غارة البوكمال ومفهوم الحدود
حسان حيدر
قصة الحدود ليست جديدة بين دمشق وواشنطن. بل هي في جوهر الخلاف بينهما منذ أن بدأ الافتراق مع وصول جورج بوش وبشار الاسد الى الحكم قبل ثماني سنوات. ففلسفة نظام «البعث» الحاكم في سورية تقوم على رفض فكرة «الحدود» بين الاقطار العربية بل تبرر العمل من اجل محوها، وفي معظم الاحيان على حساب الداخل. ولذلك كانت ملفات لبنان وفلسطين والعراق وسواها في صلب سياسة هذا النظام ومواقفه وتدخلاته، فيما رسم النظام الاميركي المحافظ ادواراً لدول المنطقة لا تتجاوز اطارها الجغرافي وعمل جاهداً من أجل تطبيقها، ولذلك دعا سورية مراراً الى التخلي عن طموحها العابر للحدود والتفرغ لأوضاعها الداخلية.
قد لا تكون الغارة الاميركية على البوكمال هي الاولى من نوعها داخل الاراضي السورية، لكنها بالتأكيد الأولى التي تثير ضجيجاً وردوداً سورية متدرجة بدأت بتصعيد ديبلوماسي وتطورت الى إغلاق مؤسستين اميركيتين في دمشق، ولن تنتهي على الارجح بتنظيم تظاهرات احتجاج في سائر المدن السورية.
لكن لماذا هذا التصعيد مع الاميركيين في وقت تكثر فيه الامثلة على «غض طرف» سوري عن انتهاكات مماثلة، حتى ليبدو مفهوم «السيادة» عشوائياً عندما نسترجع في الذاكرة انه لم يشكل يوماً عائقاً امام تقديم تنازلات إذا تعلق الأمر بأمن النظام.
ففي 1998 حشد الاتراك بضع فرق من جيشهم قبالة الحدود مع سورية بعدما زاد النشاط العسكري للزعيم الكردي الانفصالي عبدالله اوجلان المقيم في سورية عن حده وبات مصدر إزعاج وقلق. وكان ان رضخت دمشق للتهديد وابعدت اوجلان في مسرحية افضت الى اعتقاله. وما لبثت العلاقات السورية – التركية أن دخلت «شهر عسل» لا يزال ممتدا الى الآن.
وفي العام الماضي، أغارت طائرات اسرائيلية على «المفاعل» السوري المزعوم فدمرته وخلفت خسائر في الارواح. وقالت دمشق ان الموقع منشأة عسكرية عادية، لكنها رغم ذلك لم ترد بعمل عسكري عبر الحدود، ولم توقف المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل برعاية انقرة.
وجاء اغتيال القيادي في «حزب الله» عماد مغنية في دمشق واتهام «الموساد» بالمسؤولية عنه، ثم اغتيال ضابط سوري رفيع في طرطوس وتوجيه اصابع الاتهام الى الجهة نفسها، ورغم ذلك لم ترد سورية بأي اجراء عسكري او سياسي.
الفارق بين هذه الحالات والغارة الاميركية هو انه كان يمكن لأي رد على تركيا، وهي مشكلة لم تعد مطروحة اليوم، او على اسرائيل، وهي حالة قائمة ومستمرة، ان يهدد النظام السوري نفسه، لأن الجيش التركي كان جادا في تحذيره، ولأن الجيش الاسرائيلي موجود على هضبة الجولان ودمشق في مرمى مدافعه، وثمة خلل كبير في التوازن العسكري بين الجانبين.
أما الاميركيون الذين لم يعترفوا حتى بالغارة لأنهم يعتبرونها «تفصيلا ميدانيا»، فلا يشكلون تهديداً فعلياً وليس في نيتهم مهاجمة سورية، بل هم، على حد تعبير وزير الخارجية السوري وليد المعلم، «مشغولون بحروب اخرى هي الأزمة الاقتصادية وأزمة الجوع وانتشار الإرهاب، وهي أمور كافية بالنسبة الى اميركا»، ولذا فإن الرد عليهم مبرر، طالما انه لن يفضي الى مواجهة فعلية.
وثمة نقطة ثانية مهمة، وهي ان دمشق التي أرسلت قبل ايام فقط سفيراً الى بغداد للمرة الاولى منذ ثلاثين عاما، لا تريد ان تترك «ساحة» العراق لإيران وحدها، بحيث تبدو طهران المعارضة علناً وبشدة للاتفاق الامني بين الولايات المتحدة والعراق، كأنها وحدها المؤهلة للتحاور مع الاميركيين في هذا الخصوص. ولذا فإن إبقاء الملف السوري «ساخنا» قدر الامكان قد يتيح حواراً ما مع الادارة الجديدة في البيت الابيض.
الحياة