان سيكون بمقدوري قيادة سيارة؟ هل كان بمقدوري أن أحب جسدي؟ هل كنت سأستطيع أن أقول لا للطعام، للمخدرات، للكحول، للرجال السيئين، وسنوات الهستيريا والكآبة كلها؟ هل كان سينتابني الشعور الدائم والمحطم بأنني كنت قذرة، عاهرة، كلبة جبانة، شريرة ، سيئة، مكروهة؟
طرحت هذه الأسئلة على إحدى صديقاتي عصر أحد الأيام. وكانت هي أيضا إحدى اللاتي تجاوزن هذه المحنة، وكنا نتناول طعام الغداء في مطعم تايلاندي في بروكلن. كنت أهمس وأبكي، وكانت هي تمسك بيدي، وقد انحنت على الطاولة الصغيرة، من فوق الطعام، ووجهها لا يبتعد عن وجهي سوى بضع سنتمترات، وقالت لي إني لست كاذبة، أو مجنونة أو مخطئة أو محطمة. قالت لي أيضا إني لست كاملة. وقالت لكن يمكنني أن أصمد. وقالت يمكنني أن أمشي. يمكنني أن أكتب ويمكنني أن أقول الحق.
وقالت يمكنني أن أفهم أنه في النهاية لن تحددني تجاربي. بل ما سيحددني هو اختياري ماذا أفعل إزاء تجاربي، إن كنت منفتحة ومستعدة، وعنيدة وصادقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى