ما أقرب دمشق وما أبعدها
خيري منصور
بعيدة دمشق، قريبة دمشق، من يوقف النزيف في ذاكرة المحكوم بالإعدام قبل الشّنق؟
هذه الكلمات قالها الراحل البياتي وهو يقرأ تحولات الصوفي ابن عربي الذي يرقد في دمشق تحت سماء مرصعة بالدموع، نتذكرها الآن، فيما يتعالى السجال السياسي حول قمة الشام التي تبدو أعلى من إفرست وأكثر انخفاضاً من البحر الميت.
تعقد هذه القمة إذا قيّض لها أن تعقد في ظرف قومي عصيب، أصبح العرب فيه أعراباً يقضمون أصابع بعضهم بعضا، وهم قاب حربين أهليتين أو أدنى، ولهم عدو يتلمظ وهو يعلك لحم أطفالهم، ويهمس في أعماقه بأنه محظوظ بهم، لأنهم ينوبون عنه في قتل أنفسهم.
واشنطن هي المغناطيس الذي تنجذب إليه برادة الحديد، وهي التي أصبحت تقرر المكان الذي تشرق منه الشمس أو تغرب فيه، لأنها بما تتوهم من الوصاية تحيل شعوباً بأسرها إلى رهائن، وتتحول نظم سياسية مشغوفة بالثرثرة عن السيادة إلى أجراس مقلوعة الألسنة، فلا رنين إلا لفوهات البنادق وهي ترتطم ببعضها بعضاً، ولا حرية إلا في اختيار درجة الانحناء ومنسوب الخضوع.
إن فقدن الحول والقوة لا يكفي لتبرير هذا الامتثال، فالضحية خرساء وعليها أن تتحالف مع جلادها لتكون الجريمة كاملة وبلا أي شهود.
إنها قمة لا تشبه سابقاتها، وقد تدشن جنازة قومية للاحقاتها إذا استمر الحال على ما هو عليه، وتغلبت الحسابات الصغرى على الرقم الأصعب في معادلة الوجود والعدم والبقاء على قيد التاريخ أو الانقراض بمختلف صوره.
أمام العرب الآن فرصة قد تكون الأخيرة بعدة مقاييس لرصد ما تبقى فيهم من مناعة بعد أن استشرى الوباء، وأصبح التذرر مرحلة لاحقة للتشظي والانقسام الأميبي.
ولا ينجو أحد من هذا الطوفان، حتى لو حلم ببناء سد مأرب أو سور الصين، لأن الدولة الصهيونية لا تفرق بين عربي وآخر إلا بمقدار المدى الذي تبلغه يدها ومخالبها، لكن استشعار الخطر عن بعد بحاجة إلى ما هو أبعد وأدق من قرون الاستشعار التي تدافع بها أصغر الكائنات والحشرات عن وجودها.
وقد تبدو مصطلحات من طراز الأمن القومي واستراتيجية الدفاع، والذود عن الذات مجرد حجارة غير كريمة في قلادة لا تعثر على صدر كي تعلق عليه.
ولا نحتاج إلى تفصيل المشهد، أو لكي تتنقل عين الكاميرا من بغداد إلى بيروت وغزة، فالبانوراما حمراء ولم تعد حتى القبور محصنة ضد اعادة القتل.
ما من قمة كهذه تختبر منسوب الجدية أو الاستخفاف في حياتنا السياسية، لأنها تتزامن مع خريف قومي استطال وقضم الربيع منذ بواكيره.
بعيدة دمشق، قريبة دمشق، وذاكرة المحكومين بالشنق تواصل النزيف، ومن علقوا الرجاء الأخير على أولي الأمر، فاتهم أن الزجر والقهر والفقر وسائر محاصيل الشقاء هي الموسم المزمن منذ تحول الافراط في الخوف إلى تفريط، ومنذ أسلم البحارة أشرعتهم وحمولاتهم للقرصان.
في خاتمة المطاف، المتضررون من هذا السجال العقيم ملايين العرب الذين يملكون ما يحسدهم عليه العالم لكنهم يبيتون على الطوى، ويظمأون رغم أن الماء على ظهورهم محمول.
إن فلسفة تبديد الفرص لاستدراك ما تبقى أصبحت مقررة بقوة التكرار، وقد يكتشف العرب ذات صحوة أنهم أضاعوا اللبن لا في الصيف فقط بل في كل الفصول.
خيري منصور
